أنقذني محمد «عابد الجابري» من كمين طائفي كان سيودي بالحوار إلى خطاب الكراهية…
عشر سنوات مرت على رحيل المفكر المغربي «محمد عابد الجابري» إلا أن روحه مازالت تخاطب عقول الناس وتفكيرهم عبر كتاباته ومساهماته الفكرية والفلسفية التي يصعب حصرها ومن بينها: سلسلة «نقد العقل العربي» والتي تعتبر أشهر مؤلفاته، وأيضا «نحن والتراث»، «العصبية والدولة»، «التراث والتجديد»، وغيرها الكثير من مؤلفات أغنت المكتبة العربية وأسست لمناهج جديدة.
صاحب مقولة «تمشرق المغرب وتمغرب المشرق» تميز أيضا بطريقة وأسلوب خاص في الحوار وهو ما انعكس بأشهر نقاشاته مع المفكر المصري «حسن حنفي»، «حوار المشرق والمغرب» الذي كان ينشر عبر حلقات مكتوبة بمجلة «اليوم السابع»، حول مجموعة من القضايا العربية المهمة، قبل أن يتحول سنة 1990 لكتاب من تقديم الأستاذ فيصل جلول الذي كان مرآة «الاتحاد الاشتراكي» لأحداث وأسرار تعرف لأول مرة عن «الجابري» خلال إعداده لهذا المشروع.
n بمناسبة مرور عشر سنوات على غياب المفكر الدكتور «محمد عابد الجابري» كنتم من بين قلة من أصدقاء الجابري المعروفين لذا نتوجه إليكم بالسؤال حول ظروف التعارف بينكما خصوصا أنه كان شريككم في الكتاب الشهير «حوار المشرق والمغرب» كيف وفي أية ظروف تم التعارف بينكما وكم دام من الوقت؟
pp عرفت الراحل الكبير الصديق محمد عابد الجابري للمرة الأولى في تونس في أواخر ثمانينات القرن الماضي، عندما كنت مدعوا بصفتي الصحافية لمتابعة ندوة حول الفكر العربي جمعت مغاربة ومشارقة في العاصمة التونسية. وكنت حينذاك قد بدأت استقر في باريس واعمل في مجلة «اليوم السابع» الأسبوعية التي كانت تصدر من باريس وكان الجابري يكتب مقالا دوريا فيها.
شاءت الصدفة أن يصل معي إلى تونس في اليوم نفسه المفكر المصري الراحل «سمير امين»، كان جاري في المقعد خلال الرحلة، وكان تعارفنا ميسرا لأنني كنت أعمل في المجلة الباريسية المهاجرة، الحديثة الظهور واللامعة منذ سنتها الأولى 1984 وسط النخب العربية بصورة خاصة وكان مدير الإدارة فيها السيد المرحوم «رشيد سكيرج» وهو شخصية مغربية معروفة آنذاك.
كان عملي في المجلة يكفي لأن يفتح أمامي باب التعارف واسعا في فرنسا والعالم العربي.
لم تجذب تلك الندوة حشدا من الإعلاميين، ولفتني فيها التونسي الدكتور هشام جعيط أيضا وقد صرنا من بعد أصدقاء، مما كان حاضرا في الندوة الناقد والمترجم الراحل السوري «جورج طرابيشي» والناقد السوري» الراحل محي الدين صبحي وآخرين كثر.
كان رئيس تحرير «اليوم السابع» الأستاذ بلال الحسن، قد تحدث مع الجابري حول مشاركتي في الندوة. لذا ما كدتُ أتوجه نحوه للتحية قبل الدخول إلى قاعة الندوة حتى رأيته يطلق ابتسامة واسعة وهو المعروف بتحفظه وملامحه الصارمة، وقبل أن أعرفه بنفسي قال لي بأنه سعيد بهذا اللقاء. سيذكر لي من بعد أنه تعرف إلي قبل أن نلتقي، من خلال ملف ميداني نشرته المجلة و أشرفت عليه. كشفتُ فيه النقاب للمرة الأولى في العالم العربي، عن المقاومة اللبنانية التعددية العلمانية واليسارية والإسلامية للاحتلال الاسرائيلي. وقد صدر الملف من بعد في كتاب مستقل أعيد طبعه ثلاث مرات وسنتحدث مطولا حوله مع الجابري الذي روى لي جوانب من تجربة المقاومة المغربية ضد الاستعمار.
