خلّف الزلزال الذي ضرب إقليم الحوز جراحا عميقة في نفوس الكثيرين، توزعت ما بين تلك التي كشف عنها مختلف المغاربة الذين تابعوا الصور والتسجيلات التي وثقت للفاجعة، الذين تقاسموا مشاعر الحزن والآلام مع المتضررين بالدموع، وعبّروا عن مواساتهم وعن دعمهم الكامل لهم، وما بين تلك التي سكنت ضلوع المكلومين، سواء منها الظاهرة أو المستترة، الذين منهم من فقد فردا أو أكثر، ومنهم من وجد نفسه في لحظة يتيما، أو أرملة، أو بدون زوجة أو بدون إخوة، بشكل أصبحت معه حياته ما بعد الثامن من شتنبر ليست هي نفسها التي كانت عليه في السابق.
آلام مختلفة، تنقل «الاتحاد الاشتراكي» بعضا من تفاصيلها لقرائها، من قلب دواوير بإقليم تارودانت، روتها ألسنة مكلومين ومتضررين، صغارا وكبارا، منهم من تضرر ضررا كاملا، ومنهم من تحدث بمرارة عما عاشه لحظة الزلزال، وهو يحاول إنقاذ من يمكنه إنقاذهم.
لم يفرّق زلزال الحوز ما بين صغير وكبير، امرأة أو رجل، شابّ أو مسنّ، فالهزة الأرضية التي وقعت ليلا بشكل مفاجئ لم تميز بينهم، ومن كان منهم على موعد مع الموت فقد أسلم روحه لبارئها وغادر الدنيا تاركا حزنا دفينا ووجعا كبيرا في قلوب الأقارب، الذي كان وقع الفراق عليهم قاسيا.
«الاتحاد الاشتراكي» وخلال حضورها في إقليم تارودانت خلال الأسبوع الثاني ما بعد وقوع زلزال الحوز، متنقّلة بين عدد من الدواوير المتضررة في بعض الجماعات، حرصت على أن تكون متواجدة بجانب مجموعة من المواطنين الذين تضرروا بشكل متفاوت، لأن ضرر البعض منهم كان بليغا، في حين أن البعض الآخر كان وقع وتداعيات الزلزال عليهم أقلّ، مقارنة بحجم الألم الذي عاشته وتعيشه إلى اليوم الفئة الأولى، والتي سيظل ملازما لها لسنوات بدون شك.
تالكجونت .. الوجع المتعدد
غادرنا جماعة تافنكولت بعد أن زرنا مجموعة من الدواوير هناك، كما هو الحال بالنسبة لدوار تفكست والزاويت وتلات ملولن، التي التقينا عددا من أهاليها ووقفنا على كيف واجهوا صدمة الزلزال وكيف قاموا منها، فتوجهنا هذه المرة صوب جماعة تالكجونت، وهناك أيضا، حرصنا على ولوج «النفوذ الترابي» لمجموعة من الدواوير لنرى كيف هو الوضع بها، وكيف هو حال المواطنين المتضررين، كما هو الشأن بالنسبة لدوار تابكورت، فوجدنا نفس الألم الذي تم تسليط الضوء عليه في دواوير حظيت بمتابعة إعلامية كبيرة، تضررت بشريا و»عمرانيا»، ونفس الحزن الذي يسكن قسمات الوجوه، ونفس الصدمة التي كانت تحتاج إلى من يخفّف من حدّتها بدفء إنساني وبحسّ تضامني أكثر من أي شيء آخر، وإن كانت الخسائر «أقلّ».
بقايا تابكورت
في تابكورت التي تطلّب الوصول إليها بعض الجهد بسبب وضعية الطريق والمسالك غير المساعدة المؤدية إلى الدوار، الذي كانت كل العلامات المجالية تؤكد على أنه كان يعاني حتى قبل الزلزال، وجدنا لحسن، أحد أبناء الدوار، الذي ترك جراحه في قلبه وأوصد على حزنه الباب، ووقف شامخا شموخ جبال الأطلس، لا يتحدث عن نفسه، لا يتطرق لمعاناته، بل كان همّه الوحيد هو البحث عن مساعدات لبنات وأبناء قبيلته، الأطفال والشباب والشيوخ، ولأجل هذا ظلّ يتصل ويطرق الأبواب بحثا عن وصول احتياجات خاصة، كان الجميع في أمسّ الحاجة إليها.
دخلنا الدوار مع لحسن، الذي كان يطلعنا على آثر الهزة الأرضية وما خلّفته من دمار في البيوت، التي صار الكثير منها عبارة عن أطلال، ويحكي لنا ما الذي وقع لهذه الأسرة وتلك، وكيف هو حجم المعاناة والألم الذي يتقاسمه الجميع، رغم الابتسامة التي كانوا يبادلوننا إياها والتحية التي تعبر عن رضا كبير بالقدر.
