كيف نعيدإرساء الثقة داخل المدرسة وخارجها؟ 2/2

إن الثقة بالنفس أو في الآخر كموقف وسلوك له انعكاساته الإيجابية على الفرد كما على المجموعة. ويمكن خلق مناخ الثقة من خلال إرساء قوانين ملزمة للفرد كما للمجموعة على حد سواء، من خلال إدراجها كمبدإ يتقاسمه مجموعة من الأفراد تربطهم علاقات ومعاملات حسب قواعد اجتماعية ومعايير أخلاقية. وبما أن المدرسة فضاء مشترك تتداخل فيه من مجموعة من العلاقات التربوية وغير التربوية، فإنها تحرص على تدبير الثقة في الداخل كما في المحيط بتقنين مجموعة من الالتزامات والعقود بين جميع الأطراف المتدخلة. لكن في حالة عدم الالتزام بها، تصبح العلاقات التي تربط الأفراد داخل المؤسسة وخارجها قلقة ومتوترة وغير صادقة، الشيء الذي يؤثر سلبا على صورة المدرسة ووظيفتها.
إن أطر التدريس والإدارة التربوية تسعى دائما إلى نيل الاعتراف بخدماتها ومجهوداتها ، في نفس الوقت الذي يطالب فيه المجتمع وجمعيات الآباء بأداء جيد للمدرسة يضمن تعليما متميزا لأبنائها. ومن هنا يبدو العمل على تدبير الثقة كثقافة ذا دور فعال في حيوية وديناميكية المدرسة ومحيطها. ذلك أن تعزيز الخبرات وتوزيع الأدوار ، وتثمين التعاون المشترك بين كل الأطراف، وتفويض المهام لكل الأطراف المتدخلة من شأنه أن ينعكس بالإيجاب على توطيد العلاقات، واتخاذ القرار المناسب، وربح الوقت في كل الخدمات التي تقدمها المنظومة التربوية بشكل عام. و يمكن أن تبنى الثقة داخل المدرسة من خلال:
– تطوير الكفايات المهنية لهيئتي التدريس والإدارة التربوية وتثمينها واستثمارها، كي تتمكنا من تحديد وتدبير مسارهما المهني بشكل ذاتي من خلال مختلف التكوينات. وبالتالي امتلاك القدرة على توظيف الكفايات الفردية في النسق التنظيمي والاستراتيجي للمنظومة التربوية.
– صياغة أدلة ملموسة توضح الأداء الجيد للمدرسة، والتي يمكن عرضها على الأسر والمجتمع، ليلمسوا التحولات والتغييرات التي تطرأ في الحقل التربوي. كما أن الكشف عن ما توفره هذه المنظومة من خدمات تربوية مختلفة للمتعلم للارتقاء بثقافته العلمية والاجتماعية والتكنولوجية يساعد على تثمين الثقة التي تجمع المدرسة بالمجتمع.
– الارتقاء بجودة التعليم حتى يصبح منتوجا في مستوى انتظارات المجتمع، الأمر الذي يوطد الثقة بين الفاعلين التربويين والمستفيدين من الخدمات التي تقدمها المدرسة.
الاهتمام بالعلاقات الإنسانية والوجدانية

إن المثلث الديداكتيكي الذي يوضح العلاقة المرتبطة بين المكونات الثلاث (المتعلم، المعرفة، المدرس) يتغير حسب نوع الاهتمام الذي يوليه المنظر أو المنفذ لهذه العلاقة. فقد يكون الاهتمام منصبا على المعرفة فيصبح المتعلم في خدمة المضمون والمدرس، وقد يكون الاهتمام منصبا على المتعلم فتكون المعرفة والمدرس في خدمة المتعلم، وقد يكون المدرس في قلب الاهتمام فيكون في قلب المنظومة التربوية. فهو في حاجة للاهتمام به من حيث دوره في توطيد العلاقة بين المعرفة والمتعلم. فغاية المنظومة التربوية في شموليتها تحقيق المعادلة بين المعرفة التي يجب ان تكتسب وتوظف من طرف المتعلم، ثم طرائق وكيفيات اكتساب المعرفة وتوظيفها. ويفيدنا الاهتمام بالذكاء العاطفي بما هو تلك ” القدرة على التعرف على شعورنا الشخصي وشعور الآخرين، وذلك لتحفيز أنفسنا، ولإدارة عاطفتنا بشكـل سلـيم في علاقتنا مع الآخرين “. على إنجاز أداء مدرسي متميز، وبالتالي تقديم منتوج يتصف بالجودة، ذلك أن استثمار المدرس للذكاء العاطفي يمكنه من الوعي بمهامه و أداء واحبه في مناخ يتسم بحضور الجانب الوجداني بين المدرس والمتعلمين. فخلافا لما كان سائدا ، كون مجال العمل لا مجال فيه للعواطف فقد بينت الدراسات الحديثة أن للذكاء العاطفي دور رئيس وحيوي في التحفيز على العمل واتقان الواجب واحترام الآخرين ومجالات تدخلهم. كما أن انخفاض الذكاء العاطفي يجعل المدرس يشعر بالنفور واللامبالاة مما يؤدي إلى الهدر المدرسي واضطراب التعلمات والشعور بالإحباط وبالتالي ضعف الأداء المدرسي ككل.
وباختصار، فإن بناء الذكاء العاطفي لأي شخص من خلال حصص تكوينية وتدريبية ،الاستعانة بتقنيات تحليل المعاملات أو البرمجة العصبية اللغوية…، أو من خلال اعتراف المنظومة التربوية بأعمال المدرسين والإداريين يجدد الثقة في الذات لدى الكل، ويعمق الوعي بدور العواطف والانفعالات في بناء العملية التعليمية التعلمية. فهناك مدرسون يتمتعون بمستوى معرفي ومهني جيد لكنهم لا يستطيعون ضبط علاقتهم العاطفية مع المتعلمين. ويفشلون في السيطرة على مشاعرهم وانفعالاتهم.
تغيير الممارسات الصفية من اجل تثمين الوظائف الايجابية للمدرسة