منذ اللحظات الأولى في تونس بدا الجابري ودودا للغاية، الأمر الذي يقطع مع صورته المتقشفة كما ذكرت. بل أصرّ ان أجلس الى جانبه طيلة المداولات رغم أنني كنت مراقبا و لست مشاركا في الندوة. ولا بد من الاعتراف هنا بأن الندوة لم تحظ بأصداء واسعة. كنت الوحيد من خارج تونس وما كانت الصحافة المحلية مهتمة بها. كان الجابري خلال المداولات يهمس في أذني ملاحظات مدمرة على بعض المداخلات والمتدخلين. منذ ذلك الحين سأعرف أهمية القياس العقلي عند هذا المثقف العضوي الكبير وسنلتقي من بعد في باريس والمغرب وبيروت وكان آخر لقاء جمعنا في صنعاء عام 2005 في ندوة حول الديمقراطية بالعالم العربي وسنلبي معا حينها دعوة الشاعر اليمني المعروف الدكتور «عبدالعزيز المقالح» لحضور ندوة مغلقة في مركز الأبحاث والدراسات اليمنية تم تصويرها ولا أعرف مصير الشريط، دارتْ حول شروط النهضة العربية وارتباط النهوض بتطوير العقل العربي وفقا لمرجعياته الأصلية.
بعد هذه الندوة كنا نتواصل عبر الهاتف واذكر أنني تحدثت إليه قبل وفاته ببضعة أشهر لأخبره أنني أحضِّرُ الطبعة الخامسة من كتابنا المشترك «حوار المشرق والمغرب» فقال لي بأنه مريض للغاية وبأنه سيكون سعيدا لو ظهرت طبعة جديدة منقحة وتنطوي على نصوص لم تنشر من قبل. ستصدر تلك الطبعة في بيروت بعد وفاة الجابري وهي الأخيرة الشرعية والكاملة حتى الآن بعد قرصنة الكتاب وتشويهه في أكثر من بلد وبخاصة عبر النت. سأرافق الجابري في «اليوم السابع» حتى احتجابها وسأقترحه من بعد لكتابة مقال دوري في مجلة «الوسط» اللندنية حتى إقفالها أيضا.
كان الروائي المغربي الصديق «احمد المديني» صلة الوصل بيننا عندما يأتي الجابري إلى باريس. كان يستضيفنا في بيته ومازلت أذكر ضحكة الجابري العريضة حين قال لي «المديني» ذات عشاء «تخيل أن أموال العقل العربي تذهب للعقل الأمريكي مباشرة. صديقنا الجابري يأتي إلى باريس لإجراء فحوص طبية مدفوعة الأجر في المستشفى الأمريكي في باريس «فيرد الجابري معلقا «بل العقل العربي يحسن الاختيار فيما يفيد ولا يضيره جنسية الدواء ما دام الغرض هو القضاء على الداء». وما زلت أذكر انسحابه من ندوة كانت منظمة في باريس حول ضرورة انسحاب الجيش العراقي من الكويت وانسحاب الجيش الأمريكي من الخليج. كان الجابري متحدثا فيها لكننا علمنا قبل دقائق من بدايتها أن السفير الاسرائيلي سيشارك فيها فانسحبنا المديني وأنا وتبعنا الجابري الذي صعد إلى المنصة وقال للجمهور إنه سيقاطع بسبب مشاركة السفير الاسرائيلي الذي فرض على الندوة خفية.
