كيف خرج الوجود إلى الوجود؟

من بين الذكريات المنقوشة في ذاكرتي مثل وشم على ألواح العدم، والتي لم أفهمها حتى بلغت من العمر عتيا واشتعل الرأس تشيطنا، وبدأ الرجل يصارع الطفل ليخرج من داخلي. ظل السؤال يتراقص في ذهني لسنوات حتى شاء الزمن أن يوحي لي بالجواب ولو على شكل إمام غير منتظر: لماذا ثار شباب القرية على القايد؟  كيف خرج الوجود إلى الوجود؟
يوم عادي من أيام الصيف، شمس متوجة في كبد السماء تبتسم بحرارة كأنها تغيض مجنونا يريد الركض في كل الاتجاهات بعدما فقد البوصلة، الكائنات تحاول تفادي بريق اسنانها بالاختفاء والخضوع لرغبتها دون أي تنهيدة تحد، صوت النهر المبحوح يكسره صوت الصراصير المبتهجة بامتلاك المكان دون أي جهد يذكر، رائحة الكيف تغلب الكم محاولة ان ترشد القرويين المدمنين الى الطريق السليم للمعنى. التين المقطر والزيتون المعصر يحاولان ان يطيلا عمر السعادة الباردة. طفل صغير يحاول ان يكتشف الاختلاف بين جسده وجسد ابنة الجيران محاولا الإجابة عن سؤال وجودي أكبر منهما: كيف للوجود ان يخرج من هناك؟ مثل جون بول سارتر تخرج من مدرسة حياة وجودية، لو حاول قطف التفاحة غير الناضجة على صدرها لأعاد تمثيل الجريمة وحصل على جواب أبدي. أكواخ قصديرية تشبه الأفران تحترق داخلها الاحلام السامية. اللون الأصفر في كل مكان كأنه يطارد فان كوخ، وتتساءل الألوان الأخرى المنكمشة في الزوايا: من الديكتاتور الذي رسم اللوحة الأخيرة؟ لحسن حظ التاريخ كانت اللوحة جيدة ولم يصنع الفن سفاحا آخر، فكانت مجرد لوحة هامشية تغتال أحلام جندي متقاعد شاخت ذكريات الحرب العالمية فيه، فأنجب حلما أخيرا يرتدي بارودا باردا يدفئه وسط الأفران، حلما يشبهني الى أخمص القدمين، لكن البندقية مسخت الى مسدس من نوع BIC.
كسرت أبواق سيارة الدرك الملكي المصحوبة بزوبعة رملية رتابة القرية وأخرجت كل ما في بطونها. نزل منها أربعة رجال درك، يقودهم بطن «لاجودان» المنتفخ والخوف والهيبة. خرج من السيارة السوداء الفاقع لونها، القايد ومعه شخص آخره، قيل إنه مساعده، وتبعه فردان من القوات المساعدة. القايد ببدلته العسكرية التي تختنق الفراشات على أكتافها، وحذائه اللامع كأنه لم يمسس الأرض منذ زمن بعيد. اعتقد أهل القرية أن الأمر جلل، لعله بائع مخدرات داع صيته الى ان وصل الخبر الى الرباط، أو جريمة قتل بشعة ذهب ضحيتها شخص حي عكس قرية الموتى، أو استيلاء على ملك من أملاك الدولة، أو ربما شاب تسلق السلالم الاجتماعية وأحب فتاة من الطبقات العليا، فجاءت القوانين لتضع الصابون في طريقه ليرجع الى رشده ويحترم قدر نفسه. لماذا لا يكون البوهالي المجنون قد زاره عقله وعاد الى المعارضة، فجاءت سكرة الجنون بالحق مرتدية ثوب السلطة لتذكره كم هو خاطئ الحق. لكن اليقين الوحيد هو أن القايد لا يرتدي بدلته إلا عندما يكون الامر أكبر من زيه المدني.
الغريب في الامر ان شباب القرية لم يخرجوا لمشاهدة الانزال الأمني كعادتهم، والاستماع الى خطبة القايد المعتادة حول القيم الوطنية والتضحية ونسبه الذي يمتد الى مقاوم شهير. أين ذهب الشباب؟
كلما قلنا ان قرية «ولاد مسعود» عادت الى صوابها، يخرج حدث ليؤكد لنا انكم مساخيط الوالدين…
