كعازف جاز من نيوأورليانز

لم يعد يتذكر متى انتبه للمرة الأولى إلى الوجود الشبحي لدمعة تغير مكانها على طرفي عينيه.. فكر أحيانا بأنها ولدت معه ورافقته كل العمر خطوة خطوة.. لكنه يعود لينقض فكرة الزمن.. قد تكون إرثه من الأسلاف القدامى، الذين لا يعرف قصص غرامياتهم، تزاوجهم، هجراتهم التي منحته هذه الدمعة التي لا انفصال له معها، كأنها تاريخ عائلي مكتوب على العين..
كانت تذكره بوجودها كلما طرفت عيناه. يحس بالحركة الخفيفة لرمشيه وهي تلمس سطحها الشفيف فتجرحه..
كانت تتوارى لساعات، لأيام، أو… كأنها تبخرت. لكنها تعود بغتة وهو يقرأ جريدته المؤجلة إلى المساء، فتعوم حروف الحبر فيها كلوحة صينية.. أو وهو يشاهد لقطة لأب يبتسم، فيتذكر حربه الصامتة مع أبيه.. أو.. هكذا تنتقم من غيابها القصير لتطالب بمكانها كبارونة في مقصورة مسرح..
حين يكون في مكتبه نهارا ويشعر بوجودها، يتحول في لحظة سريعة إلى كلب بافلوف، تسرع يده إلى جيب سترته ليسحب منديلا ورقيا ويمسح عينيه، وهو يستدير بسرعة نحو النافذة ليحاول إخفاء وجودها عن الموظفين الذين يشاركانه سأم المكتب..مغمورا بالشكوك يسأل نفسه :
هل رآها أحدهما؟-
زميلاه استمرا في محاولة تبديد الوقت الذي يفصلهما عن موعد الانصراف.. زوجته لم تغير روتين الساعات التي يقضيانها بعد العمل.. الأصدقاء في المقهى استمروا في ثرثراتهم عن كرة القدم، غلاء الأسعار والفيروسات التي تغير أسماءها كل فترة. تصرف الجميع بلا مبالاة.. الزمن يمضي كأن الدمعة لا توجد، أو كأنها مخفية خلف ستارة مسرح فارغ.
أي احتمال لاحتجاجها على هذه اللامبالاة وظهورها علنا، جعله يتخلى عن كراهيته للنظارات السوداء.. اشترى واحدة دون أن يكترث لشكلها أو ماركتها، التصقت بعينيه في المكتب، في الشارع، في المقهى.. نهارا، ليلا.. كأنه كان يريد أن يختفي مع دمعته..
عائدا من مشاويره كان يهرول كمراهق قلق تأخر على أول مواعيده الغرامية..
في البيت تمازحه زوجته:
– بهذه النظارة تبدو كعازف جاز من نيوأورليانز!
كانت تفكر في الجاز كموسيقى يعزفها رجال بسترات بيضاء ونظارات سوداء دائما!

***
حين كانت تظهر خلف سواد العدسات، كان العالم خارج عينيه يصبح مطاطيا.. الأشياء تبدو داكنة كأنها استسلمت تحت مطر أسود مائل..
سئم من زيف الألوان، من ثقل الإطار الجاثم على أنفه، فرمى النظارة في درج لتنسى هناك، وعاد لمواجهة الدمعة التي أكملت نموها كبرعم.. تدورت مع مرور الوقت، لتصير أشبه بيقطينة تحاول التوازن كلاعبة سيرك فوق حدود عينيه، بينما تشدها الجاذبية إلى الأسفل. يقاوم ثقلها قليلا، يرصد انحناءه المتواتر.. يخاف.. يغذي الوهم بأن الزمن الذي يأخذ بيده نحو عتبات الشيخوخة هو السبب..

***

انكمشت قطعة الأرض التي تحمل ساقيه وجعلته يبتعد لأن الوجود البلوري في عينيه أوجد إحساسا غريبا بالعزلة.. فوق هذه الجزيرة الصغيرة سيبدأ في البحث عن أشباهه بتأملات طويلة لعيون العابرين في الشارع، العيون التي تسطع خلف شاشة التلفزيون.. في الصور الفوتوغرافية.. وأخيرا في اللوحات..يقلب صفحات يومية معلقة على الحائط ليبحث عن دمعة قد تكون مختبئة في زاوية عين الجوكندا أو عين امرأة من نساء موديلياني المتباهيات بأعناقهن الطويلة.. تمثال ‘دافيد’’ الذي يقف عاريا في صفحة أخرى واجهه وجها لوجه، عينا لعين.. كان يعلم أن التماثيل تنظر بعيون خاوية، لكنه جرب الأمل في إيجاد شبيه واحد فقط…
لم يصل إلى المواساة، إلى تهدئة قلقه من أن دمعته لم تكن الوحيدة العالقة هناك كوصمة مخيفة..

***

لم تكترث لانحنائه المتواصل كزرافة تريد أن تقف على رأسها.. تعود لتلهو معه في الخفاء، تتابع شكوكه حين يقف أمام المرآة ليتأكد من وضعية كتفيه، من الأمام، من الجانب الأيسر، كأنه يلتقط صورا في مركز تجنيد، أو في مخفر شرطة..
لا تشفق على تهدل كتفيه، على محاولاته لإعادتهما إلى مكانهما المناسب، لاسترجاع استقامة قامته.. تسخر من الابتسامة النادرة التي ترتعش على شفتيه حين يفكر أنه تغلب على حمله، لكنه يبتعد عن المرآة كشيخ نسيه الموت منذ عصر نوح..

***

تسقط القطرات الأخيرة لمطر عابر فوق رأسه، وهو يمشي بين بنايات أكلها الهواء الملوث، تحت سماء ديسمبر الكئيبة، دون أن يفكر في رفع بصره نحو السماء لينشط فضوله السابق لمعرفة نتيجة الصراع المكتوم بين ألوانها ..
يمشي كأنه عالق في طعم صنارة تشده إلى الأرض، مع زفيره تخرج آخر فقاعات الأمل في المقاومة التي دامت دهرا بلا جدوى.. تستسلم خطواته للدوار الخفيف، لضباب النظرة وثقل اليقطينة في عينيه، يسقط على وجهه، يحس جلده حين يلامس الماء القليل في بركة مؤقتة بتلك البرودة التي تسلمه إلى السديم اللانهائي للنظرة..


الكاتب : عبد الحميد بوحسين

  

بتاريخ : 21/05/2021