عَمدَّته رواية «غراميات مضحكة» روائياً بلونية جديدة تستحق التأمل والفرز، لينطلق بعدها في محاولات تجريب شرسة لكل الأشكال والصيغ التي حكمت مملكة السرد منذ «سيرفانتس» مروراً بمواطنه الأكثر سحراً ونفوذاً «كافكا» وليس أنتهاءاً بمجايله وصديقه أُعجوبة كولومبيا «ماركيز»، ليصل بعد طول تجريب إلى كتابة «المزحة» و«كتاب الضحك والنسيان» و«الخلود» و«البطء» ـ التي دشن بها إحساسه الفرنسي باللغة، كونها أولى أعماله المكتوبة بالفرنسيةـ و«كائن لا تُحتمل خِفته» و«الحياة في مكانٍ ما» و«الجهل» و«الهوية» و«حفل الوداع».
اختار فرنساـ إثر فقدانه لوظيفته وفصله من الحزب ـ في العام 1975م لتكون منفى لمثقف مخزول ومطارد. حاز على عدة جوائز عالمية ليس من بينها نوبل التي أنتظرت طويلاً.
– باستخدام مصطلح «تعددية الأصوات» مجازاً وتطبيقه على الأدب ألا تكون بذلك، في الحقيقة، قد وضعت على الرواية رهانات لا تستطيع الرواية الإيفاء بها؟
– تستطيع الرواية أنْ تضُم العناصر الخارجية بطريقتين: سيلتقى (دون كيشوت) فى مسار رحلاته بعديد الشخصيات التي ستحكي له حكاياها. بهذه الطريقة يُمكن أنْ تُحشر القصص المستقلة في جسد الرواية لتكون متلائمة مع إطار الرواية. وُجِدَ هذا النوع من التأليف، غالباً، في روايات القرنين السابع عشر والثامن عشر. أما (بروخ) فبدلاً من أنْ يدمج قصة (هانا ويندلنغ) في قصة (إيسش وهيغوناو) الرئيسة، تركَ القصتين مفتوحتين تزامناً. استخدم (سارتر) تقنية التزامن هذه في رواية (الناجي من المشنقة) وقبله (دوس باسوس) كان هدفهما على أي حال. هو ربط مُختلَف القصص الروائية مع بعضها البعض. بكلمات أخرى، كانت العناصر الروائية في حالة (بروخ) متجانسة أكثر منها متنافرة. ِزدْ على ذلك فإن استخدامهما لهذه التقنية كان ميكانيكياً وخالياً من الشعر.
لن أستطيع التفكير في مصطلح أفضل من «تعدد الأصوات» أو»الطِباق» لأصف به هذا النوع من التأليف. وفضلاً على ذلك فإن للتناظر الموسيقى فائدته أيضاً مثلاً: أول شيء أزعجنى فيما يختص بالجزء الثالث من رواية (السائرون نياماً) هو أنْ الأجزاء الخمسة غير متساوية بينما يُعتبر تساوى الأصوات في الطِباق الموسيقي، القاعدة الأساس، الشرط اللاَّزم «sin qua non». يشغل أول عنصر في عمل بروخ (السرد الروائي لـ إيسش وهوغيناو) مساحة مادية أكثر من العناصر الأخري. بل، حتى أكثر أهمية. وقد تم تفضيله لأنه يربط بين الجزءين اللذين يسبقانه ولذلك أدَّعى مَهمة توحيدها وهذا ما جعله يحوز على الإهتمام الأكبر، مُهدداً، من ثمَّ، بتحويل العناصر الأخري إلى محض ملحقات. الشيء الثاني المزعج هو أن موسيقى «الفوغا» التي أشتغل عليها باخ لم تكن لتكتمل إلا بتساوي الأصوات، مع ذلك، يمكن لقصة (هانا ويندلنغ) أو مقال (إنحطاط القيم) أن يُشكلا عملاً مستقلاً. يمكن أن نأخذهما منفصلين دون أنْ يفقدا معناهما أو سَمتَهُما. أنا أرى أنَّ المتطلبات الأساسية للطِباق الروائي هي (1) تساوى مُختلف العناصر الروائية(2) عدم تشتت عناصر النص. ما زلتُ أذكر اليوم الذي أنهيتُ فيه كتابة الجزء الثالث من كتاب (الضحك والنسيان)، فقد كنتُ فخوراً بنفسي . إذ تأكدَ لي بأنني قد اكتشفتُ المفتاح الذي سأصِل به لطريقة جديدة في وضع عناصر النص مع بعضها البعض. وكان النص يتكون من العناصر التالية: (1) حكاية الطالبتين وتحليقهما. (2) سرد لسيرة ذاتية (3). مقال نقدي عن كتاب للحركة النسوية. (4) أقصوصة شعبية تتحدث عن الملاك والشيطان. (5) سرد حُلمي عن (بول إيلوار) وهو يَعبُر سماء براغ. لا يمكن لأي عنصر من هذه العناصر أن يوجد بمعزل عن العناصر الأخري، وكل واحد منهما يشرح ويضيء نفس الثيمة ويسأل ذات السؤال: ماهو الملاك؟
– يتكوَّن الجزء السادس وهو بعنوان الملاك أيضاً من: (10) سرد حُلمي لوفاة تامينا. (2) سرد سيرة ذاتية لوفاة أبي. (3) تأملات في علم الموسيقي. (4) تأملات في وباء النسيان الذي اجتاح براغ. ماهو الرابط، إذاً، بين أبي وبين تعذيب الأولاد (لتامينا)؟
– الرابط هو التقاء ماكينة خياطة بمظلة على طاولة ثيمة واحدة. وذلك لاقتباس صورة (لوتريامون) الشهيرة إنَّ «تعددية الأصوات داخل الرواية» تقوم على الشعر أكثر من التكنيك. لن أستطيع أن أعثر على هكذا مثال من الشعر «تعددي الأصوات» في أي مكان آخر في الأدب، لكني للأمانة كنت مبهوراً جداً بأفلام (Alain Resnais) الأخيرة. إنَّ استخدامه لفن الطِباق يُثير الإعجاب.
