عدنان الصايغ تجربة أدبية وازنة ، و نقطة مضيئة في الخارطة الشعرية العربية الراهنة ، تتسم كتاباته بتلك القدرة الهائلة على التحكم في اللغة و جعلها تتحرك وفق ما برصده لها مبدعها ، يوقن الصايغ أن العالم يمضي إلى قدره المحتوم ، لذلك تجده صافنا «كنسر يخفق في مواجهة العاصفة/بينما ريشه يتناثر في السهوب».
عاش الصايغ في أكثر من وطن و تحدث أكثر من لغة، نهل من المعارف الكبرى ، و شهد تجارب الخلق و التأسيس الثقافي و الايديولوجي في العالم العربي ، لذلك اتسم شعره بالعمق و الحكمة والرزانة :رزانة الرجل و رزانة النص.عبر هذا الحوار الذي أجريناه معه نفتح بابا للاقتراب من الصايغ و من عالمه الشعري الشاسع.
بوصفك شاعرا له زوايا نظره p لك منجز يهم الشعر وما يحيط به، كيف تنظر الآن إلى هذا المنجز؟
مرة قلتُ، في منصف الثمانينات، قبل نهاية الحرب:
«خذْ ثمانيةَ أعوامٍ من عمري، وصفْ لي الحرب
خذْ عشرين برتقالةً، وصفْ لي مروجَ طفولتي
خذْ كلَّ دموعِ العالمِ، وصفْ لي الرغيف
خذْ كلَّ زهورَ الحدائقِ، وصفْ لي رائحةَ شعرها الطويل
خذْ كلَّ البنوكِ والمعسكراتِ والصحفِ، وصفْ لي الوطن
خذْ كلَّ قصائدَ الشعراءِ، وصفْ لي الشاعر
خذْ كلَّ نيونِ مدنِ العالمِ وشوارعها الصاخبةِ،
وصفْ لي لذةَ التسكّعِ على أرصفةِ السعدون
خذْ كلَّ شيءٍ، كلَّ شيءٍ…
وصفْ لي نسيمَ بلادي
أما أنا فغير محتاجٍ لكلِّ هذا…
تكفيني قنينةُ حبرٍ واحدةٌ لأضيءَ العالم
يكفيني رغيفٌ ساخنٌ من تنورِ أمي
لأتأكدَ من حداثتي»
هذه التجربة الملتاعة، أخذت من عمري أكثر من ثلث قرن.. وأخذت من دمي وأعصابي ومن مباهجي الكثير.. لكنها بالمقابل أعطتني الوهج والخيبة معاً..
وإذ أراها اليوم وأنا واقف أمام مرآة نفسي كي أرى نفسي: شاباً وكهلاً، يحمل تناقضات الحياة نفسها وأوجاع الروح ومسراتها أيضاً.. فأنني يمكنني أن أتلمس فيها ضعفاً وقوة، تجدداً وركوداً، تحدياً وتردداً، والى ما في خصائص النص أو الروح.. لقد تركتها بين يدي قارئي بلا تغيير أو رتوش ليمضي مع رحلة الشاعر وعذاباته وأحلامه من البدايات إلى اليوم مروراً بكل المحطات: الطفولة، القراءات، الكتابات الأولى، النشر، الحب، المرأة، الأصدقاء، الحرب، المنفى. وهو مشهد واسع – كما أظن – يمكنك أن تجد فيها تنويعات وافتراقات متعددة في الشكل والمضمون، هي بمجملها ترسم ملامح هذا الشاعر الذي كنته..
هل تؤمن بلذة النص؟ ما النصوص التي تركت أثرا ما في حياتك؟
لولاها، لولا هذه اللذة التي أجدها في النص، والتي لا تعادلها لذة في العالم.. لكان لحياتي شكل آخر لا أدري ما هو.. هذه اللذة العظيمة والمدهشة والخلاقة، أنا بسببها منشد ومشدود للحياة، كأنها تعويض عن حرمان طويل وخسارات عديدة..
لذة أن تجلس أمام الورقة البيضاء تتماهى بها حتى تصبح أنت نفسك حرفاً سابحاً في سديمها اللانهائي..
لذة أن تتشكل الكلمات أمام عينيك راسمة على الطاولة عوالم لم تكن تخطر لك على بال..
لذة أن ترى دهشة عوالمك وكلماتك مرتسمة في عيون الناس..
لذة أن تجلس بعد هذا العمر بين كتبك وأوراقك، كأنك تجلس وسط أولادك وأحفادك، وقد كبروا وهم يلعبون ويكركرون بفرح أخاذ أو يمسكون بيديك ليأخذوك إلى ألعابهم وعالمهم الساحر البريء..
لذة أن تستيقظ ذات صباح لتجد نفسك نصاً يمشي بين الناس:
« نسيتُ نفسي على طاولةِ مكتبتي
ومضيتُ
وحين فتحتُ خطوتي في الطريق
اكتشفتُ أنني لا شيء غير ظلٍّ لنصٍ
أراهُ يمشي أمامي بمشقةٍ
ويصافحُ الناسَ كأنه أنا»
أما النصوص التي تركت أثرها في حياتي، شعراً وقصة وروايات، فهي عديدة ومتنوعة بشكل عجيب وواسع، أكثر من أن تذكر، لكن يمكنني هنا أن أذكر من بينها:
أنشودة المطر، ألف ليلة وليلة، ملحمة كلكامش، الأعاني، المواقف والمخاطبات، الامتاع والمؤانسة، خريف البطريرك، ليلة لشبونة، الدون الهاديء، شرق المتوسط، موسم الهجرة إلى الشمال، لماذا تركت الحصان وحيداً، قمر شيراز، الأخضر بن يوسف ومشاغله، خواتيم، كانت السماء زرقاء، مجرد مرآة مستلقية، تاريخ الأسى، متواليات الكذبة الرائعة، الحرب تعمل بجد، حداداً على ما تبقى، ضيقة هي المراكب، المركب السكران، قصائد عارية، الفرح ليس مهنتي، مسخ الكائنات، الكتاب- أمس المكان الآن، الامتاع والمؤانسة، الأمالي، البيان والتبيين، داغستان بلدي، أيثاكا، عيون ألسا، مكبث، السونيتات، الأوديسة، المهابهارتا، الرمايانا، الشاهنامة، منطق الطير، رسالة الغفران، والخ..