يعير عابد الجابري أهمية قصوى لدور اللغة في البناء النسقي للعقل، صحيح أن بعض الدراسات الحديثة التي يصرح الجابري باستيحائه لنتائجها هي الأخرى تربط برباط متين الفكر باللغة، إلا أن اللغة العربية بالنسبة إلى العقل العربي كانت لها خصوصية؛ وتتجلى خصوصيتها في أنها محل تعظيم وتقديس من العربي، إلى حد أن اللغة العربية نفسها تحمل بين طياتها ما يؤكد هذه الخصوصية، ففي معاجم اللغة العربية؛ الذي لا ينطق بالعربية يُطلق عليه «أعجمي»، ولا تخفى تلك الصلة الجذرية بين «أعجمي» و»عجماء»، فهذه الأخيرة تعني في اللغة الحيوانات المتسمة بالعجمة؛ أي عدم امتلاك ملكة النطق، من هذا المنظور يمكن القول إن العربي «إنسان فصيح» كما يقول عابد الجابري، وهذا من غير شكّ يدعونا لاستحضار التعريف اليوناني الشهير للإنسان بأنه «حيوان عاقل»، فكأن الجابري يوحي بوجود تقابل بين عربي بياني ويوناني عقلاني.
تلك كانت مجمل رؤية الجابري حول علاقة اللغة بالعقل، ونقر هنا أننا قفزنا على كثير من التفاصيل، لأن ذلك سيأخذ منا الكثير لو استقصينا كل المعطيات، والذي نود أن نثيره هنا، هو أننا حين كنا نضع مفهوم “علمي” بين مزدوجتين، فإننا كنا نعي ذلك، فالرؤية التي كان يمتح منها الجابري كما أثبت دراسات باحثين آخرين لم تكن تماما علمية، بل على العكس من ذلك استُمدت من مرجعية دينية ولاهوتية، والجابري لا يشير إلى ذلك لا من قريب ولا من بعيد. إن أصل النظرية التي تقول أن العقل توجهه اللغة، تجد مرجعياتها في أفكار لاهوتية تشير إلى أن أصل العالم كله كلمة ولغة، وأن في الإنسان جانبا إلهيا من تلقيه لتلك اللغة، وأن بها يتقوم عقل الإنسان، وهي فكرة لم يقُل بها هردر ابتداء كما يُشير الجابري، وإنما سبقه إليها أستاذه يوهان هامان، و”من منظور هذا المذهب الإيماني، يقول طرابيشي، صاغ هامان معالم نظريته في العلاقة بين الوجود والعقل واللغة. فالوجود هو شعر الله. والله شاعر (…) شعره هو العالم. باللغة خلق الله العالم (…) وإن يكن الله متكلما وكاتبا، فإن في الإنسان شذرة من الله، لأن اللغة شرطه، وبها يصير إنسانا”.
ومما نُقم على الجابري هو كذلك عدم وفائه لتلك النظرة التي أضفى عليها طابعا علميا، فإذا كان الناقدُ نظر إلى العلاقة بين اللغة والعقل نظرة ثابتة وحيدة الاتجاه دائما، تنطلق من اللغة كرؤية إلى العالم وكقوالب منطقية، لتبلور النظام العقلي وتحدد معالمه الخاصة، فإن الواقع أن “هردر”، الذي يعترف الجابري بمديونيته العلمية إليه، نبّه إلى العلاقة الجدلية بين العقل واللغة؛ فكلاهما يؤثر في الآخر ويتأثر به، وهذا ما يقصد أحد الباحثين حين يقول: “على العكس دوما من ثباتية الصيغة الجابرية، فإن هردر يقترح لإشكالية العلاقة بين اللغة والفكر الصيغة التطورية التالية: تقدم اللغة بالعقل، وتقدم العقل باللغة”.
هذا على المستوى المنهجي عموما، أما من حيث الرؤية، فالملاحظ أن الجابري يغالي نوعا ما في التنصيص على بدوية العقل العربي الذي تشكل في محيط صحراوي تام، لهذا غابت عن قاموسه الكلمات التي تنتمي إلى عالم البحر والثلج.. إلخ، فما لم يستحضره الجابري، وهو معطى جغرافي بديهي هو أنه “لا الصحراء تغطي كل رقعة شبه الجزيرة العربية، ولا شبه الجزيرة العربية تغطي كل رقعة الحضارة العربية الإسلامية، فشبه الجزيرة العربية مطوقة، كما يدل اسمها بالذات، من جهاتها الثلاث بالبحار”.