جلسنا مع مرافقنا على حصير قرب بقايا أحد البيوت، بجوار أكياس تبن، وأمامنا أثاث وأواني منزلية تمت تغطيتها بقطعة كبيرة من البلاستيك، تم وضعها في ساحة فارغة وسط الدوار، خوفا من أن تبقى في البيوت وتعاود الهزة رجّتها فيسقط ما تبقى من طوب وحجارة وتتعرض للتلف والضياع. استفسرنا لحسن عما وقع له، وكيف عاش لحظة الزلزال، فأخبرنا بأنه لم يكن يتواجد حينها في المنطقة، لأنه يشتغل في الدار البيضاء، وهو نفس وضع الكثير من الأشخاص والأزواج الذي يبحثون عن لقمة عيش خارج الإقليم في مجالات مختلفة، ولأجل ذلك يكدّون ويجتهدون ويعيشون محنا أخرى بعيدا عن آبائهم، زوجاتهم، أبنائهم، وعن حضن أسرهم الدافئ بشكل عام، موضحا بأنه تلقى الخبر كالعديد من المواطنين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، قبل أن يكتشف هول ما حدث لأسرته الصغيرة.
«ملائكة» تحت الأرض
كان لحسن يتحدث معنا والألم يعتصر قلبه والحزن بادٍ على عينيه وعلى ملامح وجهه، وإن حاول إخفاء ذلك، فالرجل في لحظة واحدة، وجد نفسه حين عودته إلى مسقط رأسه، وإلى تربته الأصلية، قد فقد ابنين اثنين، طفل وطفلة، أطلعنا على صورهما على هاتفه وهو يشاهد معنا تلك الصور هو الآخر كما لو أنه يراها لأول مرّة.
روى لنا لحسن والكلام يحتبس في حلقة بين الفينة والأخرى، كيف كانت زوجته وطفلته الثالثة التي نجت يشاهدان التلفاز، قبل أن تتحرك الأرض يمينا وشمالا وتصدر صوتا مرعبا، فقفزت الزوجة من على فراشها ممسكة بصغيرتها، وأخرجتها خارجا، وعندما حاولت العودة نحو طفلها وطفلتها هوى كل شيء أرضا وطمرهما التراب، في لحظة خيّم فيها الظلام الدامس وارتفعت أصوات الصراخ، تشقّ سكون الليل معبّرة عن الخوف والألم.
صراخ ودموع ازدادت حدتهما ومنسوبهما لاحقا، بعد أن تبين بعد مرور الوقت وفاة أطفال آخرين لأسر من نفس الدوار، فارتفعت الحصيلة المؤلمة، التي أخبرنا أحد الصغار بأنها بلغت سبع وفيات، متحدثا كيف فقد هو الآخر شقيقته التي تصغره سنا، مشيرا إلى أنها كانت نائمة إلى جانبه في حين أن والديه كانا في الجهة الأخرى، وهو يشير بأصبعه إلى بقايا أطلال، مضيفا بأنه استيقظ تحت الأنقاض وهو يحس بالألم في ظهره، وكان يسمع صوت والدته تصرخ ثم أصوات باقي سكان الدوار الناجين، الذين كانوا يحاولون انتشال من هم أحياء أو مصابين، وخوفا على حياته كان يحفر بيديه ليزيح التراب عن بحثا عن الأوكسجين لكي يستمر في التنفس.
وأوضح محدثنا بأن محاولات المتطوعين مكّنتهم من إخراج شقيقته بعد وقت، لكن تبيّن على أنها فارقت الحياة، قبل أن تصل إليه أياديهم لاحقا، وبعدها علم بأن سقف البيت تهاوى فوقهما، وبأن والدته أصيبت على مستوى الرأس إصابة تطلب رتقها بعد أن تم نقلها من طرف المسعفين إلى جانب إصابات في سائر جسدها، في حين أن والده أصيب بكسر في الرجل حين حاول الخروج بعد أن سقطت على قدمه قطعة حجر وجعلتها عالقة، حيث أصيب بالكسر وهو يسعى لجرها من بين الحجارة والأتربة.
إكروفلا .. الألم واحد
حكايات الألم التي حكاها لنا عدد من سكان دوار تابكورت التي تناولت جوانب كثيرة من عيش الدوار وساكنته ما قبل وبعد زلزال الحوز، كانت هي نفسها التي وجدناها، وهذه المرة في دوار إكروفلا، الذي انقسم سكانه إلى مجموعات، وكل مجموعة اتخذت لها ساحة مسكنا والخيام التي زودتهم بها السلطات مأوى في انتظار ما سيقع غدا.
في إكروفلا، مرّ ملك الموت من هناك أيضا، وفارق الحياة مواطنون من مختلف الأعمار، يخبرنا إبراهيم ومعه أحد سكان الدوار ونحن أمام بيوت تحولت كلها إلى أطلال، مبرزا كيف أنه كانت من بين الضحايا سيدة رفقة جنينها لم يكن يفصلها عن الوضع، وفقا لما أكدته سيدات في القبيلة، إلا بضعة أيام، لكن القدر كان له رأي آخر، واختارت مشيئة الله أن تفارق السيدة الحياة رفقة جنينها الذي لم يرى النور أبدا.
