شكلت مدينة طنجة مركز جذب متواصل لأجيال المؤرخين والكتاب والمبدعين. وأصبحت المدينة علامة فارقة في توجيه وقائع أحداث المغرب، قديما وحديثا. لذلك، اهتم المؤرخون برصد إبدالات ماضيها، وبتتبع تفاصيل واقعها، وباستلهام صور سحرها الذي صنع ذاكرتها الجماعية وهويتها الثقافية المخصوصة داخل مجالها المغربي والمتوسطي الواسع والممتد. ونتيجة لذلك، عرفت بيبليوغرافية مدينة طنجة زخما فريدا لا نجد مثيلا له بأي مدينة مغربية أخرى. كتب عنها المؤرخون والرحالة والمبدعون، وافتتن بمباهجها الفنانون، واقتفى أثرها الأفاقون الباحثون عن خطى المغامرة بين تفاصيلها. وقبل ذلك، اهتم بها كل من انشغل بالبحث في عناصر الثبات والتحول داخل نظيمة علاقة الأقاصي بالمخزن المركزي أولا، ثم داخل سياق تبلور علاقات الدولة المغربية بالقوى الأوربية التوسعية على امتداد القرون الخمسة الماضية ثانيا، وداخل مجالات التعبير عن إفرازات احتكاك المغرب العميق بقيم الحداثة التي حملتها أوربا الغازية ثالثا.
لقد قيل الشيء الكثير عن ماضي مدينة طنجة، وكُتبت حول هذا الماضي أرصدة هائلة من الأعمال التنقيبية المنجزة داخل المغرب وخارجه، ومع ذلك، ظلت طنجة كتابا مفتوحا اغتنى مع تواتر السنوات والعقود، الأمر الذي جعل من المدينة كتابا مفتوحا بصفحات محفزة على القراءات المجددة وعلى الرؤى المتقاطعة. ولن يكون بمقدورنا حصر اللوائح البيبليوغرافية لكل ما أنجز بهذا الخصوص بكل اللغات العالمية، كما لن يكون بالإمكان جرد كل مضامين الأرصدة الوثائقية الدفينة الخاصة بمدينة طنجة والموزعة عبر كل أرجاء العالم.
ظلت طنجة تكتب تاريخها باستمرار، وظل مريدوها يُغذون عناصر توهج ماضيها وانتظارات مستقبلها المنظور. وكانت لأبناء المدينة إسهامات في إعادة تقويم مضامين تاريخ طنجة وذاكرتها الجماعية، من خلال مبادرات مسترسلة، استهدفت تخليص هذه الذاكرة من انزياحات الرؤى العجائبية لكتابات الرحالة الأوربيين الذين جعلوا من المدينة قطعة من قطع عوالم «ألف ليلة وليلة» العجيبة، وكذا من تحامل الكتابات الكولونيالية لعقود القرنين 19 و20 المهووسة بأشكال تطويع المجال المغربي لضرورات الإخضاع الاستعماري. لذلك، أصبحت للمدينة ريادتها في استثمار شغف أبنائها لتحقيق التصالح الضروري مع الماضي العريق للمدينة، ليس بهدف الرد على الأطروحات الكولونيالية المتحاملة والمتهافتة، ولكن -أساسا- بهدف التأصيل العلمي لشروط كتابة تاريخ المدينة بدوافع أكاديمية خالصة، تحتفي بالمكان وبالوجوه وبالتراكمات الحضارية من منطلق علمي خالص، مثلما هو الحال مع أعمال الرواد عبد الله كنون، ومحمد الأمين البزاز، وعبد العزيز خلوق التمسماني…
في سياق هذا التوجه العام، يندرج صدور كتاب «محطات في تاريخ طنجة»، للأستاذ عبد الحفيظ حمان، سنة 2023، في ما مجموعه 183 من الصفحات ذات الحجم الكبير. والكتاب، تعزيز لمسار النهر الدافق الذي أضحى يكتب تاريخ المدينة وفق المحددات العلمية المذكورة أعلاه. وبالنسبة للأستاذ حمان، فالإصدار الجديد يُعزز حصيلة منجزه العلمي الذي طبع مسيرته مع عوالم النشر المتخصص في قضايا التاريخ المغربي المعاصر، وعلى رأسها كتاب «المغرب والثورة الفرنسية» (2002)، وكتاب «المغرب وفرنسا زمن نابليون بونابرت: قضايا ونصوص» (2017)، إلى جانب العديد من الدراسات المنشورة في مجلات علمية ومن المساهمات في ندوات جامعية داخل المغرب وخارجه.