من جهة أخرى، فما يُشير إليه الأستاذ الجابري من ثبات اللغة العربية في قوالبها وقاموسيها وتراكيبها ينقضه هو نفسه، وتنقضه الأبحاث اللغوية المعاصرة. ينقضه هو لأنه في مواطن عديدة أشار إلى التطور الذي عرفته اللغة العربية بمباشرة عملية الترجمة، وخاصة ترجمة الدواوين، نقرأ له يقول: “إن تعريب الدواوين كان حدثا تاريخيا مهما تعدى أثره الميدان الإداري: [فقد] كان هذا التعريب تطويعا للغة العربية، لغة الشعر والخطابة والكلمات القصار (=الأمثال)، وإغناء لها، وتحويلها إلى لغة حضارية علمية”. أما الدراسات الألسنية المعاصرة، فيعترف كل روادها أن الثابت البنيوي في كل لغة هو عدم ثباتها، يقول اللساني الشهير فردينان سوسير: “اللغة تتغير وتتحول بالأحرى تحت تأثير جميع العوامل التي يمكن أن تطول أصواتها أو معانيها. وهذا التحول محتوم: فليس ثمة من مثال على لغة تستطيع مقاومته”.
كانت هذه مناقشة، حاولت أن تلم بتفاصيل القراءة الجابرية للعلاقة بين العقل واللغة، من غير الدخول في كل المعطيات لكن دون أن تخل كذلك بجوهر القضية، والآن ننتقل إلى عمل آخر ساهم في بلورة الفعل العقلي للعقل الإسلامي؛ وهو عمل تقنين العقل بواسطة وضع أصول ظلت ثابتة إلى يومنا هذا.
أ. العقل الإسلامي وفعل القياس
عندما كنا نتتبع الجابري في تشخيصه للخطاب العربي المعاصر، ألمحنا إلى وقوفه على أن اعتماد القياس يغلب على معظم المشاريع الإصلاحية، وناقد العقل العربي الإسلامي يرى أن هذه الآلية موروثة عن عادة فكرية أثيرة، قديمة تضرب بجذورها في الممارسة الفكرية للعقل العربي الإسلامي، وبالضبط إلى الإمام الشافعي أول من قنّن ووضع قواعد للعقل، ويرتفع الجابري بتأثيرها على العقل الإسلامي، ليقارنها بتلك القواعد التي وضعها الفيلسوف الفرنسي ديكارت للعقل الفرنسي والأوروبي بصفة عامة، فكما يقول أحد الباحثين: “نسبة القواعد الأولى إلى العقلانية العربية الإسلامية، لا تقل أهمية عن القواعد الثانية بالنسبة إلى العقلانية الأوربية الحديثة”. فما طبيعة هذه القواعد؟
كان تقعيد اللغة العربية هو العمل الأول الذي قام به العقل العربي، وقد خلف ذلك تأثيرا كبيرا على منظر الأصول الأول الإمام الشافعي، غير أن هذا السبب لم يكن وراء قيام الشافعي بهذه المهمة، وإنما يرجع ذلك إلى خلاف قام بين أهل الرأي وأهل الحديث، يقول: “إذا نظرنا إلى الفكر العربي عند بداية تشكله وتبلور قضاياه وتياراته، مع بداية عصر التدوين، وجدناه يميل إلى التوزع إلى تيارين رئيسين في كافة المجالات: تيار يتمسك بالموروث الإسلامي، ويدعو إلى اعتماده أصلا وحيدا للحكم على الأشياء، وتيار يتمسك بالرأي ويعتبره الأصل الذي يجب اعتماده، سواء في الحكم على ما جد من الشؤون أو في فهم الموروث الإسلامي نفسه”.
إنه من غير شك أن العلم المركزي في الثقافة العربية، والذي كانت سائر العلوم الأخرى خادمة له هو “الفقه”، وإذا كانت علاقة الفقه بالحديث ومصطلحه أو بالتفسير أو بعلوم اللغة واضحة لا تحتاج لمزيد توضيح، بسبب أنها كانت أدوات ضرورية للفقيه، فضلا عن توضيح علاقة الفقه بأصوله، إذ هذا الأخير يتنزل بالنسبة إلى الفقه منزلة ما يسمى الآن نظرية المعرفة القانونية Epistémologie juridique بالنسبة إلى القانون، إذ يؤطر تفكير الفقيه/رجل القانون، فإن العلوم التي تبدو بعيدة كل البعد عن الفقه تشكلت هي الأخرى تحت إملاءات هذا العلم، نقصد على سبيل المثال علم الجبر للخوارزمي، فهو يقول إنه ألف كتاب الجبر والمقابلة من أجل “ما يلزم الناس من حاجة إليه في مواريثهم ووصاياهم”، والكتابة التاريخية نفسها لم تحد عن هذا الخط، فلم تكن الغاية من كتابة التاريخ مجرد فضول معرفي للإلمام بالماضي، بل كما يقول عبد العروي: “تحديد حكم شرعي لصالح فرد أو جماعة، لهذا السبب كثر بين المؤلفين في التاريخ أول الأمر الفقهاء”.