كتابات في تاريخ منطقة الشمال: «شمال المغرب من خلال مصادر برتغالية»

لا يمكن الحديث عن تطور العلاقات التاريخية بين المغرب والبرتغال عند مطلع العصر الحديث، بدون الإحالة المستمرة على رصيد أعمال الأستاذ أحمد بوشرب. ولا يمكن فهم منعرجات هذه العلاقات وطبيعة الرؤى المتبادلة بين المغاربة والبرتغاليين بدون العودة المتجددة للتأمل في رصيد منجز المؤرخ بوشرب، تجميعا للوثائق الغميسة، وتصنيفا للبيبليوغرافيات المرجعية البرتغالية والعربية الإسلامية، وانفتاحا على نتائج أرقى الأعمال الأكاديمية ذات الصلة بهذا الموضوع، والمنجزة –بشكل خاص- بالمراكز الجامعية لكل من دولتي المغرب والبرتغال. لقد استطاع الأستاذ بوشرب اكتساب عناصر الريادة في مجاله المخصوص، وعزز ذلك بانفتاحه الواسع على المصادر الأصلية لمجال الدراسة، إلى جانب الإتقان الكبير للغة البرتغالية، مما أتاح له إمكانية التعامل المباشر مع متون المظان الإسطوغرافية بدون وساطة المترجمين والناقلين والمقتبسين. فكانت النتيجة، صدور سلسلة من الأعمال القطاعية المسترسلة، ذات قوة إجرائية محترمة في تفكيك الوثائق والمصادر والمحكيات، وبعمق معرفي أمكن من خلال تقديم رؤى تنظيرية لتحولات العلاقات المغربية البرتغالية في علاقاتها بأوضاع الضفة الغربية للبحر الأبيض المتوسط خلال العصر الحديث. وعلى رأس هذه الأعمال، يمكن أن نستشهد بكتاب «دكالة والاستعمار البرتغالي إلى سنة إخلاء آسفي وأزمور» (1984)، وكتاب «مغاربة في البرتغال خلال القرن السادس عشر» (1996)، وكتاب «وثائق ودراسات عن الغزو البرتغالي ونتائجه» (1997)، وكتاب «حوليات أصيلا- مملكة فاس من خلال شهادة برتغالي» لبرناردو رودريكش (2007)، وكتاب «مغاربة أمام محكمة التفتيش البرتغالية- الهوية والثقافة والمعتقد» (2013).
وتعزيزا لهذا المسار الأكاديمي الفريد والمتميز، أصدر الأستاذ بوشرب كتاب «شمال المغرب من خلال مصادر برتغالية (1415- 1490)»، وذلك سنة 2016، في ما مجموعه 408 من الصفحات ذات الحجم الكبير. ويمكن القول عموما، إن الكتاب يستجيب لمحددات الأفق العلمي المؤطر للأعمال المذكورة أعلاه، وهي المعالم التي بلورها الأستاذ بوشرب بآليات متعددة، صقلتها تجربته الجامعية وحضوره الراقي داخل منتديات أكاديمية رفيعة داخل المغرب وخارجه. وقد اعتمد في هذا العمل على ترجمة نصوص برتغالية لاثنين من أبرز إخباريي البرتغال خلال المرحلة المدروسة، ويتعلق الأمر بكل من كومش يانش دو زورارا وري دوبينا، اللذين وضعا تآليفهما بأمر من الملك البرتغالي، تمجيدا لملوكهم ولخدام دولتهم. وتحتوي هذه النصوص على الكثير من التفاصيل والجزئيات الخاصة بالواقع المغربي لمطلع العصر الحديث، وتحديدا، بالقسم الغربي لمنطقة الشمال ولمراكزه الحضرية الكبرى مثل سبتة والقصر الصغير وأصيلا وطنجة والقصر الكبير، إلى جانب المراكز القروية العديدة المتناثرة داخل أحضان منطقة جبالة، والتي كانت لها إسهامات كبيرة في الحركة الجهادية المغربية التي استهدفت رد الغزو الإيبيري الذي ضرب بلادنا خلال القرنين 15 و16 الميلاديين. وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال بخصوص القيمة التوثيقية لمثل متون موضوع