وكان الصحافي الكبير الراحل «الباهي محمد» زميلي في «اليوم السابع» ورفيق الجابري في حزب «الاتحاد الاشتراكي» المغربي من أصدقائنا المشتركين أيضا فضلا عن أحد طلابه ومريديه الدكتور «أسامة جابر» الذي كان صديقا لابنه صلاح وقد قدمه لي «الجابري في باريس منذ سنوات تعارفنا الأولى، كنا نتواصل هاتفيا وعبر الفاكس والايميل ومازلت أحتفظ بجزء من مراسلاتنا المشتركة وسأسلمها في أول فرصة لأسرته.
تعرفت من خلال نقاشتنا عن كثب إلى العقلانية الرشدية وأنا أشرف الآن مع صديقي «سامي كليب» على وثائقي يتحدث عن علاقة ابن رشد بالسلطان الموحدي يعقوب المنصور وذلك لتوسيع الاهتمام بالتجربة الرشدية.
من طرفي لفتت انتباه «الجابري» إلى الجانب الانتروبولجي في الخلافات القبلية العربية بعد وفاة الرسول(ص) وأثرها في الانقسامات الدينية التي تمت من بعد. وأكد لي أنه كان يعمل على هذا الجانب الذي سيصدر من بعد في العقل السياسي العربي وفي نصوص أخرى. كان الجابري صديقا ودودا ومحبا رغم فارق السن والتجربة والاهتمام بيننا. ومازلت أعتقد بأن فكره لم يصادف فرص الانتشار الكافية التي يستحقها.
الفتُ انتباهكم هنا إلى أن «مشروع حوار المشرق والمغرب» كان القاعدة التي بنيت عليها صداقتنا واستمرت حتى وفاته، خصوصا أن هذا المشروع كان ومازال فريدا من نوعه في الفكر العربي الحديث.
n مادامت الصداقة قد تجسدت في «حوار المشرق والمغرب» فهل تشرح لنا لماذا هذا الكتاب وما هي ظروف إطلاقه وما أهميته ؟ وما هو سبب اختيارك للجابري وحنفي؟
pp في العام التالي لندوة تونس فوجئت بوصول الجابري إلى مجلة «اليوم السابع» من دون علم مسبق. قال لي أنه قرر السفر لأسباب خاصة في اليوم نفسه. فاقترحت أن نلتقي على غداء في مطعم قريب من موقع المجلة في دائرة باريس السابعة عشرة.
عرضت عليه أثناء الغداء أن ننظم حوارا على صفحات «اليوم السابع» بين مفكر مغربي ومفكر مشرقي حول عناوين اقترحها عليهما وأن نطلق عليه اسم «حوار المشرق والمغرب» على أن يكون هو من المغرب ووعدته باختيار مفكر من المشرق يليق بالحوار. قال لي إنه يثق باختياري وأنه مستعد للمشاركة في الحوار في أي وقت وبالطريقة التي أراها مناسبة.
لقد اخترت مواضيع الحوار واخترت المتحاورين «محمد عابد الجابري وحسن حنفي» واخترت المتدخلين بعد نهاية الكتاب وكتبت بعد نشره في المجلة دراسة حول محتواه وصلت في آخر طبعة إلى خمسين صفحة.
أما عن الفكرة التي تقف خلف الحوار، فقد لاحت لي بعد انهيار الحرب الباردة ونشوء تكتلات جهوية عربية خارج الجامعة العربية. البداية مع «مجلس التعاون لدول الخليج العربي» عام 1981 ومن ثم «اتحاد دول المغرب العربي» عام 1988 ومن بعد «مجلس التعاون العربي» عام 1989 الذي ضم اليمن ومصر والأردن والعراق. مع نشوء هذه التكتلات بدأ الحديث عن الأسس التاريخية للتيارات الجهوية في العالم العربي، وبخاصة الحديث التعميمي السيء عن المشرق العربي المأخوذ بالغيبيات والمغرب العربي العقلاني وسادت مقاربات من نوع أن المغرب يجسده ابن رشد العقلاني والمشرق ابن سينا الروحان، وكان هذا التفكير مبنيا على الافتراق الكبير بين أبي حامد الغزالي المشرقي وابن رشد الاندلسي المغربي. لكن هذا الاختزال والتبسيط المُخِل كان يتناقض مع الوقائع التاريخية الناظمة للعلاقة بين المشرق والمغرب.