– يبدو أَنَّ فن الطِباق لم يظهر بوضوح في كتابك (كائن لا تحتمل خفته؟
– كان ذلك هدفي، فقد أردتُ أنْ يتدفق الحُلم، السرد والتأمل في مجرى واحد بحيث لا يُمكن فرزهم. لكن الشخصية (البولوفونية) داخل الرواية كانت لافتة جداً في الجزء السادس: قصة ابن ستالين، التأملات اللاهوتية، حدث سياسي في آسيا، وفاة (فرانز) في بانكوك وجنازة (توماس) في بوهيميا. كل هذه الأحداث قد تم ربطها بالسؤال الأبدي: ماهو «الابتذال». هذه القطعة (البولوفونية) هي العمود الفقري لكامل بنية الرواية؛ هي مفتاح سر معمارها.
– بِدعوتك لخصوصية الخطاب الروائى، تكون قد عبَّرت عن تحفظات عديدة بشأن مقال (انحطاط القيم) المُضمَّن في رواية (السائرون نياماً).
– إنه مقالٌ فظيع.
– لديك شكوك فيما يختص بالطريقة التى اُقحِم بها في الرواية، لم يُكوِّن (بروخ) لغته العلمية. فقد عبَّر عن رُؤاه جهراً دون أن يختبئ خلف إحدى شخصياته ـ ربما يفعلها (مان) أو (ميوسيل).. أليست هذه هي إضافة (بروخ) الحقيقية، تحديه الجديد؟
– هذا صحيح. وقد كان واعياً جداً بشجاعته وبإمكاناته، لكن. أيضاً، هنالك مخاطرة؛ إذ يُمكن أن يُقرأ ويُفهم مقاله كمفتاح إيديولوجى للرواية، أي حقيقتها. وهذا من شأنه أنْ يُحوِّل باقي الرواية إلى مُجرد برهنة على فِكر مُعيَّنْ. إذن، فسيختل توازن الرواية؛ ستصبح الحقيقة التي ينطِق بها المقال ثقيلة جداً مما يُعرض معمار الرواية الدقيق لخطر الانهيار. الرواية التي لا تنتوي شرح أطروحة فلسفية ـ (كان بروخ يكره هذا النوع من الروايات) ـ قد تنتهي إلى أن تُقرأ بذات الطريقة.
كيف يُمكِن لأحدنا إقحام مقال في الرواية. مِنْ المُهم أنْ نضع في ذهننا حقيقة أساسية: يتغير جوهر التأمل في اللحظة التى يُضمَّن فيها في جسد الرواية. أما خارج الرواية، فسنجد أنفسنا في مملكة اليقينيات: كُلُنا، سواء أكنا، فلاسفة أو سياسيون أوبوابون- فإننا واثقون مما نقوله. أما الرواية، على أي حال، فهي الإقليم الذي لا يُسمح فيه لأحد بصناعة اليقينيات؛ هي إقليم اللَّعب والافتراضات. إنَّ جوهر التأمل، داخل الرواية، هو الافتراض.
– لكن لماذا يُريد الروائي أن يحرِم نفسه من الحق في التعبير عن فلسفته جهراً وبكل وُثوقية في الرواية؟
– لأنه لا يملك فلسفة! يتحدث الناس، عادةً، عن فلسفة (تشيخوف) أو (كافكا) أو (ميوسيل). لكن حاول أن تجد فلسفة متماسكة في كتاباتاهم! وحتى عندما يعبِّرون عن أفكارهم في مذكراتهم ستجد أن هذه الأفكار تُعبِّر عن تمارين ذهنية، لعِب بالمفارقات أو ارتجالات أكثر منها تعبيراً عن يقينيات فلسفة ما. ولم يكن الفلاسفة الذين كتبوا روايات شيئاً، غير أنهم انتحلوا صورة الروائي، مستخدمين شكل الرواية من أجل البرهنة على أفكارهم. لم يكتشف فولتير أو كامو أبداً «ما تستطيع الرواية وحدها أْنْ تكتشفه» أعرِف استثناءً وحيداً؛ (ديدرو) في روايته (جاك القدرى). أيِّ معجزة؟ أنْ يُصبح الفيلسوف الجاد، بعبوره لتخوم الرواية، مُفكراً أُلعُبان. ليست هنالك كلمة واحدة جادة، كل ما فيها يلعب. ولهذا السبب أُجْحِفَ بحقها في فرنسا بشكل واضح . بالطبع ، إنَّ رواية (جاك القدري) تحتوي على كل ما تفتقده فرنسا وترفض استعادته. في فرنسا يُفضلون العمل المليء بالأفكار، وبما أنَّ (جاك القدري) لا يمكن ترجمتها إلى لغة الأفكار، لذا فلا يمكن فهمها في وطن الأفكار، فرنسا.