هذه الترجمة، وخاصة بالنسبة لانزياحاتها الكبرى نحو تمجيد الأسطورة البرتغالية في مقابل تقديم صورة عكسية –تماما- عن الواقع المغربي، فالمؤكد أن قيمتها الوصفية تظل قائمة بالنظر لاهتمامها بالتوثيق للكثير من الجزئيات التي لم تكن تلتفت لها الإسطوغرافيات العربية الإسلامية للمرحلة المعنية، لاعتبارات متعددة، أهمها تلك المرتبطة بطبيعة صنعة كتابة التاريخ ولوظائفها ولموادها الارتكازية في البحث وفي التجميع وفي التدوين. ولعل هذا ما أكد عليه الأستاذ بوشرب في كلمته التصديرية، عندما قال: «رغم طغيان العمليات العسكرية على مستوى هذه المصادر، ورغم أن مؤلفيها جانبا الموضوعية، وحرفا الحقائق، وحولا القتل والسرقة إلى فضيلة، فقد تضمنت إشارات ضافية إلى أوضاع المغرب خلال القرن الخامس عشر، الذي لايزال مغمورا. وتعكس الفصول المذكورة واقعا مخالفا لصورة النصف الثاني من القرن الرابع عشر التي أبدع ابن خلدون في وصفها، تلك الصورة التي لايزال المؤرخون يعممونها على القرن التالي كله دون تعديل، لقلة المصادر المحلية، وضحالة محتوياتها. لقد سجل الإخباريان، بناء على ما استقياه من شهود عيان، تزايدا واضحا في أعداد السكان وتحسنا في مستوى معيشتهم لم يقتصرا على المناطق التي استهدفتها غارات حاميتي سبتة والقصر الصغير، كما سجلا انتعاشا مهما للنشاط البحري في المغرب، من قرصنة وتجارة، في مرافئ كثيرة تمتد من بادس شمالا، إلى أزمور جنوبا. وبفضل إضافات هذه المصادر، بات من الممكن رصد الدور الخطير الذي لعبه الغزو البرتغالي في وضع حد لذلك التحول، وفي تخريب الجهات التي استهدفها من جهة، والوقوف، من جهة أخرى، على مختلف تجليات اختلال ميزان القوى بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط».
وعلى أساس هذه الرؤية التشخيصية الدقيقة، نجح الأستاذ بوشرب في تقديم متن عربي سلس، لا شك وأنه يقدم إضافات نوعية لمجال دراسات تاريخ الغزو الإيبيري ببلاد المغرب خلال مطلع العصر الحديث. لم يكتف الأستاذ بوشرب بتعريب نصوص كتابه، بل تجاوز ذلك إلى تعزيز العمل بتقديم مدخل عام لتوضيح سياقات عمله، إلى جانب تضمين الكتاب بعدد هائل من الهوامش التوضيحية الدقيقة، وهي الهوامش التي شكلت تأليفا ثانيا للنصوص المترجمة، بالنظر لدقتها ولصرامتها العلمية في التعريف بالأعلام البشرية والمكانية وفي توضيح السياقات التاريخية المؤطرة لمجمل الوقائع المدرجة في الكتاب. لذلك، أصبح بالإمكان سد الكثير من البياضات التي ظلت تميز المدونات التقليدانية الخاصة بتاريخ منطقة جبالة بالشمال خلال مرحلة الاحتلال الإيبيري بالقرن 15م، ليس –فقط- على مستوى الوقائع السياسية والعسكرية الكبرى، ولكن –كذلك- على مستوى التحولات العميقة للبنى المجتمعية التي انتظمت داخلها حياة مغاربة المرحلة، بعد أن أفرزت نظما معيشية وأنساقا ذهنية ورمزية لا نجد تفاصيلها بين متون الإسطوغرافيات العربية التقليدية. وإذا أضفنا إلى كل ذلك، سلاسة لغة الأستاذ بوشرب في تعريب المضامين، أمكن القول إن العمل يشكل اختزالا لجهد كبير ولأناة استثنائية في تطويع اللغة البرتغالية الكلاسيكية وفي تيسير الاطلاع على مضامينها وعلى مصنفاتها ذات الصلة بتاريخ المغرب.