كان تفكيري منصبا على تسديد ضربة قوية لهذا التفكير الجهوي الخطير وتبيان محدودية الاختلاف الجهوي وحصره بالجغرافيا فقط والتشديد على المشتركات الأساسية بين المشرق والمغرب. واذا عدنا للتجارب السابقة في هذا المجال فإننا لن نجد حوارا بين المشرق والمغرب لأن هذا التقسيم حديث العهد وقد نشأ مع الاستعمار، وإن وجدنا شيئا من هذا القبيل سنجده في مناسبة صدور العقد الفريد ل ابن عبد ربه الأندلسي وفيه يروي أخبار المشرق والمسلمين عموما وقد ذاعت شهرة الكتاب إلى حد أن طلبه الوزير البويهي الصاحب بن عباد وبعد الاطلاع عليه قال عبارته الشهيرة «هذه بضاعتنا ردت إلينا».
حددتُ عشرة مواضيع للحوار هي : في معني الحوار ومقاصده. الأصولية والعصر. العلمانية والإسلام. الوحدة العربية. الليبرالية. الحداثة والتقليد. الناصرية. العرب والثورة الفرنسية. القضية الفلسطينية. وقفة للمراجعة.
وطلبت خلال الحوار من مجموعة من المثقفين العرب متابعته لكي يعلقوا من بعد على مجرياته وقد شارك في التعليق كل من ناصيف عواد من العراق وصلاح احمد ابراهيم من السودان وجورج طرابيشي من سوريا ومحمد الدغشي من اليمن وعبد لله بونفور من المغرب وعلي مبروك من مصر وعبد العزيز المقالح من اليمن ورمضان بسطاويسي محمد من مصر واحمد عبدالعليم عطية من مصر وكتب اخرون عن الحوار في صحف اخرى من بينهم رضوان السيد من بيروت واحمد عبدالمعطي حجازي من مصر وعبد الرزاق عيد من سوريا واخرون تمكنت من جمع نصوصهم في الطبعة الخامسة والاخيرة من الكتاب الصادرة كما ذكرت عام 2010 في بيروت عن الدار العربية للعلوم، وقد علق المتحاوران من بعد على كل الانتقادات التي ووجهت إليهما، استمر النقاش لحوالي ستة أشهر بين «اليوم السابع» وغيرها من وسائل الإعلام.
هنا لا بد لي من كشف بعض الأسرار التي أحاطت بإعداد الحوار واختيار المشاركين فيه. كانت فكرتي الأولى أن يكون الجابري ممثلا للمغرب والمفكر السوري «انطوان مقدسي» ممثلا للمشرق وقد تحدثت مع المقدسي بداية لكنه اعتذر بداعي المرض وكان متقدما في السن. فأخبرت الجابري بالرفض وقلت له إنني سأتصل بمراد وهبة من مصر ليكون شريكه في الحوار فنصحني ملحاً بالتخلي عن الفكرة لأن وهبة مسيحي و«سيسقط كثيرون الطابع الطائفي المسلم والمسيحي على الحوار» على حد تعبيره فيضيع السبب الفكري للخلاف ويحل محله السبب الطائفي. ويمكنني القول الآن، وللمرة الأولى أتحدث عن هذا الجانب، أن حكمة الجابري جنبتنا كمينا طائفيا كان سيودي بالحوار إلى المستنقع الطائفي الآسن. لكن الجابري نفسه لم يعترض من بعد على مشاركة جورج طرابيشي في نقد الحوار في حلقتين كبيرتين. وسيكمل طرابيشي نقد الجابري في كتب أخرى.
بعد استبعاد مراد وهبة اخترت الدكتور حسن حنفي من مصر فوافق الجابري من دون تردد. اخترت أن ابدأ الحوار بأن يعبر كل من الجابري وحنفي عن مقاصده من الحوار بعد أن عرضت أنا مقاصد المجلة منه على صفحتين كاملتين.