وبخصوص الأفق العام لمضامين كتاب «محطات في تاريخ طنجة»، فقد لخصها الأستاذ عبد الحفيظ حمان بشكل دقيق في كلمته التقديمية، عندما قال: «يرجع هذا الاهتمام اللافت بمدينة طنجة في الأزمنة الحديثة، إلى عوامل كثيرة ومتعددة، نخص بالذكر منها، أن طنجة مدينة ضاربة في أعماق التاريخ، كان لها الحضور الراسخ منذ الحقبة القديمة إلى وقتنا الحاضر، إذ ساهم موقعها الاستراتيجي في أن تكون محطة اتصال وعبور وتبادل بين الحضارات، بقدر ما جعلها هذا الموقع محط أطماع وتربصات. فتعرضت عبر التاريخ لغزوات عديدة من شعوب مختلفة، مرورا بالفتح الإسلامي وانتهاءً بالاستعمار الأوربي. كل هذه الاعتبارات حركت أقلام المؤرخين الأجانب والمغاربة على حد سواء، لسبر أغوار تاريخ المدينة، والتنقيب في طبقاته، وإماطة اللثام عن كثير من جوانبه. في خضم هذه الكتابات عن تاريخ طنجة، كانت لي مساهمات في هذا المجال، شاركتُ بقسم منها في ندوات وطنية، وقسم آخر نُشر في دوريات تاريخية محكمة، وقسم ثالث أنجزته حديثا. وحتى لا تظل هذه الدراسات متفرقة ومتناثرة هنا وهناك، أردت جمعها في كتاب يؤلف بين مختلفها، ويوحد بين متفرقها، في نسق واضح، ومنهج منضبط، وتيسيرها للباحثين والمهتمين بتاريخ هذه المدينة العريقة. تخضع هذه الدراسات لنسق زمني محدد، يشمل القرن التاسع عشر والقرن العشرين، بينما تتنوع مضامينها، غير أن هذه المضامين في تنوعها، تقدم للقارئ صورة إن لم تكن شافية، فهي كافية للتعرف على كثير من المحطات والأحداث في تاريخ طنجة الحديث…» (ص ص. 3-4).
يضم كتاب «محطات في تاريخ طنجة» سبع دراسات علمية وتنقيبية في ماضي مدينة طنجة المعاصر الممتد بين القرنين 17 و20. ففي المادة الأولى، اهتم الأستاذ حمان برصد حضور طنجة في المشاريع الاستعمارية الفرنسية خلال الفترة التاريخية المشار إليها أعلاه. واهتمت المادة الثانية بتتبع مسار الطريق الذي كان يربط بين مدينتي طنجة وتطوان خلال القرن 19 وبداية القرن 20. وفي المادة الثالثة، تتبع الأستاذ حمان صورة طنجة في مرآة الكتابات الفرنسية خلال الفترة الممتدة من بداية القرن 19 إلى بداية القرن 20. وعادت المادة الرابعة لتقليب تفاصيل مشكلة الأمن بطنجة عند بداية القرن 20 من خلال الوثائق الديبلوماسية الفرنسية. وقدمت المادة الخامسة وثائق هامة حول تعليم الأطباء الإسبان للطلبة المغاربة بطنجة بين سنتي 1887 و1900 حسب ما هو محفوظ بوثائق الخزانة العامة بتطوان. وتتبع الأستاذ حمان في المادتين السادسة والسابعة الأدوار المركزية التي كانت لمدينة طنجة في تزويد المنطقة السلطانية بالسلاح خلال عهد الاستعمار، استنادا إلى استثمار هام لأرصدة الروايات الشفوية ولمضامين مذكرات المقاوم حسن العرائشي.
وفي جميع هذه المواد، حرص المؤلف على استثمار أرصدة وثائقية غميسة موزعة بين دور الأرشيفات بالمغرب وبفرنسا، إلى جانب أرصدة بيبليوغرافية جمعت بين مظان متعددة ومختلفة في لغاتها وفي آفاقها وفي وظائفها، إلى جانب تراوحها بين نزوعات وظيفية معروفة، وبين سقف علمي مرتبط بحصيلة الدرس الجامعي الوطني المشتغل على ذاكرة مدينة طنجة. وبذلك، يضيف الأستاذ حمان لبنة أخرى إلى معالم كتاب طنجة المشتهاة، مما يفتح المجال واسعا أمام توسيع البحث والتدقيق حول الكثير من الحلقات والدوائر التي رسمتها مضامين الكتاب مما يمكن أن يشكل أرضية مستقبلية مشرعة أمام أسئلة البحث والتنقيب.