يجد كل مشروع اصلاحي مقاومة عند إرسائه من أعلى سلم في المنظومة إلى أسفلها. فبالنسبة لقمة المنظومة التربوية قد تظهر المعارضة من طرف مسؤولين أو مفكرين أو خبراء لنوع من الإصلاحات لا تتماشى مع أفكارهم وأهدافهم أو لعدم إشراكهم في المشروع، فتكون معارضة التغيير ذات بعد استراتيجي أو ايديولوجي أو فكري. أما بالنسبة لرجل الميدان، فقد يختزل الإصلاح عنده في نوع من “الموضة” أو ” الصيحة” العابرة بدون أثر بالنظر إلى المكتسبات السابقة ورهانات المرحلة، وعدم نضج الشروط الموضوعية لنجاح الإصلاح وبالتالي فنتائجه تبدو له غير مضمونة.
ويعتبر علماء النفس والاجتماع أن معارضة التغيير شيء طبيعي لدى الانسان عند مطالبته بتغيير ممارسات أو عادات تطبع بها. وقد تكون معارضة التغيير ذات طابع فردي ومرتبطة بحوافز الشخص وتمثلاته للإصلاح المرتقب أو ذات طابع جماعي مرتبطة بقواسم مشتركة تجمع أفرادا. وتشرح نظرية التنافر المعرفي لليون فستنغر(1957) (Festinger) الأسباب التي تدفع بالمرء إلى مقاومة التغيير ومعارضته. حيث يذهب الباحث فستنغر إلى أن الانسان بطبعه لا يقبل انشغال باله بفكرتين أو موضوعين متناقضين يحتلان نفس الاهتمام بالنسبة إليه، لأن هذا الانشغال يخلق له انزعاجا. مما يجعله يبحث على الوسائل الممكنة للتقليل من التنافر. ومعارضة التغيير نوع من التقليل من هذا التنافر. فمثلا عندما نطلب مثلا من مدرس تغيير ممارسته الفصلية عند تقويم المتعلمين باستعمال معايير ومؤشرات كنوع جديد من الممارسات، فهو يعلم أن هذا النوع من الممارسة مفيد للمتعلم، ويشعر في نفس الوقت بالتنافر المعرفي إذا استمر في تقويم منتوجات المتعلمين بالشكل التقليدي، فإما أن يسعى إلى تغيير عاداته من خلال تقاسم الافكار مع زملائه أو القيام بالتكوين وبالتالي يغير سلوكه، أو يلجأ ،على النقيض، إلى طريقة أخرى للتقليل من حدّة التنافر المعرفي لديه، بأن يسعى لتغيير تصوّراته المعرفية للواقع فيقوم مثلا بإقناع نفسه أن كل ما كان يقوم به منصف للمتعلمين وأن استعمال المعايير هدر للوقت والجهد وأن كل أنواع التقويم يؤدي إلى نفس الهدف، أو يمكن أن يرفض التغيير لأنه يرى أنه لم ينصف ماديا أو معنويا، فيكون سلاحه التهجم على منظري الإصلاح.
وتعزز نظرية النظم (théorie des systèmes) تفسير معارضة التغيير ،ذلك أن كل نظام يتكون من عناصر تتفاعل فيما بنيها للحفاظ على التوازن. فيأتي التغيير ليخلخل تماسكها و توازنها، وبالتالي يكون تفاعلها مع الإصلاح، سلبا أو إيجابا، مرتبطا ببرنامجها وتوجهاتها. هكذا، فعند إرساء إصلاح تربوي في مجال التعليم، يمكن أن نصنف الفوارق في تعامل المدرسين مع الإصلاح إلى:
– مدرس مجدد يعتبر التجديد والتغيير نوعا من الانفتاح، حيث يسعى إلى تجريب المستجد والتفاعل معه والإبداع فيه بدون عقدة خوف من الاخفاق.
– مدرس معتاد يعتبر الإصلاح أمرا مألوفا ومعتادا ويتعامل معه بتغيير ممارسته وتعديلها وتقاسم خبراته مع زملائه دون أن يشكل الإصلاح عائقا بالنسبة إليه.
– مدرس ممتثل يغير سلوكه إرضاء للمؤسسة وينظر إلى التغيير باعتباره واجبا مهنيا.
– مدرس محافظ يتمثل الإصلاح تجريبا يشوش على التلاميذ، وان التغيير لن يأتي بجديد لكي يقوم بتعديل ممارسته الفصلية التي برهنت على نجاعتها وفعاليتها من قبل. والإصلاح بالنسبة إليه يشكل تهديدا مبطنا لعمله .وهدرا للجهد والوقت وتبذيرا للثروة.
– مدرس تبعي يرفض التغيير دون حجة أو سند ،دافعه أقوال الغير( زملاء، هيئات، جرائد…). والإصلاح بالنسبة إليه نوع من الايديولوجيا الذي تهدد استقراره.
– مدرس معارض يرفض أن تفرض عليه سلطة ما تغيير ممارسته. لأن الاصلاح في نظره ينبغي أن ينطلق من القاعدة إلى الأعلى، فالهرم لا ينبغي أن يكون مقلوبا .
على أن التغيير ممارسة طبيعية لدى الانسان تختلف حدتها من شخص إلى آخر ومن مجتمع لآخر. وقد يكون التغيير محطة مقايضة بين تلبية مطالب معينة، على شكل حوافز مادية أو معنوية، وارساء متطلبات الاصلاح. كما أن تغيير الممارسات الصفية يتطلب وقتا كافيا وتكوينا متينا وتتبعا مستمرا لأن أثر التغيير لا تظهر نتائجه بسرعة، لاسيما، إذا تعلق الأمر بالأداء المدرسي للمتعلم.
توفير ظروف التعلمات وتتبع أداء المتعلمين