وللاقتراب من سقف هذه اللغة الانسيابية في إعادة تركيب الوقائع المترجمة، يمكن الاستدلال ببعض مما جاء في بعض مؤلفات روي دوبينا حول ظروف احتلال البرتغاليين لمدينة أصيلا سنة 1471، ففي ذلك اختزال لمجمل الخصائص العلمية لترجمة الأستاذ بوشرب حسب ما حددنا معالمه أعلاه. يقول الإخباري البرتغالي المذكور:
«الفصل 163: تجهيز الحملة على أصيلا- قرر الملك إشراك الأمير في الحملة استجابة لرغبته… غادر الأسطول لشبونة يوم خامس عشر غشت. التحق بلاكوش، حيث كانت سفن منطقة الجنوب في انتظاره. وقد بلغ مجموع سفن ذلك الأسطول أربعمائة وسبعة وسبعين شراعا نقلت ما يناهز ثلاثين ألف رجل. وبعد الصلاة والاستماع إلى خطبة ألقيت بالمناسبة، أعلن الملك عن وجهة الحملة، فانطلق الأسطول مستفيدا من رياح مساعدة، قبل أن يرسو قبالة أصيلا يوم عشرين من الشهر المذكور، قبيل الغروب. وقد تأهب السكان، الذين كانوا على علم بتحضير الملك لعبور البحر إلى بلدتهم، للدفاع عن أنفسهم.
الفصل 164: إنزال المحاربين وبداية قصف البلدة- وفي صبيحة اليوم الموالي، تدارس الملك مع مستشاريه سبل إنزال الرجال والعتاد قبل أن يأمر بتجهيز القوارب والكرافيلات الصغيرة وتسليحها استعدادا للتحكم في الشاطئ في نظام. ورغم أن الميناء كان غير آمن لعنف الأمواج التي كانت تتحطم بصخور كانت في مدخله، فقد أمر الملك بالإسراع بالتحكم في اليابسة…
الفصل 165: اقتحام أصيلا ومقتل نبلاء- وفي صباح رابع وعشرين من الشهر المذكور، بعث دون ألفارو دو كاشترو، كوند دو مونسانتو، الذي كان مكلفا بحصار القلعة، شخصا، أخبر الملك بوجود قائد البلدة في خيمته، وبرغبته في لقائه لعرض مقترح لا شك أنه سيحظى بقبوله. لكن، وقبل أن يوافيه الملك برده، سمعت عبر البلدة أصوات تعلن سقوطها، فخرج الملك على الفور، بينما هب، دون نظام، رجال المخيم صوب السور ونصبوا فوقه سلالم وما يسمح بتسلقه واقتحموا البلدة من جميع الجهات. حاول السكان الدفاع عن أنفسهم، قبل أن يلتجئ الأعيان إلى القلعة، وتحتمي جموع غفيرة من عامة الناس بالمسجد، حيث دار قتال عنيف داخله، قتل على إثره عدد من المسيحيين… وبعد الانتهاء من معركة المسجد، قصد رجالنا القلعة التي كانت منيعة، فخاضوا فيها معركة حامية الوطيس، قادها الملك والأمير، استمرت إلى أن تمكن بعضهم من تسلق السور والوصول إلى أبراجه. ولما نزلوا إلى باحة القلعة، وجدوا رجالا عازمين على مواجهتهم، فاندلعت معركة دامية أسفرت عن عدد كبير من القتلى والجرحى من الطرفين… وانتهى اقتحام القلعة بمقتل سكانها أو أسرهم جميعا، دون استثناء. فقد بلغ عدد قتلاهم حسب بعض التقديرات ألفين، وعدد الأسرى خمسة آلاف. لقد وجد المهاجمون داخلها متاعا نفيسا قدرت قيمته بثمانين ألف دوبرة ذهبية… ولما توقفت المعارك، انتقل الملك إلى المسجد… فتم تحويله إلى كنيسة…» (ص ص. 366- 368).
وعلى هذا المنوال، ينساب السرد، ليقدم وصفا دقيقا للتفاصيل «الأخرى»، وفق ما كانت تراه أعين الغزاة من وصفات راصدة لتطور الأوضاع بعموم منطقة جبالة بشمال المغرب. ومعلوم أن القراءات التركيبية الموازية للمتن الأصلي، تقدم –إلى جانب الفهارس المرافقة والخرائط التوضيحية- عناصر مدخلية لإعادة تركيب الوقائع ولفهم سياقاتها وللكشف عن منزلقات تأويلاتها البرتغالية الموجهة.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 26/10/2022