فراق شهدته أسر أخرى، وفقا لتصريحات عدد من المواطنين، الذين أكدوا بأن عدد ضحايا الزلزال في الدوار بلغ عشرة، في حين مكّنت الجهود التي تم بذلها من إنقاذ آخرين، حيث تم إنقاذ العديدين من تحت الأنقاض بينهم مجموعة من الأطفال، في حين أصيب آخرون بإصابات جسدية على مستوى الرأس وأطراف أخرى تطلبت القيام بتدخلات طبية.
معاناة أكد عدد من سكان الدوار في تصريحاتهم على أنها لم تكن سهلة، وبأنهم لا يزالون تحت وقع صدمة ما وقع، مشددين على أنهم يعيشون وضعية تيه، رغم كل المساعدات التي يتم التوصل بها والتي تختلف طبيعتها، مبرزين أن حجم الألم كبير وبأنه إذا كان يومهم الآن معلوما فإن غدهم مجهول، وفقا لتصريح أحد أبناء الدوار.
تكوخت .. صبر وتضامن
إذا كان دوار إكروفلا وتابكورت قد عاشا آلام فراق الأحباب، فإن ساكنة دوار تكوخت كانت «أحسن حالا» مقارنة معهما، وإن كان الخوف يبدو واضحا على قسمات الوجوه، التي عايناها ونحن نصعد الجبل، فهذا الدوار الذي هو أقرب من تابكورت المتضرر بخسائر بشرية إلى «مناطق الزلزال» في جماعة تالكجونت، قد عرف تصدعات على مستوى العديد من البيوت، التي فرضت على الساكنة المهمة عدديا، من نساء ورجال وأطفال وشباب وشيوخ، مغادرتها والمبيت في العراء داخل خيام، تم تدبر أمرها بشكل من الأشكال، كخطوة وقائية تفاديا لما قد لا تحمد عقباه.
يقول محمد وهو أحد سكان هذا الدوار لـ «الاتحاد الاشتراكي»، الزلزال ليس بالوضع السهل، وما وقع لجيراننا في دواوير أخرى هو مؤلم، ونحن أيضا عشنا رعبه وقلقه، وإن لم يسجل ولله الحمد ضحايا في الأرواح، لكن هذا لا يلغي بأننا غير مرتاحين مما قد يقع. قلق تقاسمه مع محمد جاره علي، الذي أكد بأن سكان الدوار يخشون خاصة على المسنين، وهم كثر، مبرزا أن من بينهم من هو مصاب بالزهايمر، ومن هو عاجز عن الحركة ومن فقد بصره، مشددا على أن هذه المحنة يواجهها الجميع بالصبر وبالتضامن، وبأن هناك العديد من الاحتياجات التي ينتظرون وصولها من السلطات المختصة والمتضامنين.
من رأى ليس كمن سمع
حين كنا نتنقل بين مجموعة من دواوير جماعة تالكجونت وتافنكولت، تكررت مقولة على ألسنة العديد من المواطنين الذين جالسناهم وتحدثنا إليهم أكثر من مرة، وهي « من رأى ليس كمن سمع «، وكان أًصحاب هذه «اللازمة» ممن عاشوا الحدث في زمن ومكان وقوعه، الذين أكدوا للجريدة على هول اللحظة، وعلى قوة الصوت الذي سمعوه، الذي شبّهه أحدهم بالقول «كما لو أن الأرض كانت تتوجع ألما».
تصريحات حاولت تقريبنا من الصورة، كما هو الحال بالنسبة لتصريح رشيد وهو أحد شباب المنطقة الذي عبّر عما وقع قائلا «عشنا ظلاما دامسا، جعلنا نحسّ بالتيه، وأحسسنا كما لو أننا في يوم القيامة». وأضاف آخر «بعد أن استرجعنا أنفاسنا توجهنا لمساعدة غيرنا، كنا لا نعرف أين نخطو، وأحيانا كنا ندوس الأرض بأقدامنا نتلمّس الطريق فيأتينا صوت أنين وألم من الأسفل .. لن أنسى صوت سيدة كانت تستغيث وهي تطلب المساعدة ليس لها وإنما لابنتها وهي تصر من تحت الأنقاض على أن تعطى الأولوية لفلذة كبدها».
وجع مستمر
شهادات عديدة، لأشخاص راشدين وقاصرين، لشباب وشيوخ، لنساء كذلك ورجال، عبّرت عن هول ما حدث، اختلفت الروايات والتفاصيل لكن مضمونها أكد على حجم الألم الذي ساد وكمّ الوجع الذي لا يزال حاضرا، وفي هذا الصدد صرّح أحد سكان المنطقة قائلا «فرحنا ونحن نخرج أحياء من تحت الأنقاض، وصدمنا لهول ما رأينا ونحن ننتشل أشخاصا فارقوا الحياة وكانوا في وضعيات جد مؤلمة»، قبل أن يقاطعه آخر متحدثا هو أيضا في نفس السياق «لا تزال تلك الرائحة في حلقي لم تغادره، لن يمكنني أن أنسى ما حدث أبدا، وبعد الذي وقع وما عشته لم أعد خائفا من الموت».