إن تهييء ظروف التدريس بشكل سليم له وقع على جودة التعلمات، فكلما كانت الظروف ملائمة كلما جاء الأداء المدرسي جيدا. ويتجلى هذا في:
– توفير بنايات قادرة على استيعاب المتعلمين بشكل لائق،
– الحد من ظاهرة الاكتظاظ ،
– تجهيز المؤسسات بالوسائل الضرورية واللوجيستيك المعلوماتي،
– تأهيل وتكوين المدرسين والمدبرين للشأن التربوي وتحفيزهم وتأطيرهم بشكل مستمر،
– تنقيح وتشذيب وتهذيب المناهج و الاكتفاء ،ما أمكن، بالأساسي والحيوي.
خاتمة:

إن الوعي، اليوم، بثأثير التحولات التي يعرفها المجتمع على المدرسة أصبح معطى مألوفا و أمرا معلوما عند كل منظري النظم التربوية، لكن آليات تكييف وتحويل وظائف المدرسة كي تواكب هذه التحولات يتسم بالبطء، لا سيما الممارسات التدبيرية والصفية التي تعاني نوعا من الركود، وتفتقد إلى القدرة على مجاراة المستجدات. ولعل من أسباب ذلك فقدان الرغبة في التجديد، والاكتفاء بالماضي، ومقاومة التغيير و ضعف الوازع المهني، مما يؤدي إلى تأويل منحرف ومغرض لوظائف المدرسة .
إن تدبير الثقة داخل المؤسسة صعب البناء ويتطلب وقتا وجهدا كبيرين. كما أن معارضة التغيير شيء طبيعيا في ممارسات الإنسان لذا وجب التعامل معه في سياقيه الاجتماعي والمهني. مع العمل على تحفيز الأطر العاملة بالمؤسسة ومراقبة مدى التزامها بالمهام المسندة إليها. إن المدرسة في حاجة إلى ثقة الانسان من أجل وبالإنسان.
(*) دكتور في علوم التربية المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين
الدار البيضاء -سطات
(*) دكتور في ديداكتيك اللغة العربية المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين
مكناس


الكاتب :  د.عبد السلام ميلي (*) /  د.رشيد حجيرة (*)

  

بتاريخ : 27/09/2017