هكذا تكلم القايد واشرأب برأسه الى السماء كأنه أطلق نظرية جديدة في الفيزياء. ملامح أهل القرية تائهة بين التعجب والخوف كطلبة شعبة الآداب لا يفرقون بين ماكس بلانك وعزيز بودربالة. بينما كانت حاشية القايد تتصنع الجدية كي تعطي لجملته أبعادا أخرى، كطلبة شعبة العلوم في جامعة مغربية، يحملون في رؤوسهم النظريات العلمية كالقمل. كلام القايد فيه حكمة حتى لو كان رد سلام بسيط.
كما اخبركم سي القايد مرارا، اننا لن نتهاون في الضرب بيد من حديد على كل من سولت له نفسه خرق القانون.
هكذا تكلم مساعد القايد، لابد ان يقول كلمته الاعتيادية ولو كانت ضرب من التكرار فقط. عقلي الصغير لم يستوعب سبب كل هذه الخطب الغريبة، كل هذه المراسيم، وهذا الاحترام المصطنع النابع من الخوف.
لكن، لماذا لم يتساءل أحد القرويين عن السبب؟
لا يمكن السؤال عن أمور بديهية، هكذا يفكر الدماغ المقهور، هي أمور مقدسة متوارثة. لكن رأسي لم يستوعب بعد كل المعايير الاجتماعية، فنطق لساني بما عجز عنه فلاسفة القرية المبرزين، فكنت مثل إبراهيم النبي:
أمي، لماذا؟
لا…
أول مرة تتنكر لي والدتي، رمقتني بنظرة كأنني كافر وسط مجمع من المؤمنين. فهمت أن بعض الأسئلة يجب ان تبقى حبيسة الذات المفكرة. شعرت بأنني شيطان صغير لم يركع وسط جمع من الملائكة.
انبعث شاب من شباب القرية ممزقا اللون الأصفر الصيفي. بلال أصغر الجيل الأكبر من جيلنا. أراح بلال القايد من التحقيق الذي كان سيباشره مع سكان القرية، واحدا تلو الآخر. أخبره بلال بنبرة شخص حرم من شيء ما، أن من يبحث عنهم في ينبوع المياه يتناوبون على التهام المبحوث عنها.
بدأت الصورة تتضح شيئا ما، او هكذا اعتقدت لحظتها، شباب القرية يحاولون الإجابة عن السؤال الوجودي مستعينين بفتاة مخطوفة. حتى هم في ذلك السن لم يستطيعوا بعد التخلص من ورطة سارتر.
أمر القايد اهل القرية بمرافقته ليكونوا شاهدين على ما قام به أبناؤهم. وليكون الحدث عبرة لمن سولت له نفسه أن يرغمه على ارتداء بزته العسكرية.
تحرك الجمع مدججا بالأسئلة، من الفتاة؟ من أين قدمت؟ ولماذا اختطفها الشباب؟
هذه الأسئلة أصبحت غير منطقية. صدم الجمع، شباب القرية واقفون في صف طويل كأنهم ينتظرون الحصول على جواز سفر أحمر. وعلى مقربة من الينبوع صلاح الدين ينتهك جسد أتان، كبيرهم الذي علمهم السحر. انتقلنا من أسئلة الى أخرى: القرية كلها لا تتوفر على أتان، من أين جاءت؟ عوض ان يطرح السؤال المهم. وهو السؤال الذي انتهك مخيلتي الفتية: هل سيحصل شباب القرية على الإجابة عن السؤال الوجودي من حمارة؟
طوق الدرك الملكي المكان، كان القايد مزهوا بالنصر، تصافح مع لاجودان كأنهم تمكنوا من فك الشفرة الأخيرة لدافنتشي. اختفت أسئلة اهل القرية عندما أخبرهم انها أتان سي بوشعيب، أكبر الاقطاعيين في البلاد، ورئيس الجماعة الذي غير مفهوم المصلحة العامة الى مصلحة سي بوشعيب وعائلته. القايد لم يكن يهمه أمر الاتان بل شكاية سي بو شعيب، لو كانت مجرد أنثى تنتمي الى القرية لترك الأمر للجماعة وقوالب السكر.
اقتيد الشباب الى القيادة، عفا عنهم سي بوشعيب، وسجنت انا سنوات محاولا الإجابة عن السؤال: لماذا يلجأ الانسان الى الحيوان، ولو كان ميتافيزيقيا، من أجل الإجابة عن السؤال: كيف خرج الوجود الى الوجود؟


الكاتب : عبد الجليل ولد حموية 

  

بتاريخ : 07/08/2020