واعتمدت منهجا جديدا في الحوار المكتوب إذ كنت أطلب من الجابري أن يكتب نصا حول أحد عناوين الحوار ومن بعد أرسل النص إلى حنفي ليعلق عليه بنص آخر من الحجم نفسه ومن بعد أنشر النصين معا. وأعيد الكرة بالطلب من حنفي أن يكتب نصا وأرسله للجابري للتعليق عليه وأنشر النصين معا. وكنت أصر على أن يبدو النقاش وكأنه مباشر وأن يبدأ بعبارة عزيزي.
هنا أكشف سرا آخر وهو أن الجابري ناقشني مطولا عندما اقترحت أن يناقش المتحاوران عنوان الثورة الفرنسية وعلاقتها بالعرب. وكان العام نفسه هو عام احتفال فرنسا بالمئوية الثانية لثورتها البورجوازية.
كان حنفي محبذا للفكرة بقوة في حين اعترض الجابري بقوله « … إننا لا ندين للثورة الفرنسية في عالمنا العربي الإسلامي بشيء وأن الثورة الوهابية تركت تأثيرا أكبر منها وأن لا علاقة لحوار المشرق والمغرب بهذا الحدث المهم لأصحابه خصوصا أن الثورة أفضت من بعد إلى احتلال دول عربية، مصر أولا والجزائر من بعد» والبقية تأتي.
رغم اعتبارات الجابري الوجيهة، كان لا بد بالنسبة لي من نقاش الثورة الفرنسية لأن أفكار التنوير التي مهدت لها شكلت خلفية للصراعات الملكية والجمهورية في العالم العربي في العصر الحديث وكانت أفكارها متداولة بين التيارات اليسارية والعلمانية والقومية.
سيقدم الجابري اعتراضاته مفصلة على الثورة الفرنسية وكونها لا تشكل مرجعية في فكرنا العربي بالمقارنة مع الوهابية في الجزيرة العربية ومصر والسنوسية في ليبيا والمهدية في السودان والشوكانية اليمن.
وسأكشف سرا ثالثا يتصل بهذا الحوار فقد رفض الجابري رفضا قاطعا أن يرد على الذين هاجموه وأعطيتهم أنا حق الرد على صفحات المجلة. قال لي ما كان يقوله عادة لمن يطالبه بالرد على من تعرض له بالنقد أو التجريح «أنا أعرض أفكاري وكتاباتي على الناس. هناك من يتفاعل معها بطريقة سلبية وهناك من يتفاعل معها بطريقة إيجابية. هذا التفاعل يهمني لأنه يبين أن ما كتبته مثير للاهتمام وبالتالي لا جدوى من الرد».
كنت ألح على الجابري وأتمنى عليه يوميا كي يغير رأيه خصوصا أنني وعدت القراء بأن أختم الحوار بتعليق أخير من المتحاورين وبالتالي مع عدتُ قادرا على التراجع عن وعدي. من جهة أخرى كان الدكتور حنفي مصرا على الرد على منتقديه فلا يجوز نشر رد محاور دون آخر.
قبل الجابري جراء ضغطي المتواصل عليه وهنا أقول ضغط المحب طبعا، قبل مكرها وقد أشار إلى ذلك في تعليقه الأخير في الكتاب إذ ذكر «… لقد ألح علي منظم هذا الحوار والماسك بزمامه في المجلة إلحاحا واستعمل جميع الوسائل المشروعة لإقناعي بوجوب التعقيب فقبلت مترددا وما زلت مترددا وأنا اكتب هذه السطور».
لا بد من الإشارة هنا أيضا إلى أن «حوار المشرق والمغرب» نشر من بعد في كتاب مستقل في المغرب عن «دار توبقال» وبحماس كبير من الأديب المغربي «محمد بنيس» وتمت قرصنته في بيروت بعد شهور من الطبعة المغربية، إذ أقدمت إحدى دور النشر المشرقية على نشر جزء من أجزائه الثلاثة وأخرجته من سياقه. وقد بادرنا الجابري وحنفي وأنا إلى تنظيم حملة إعلامية للتشهير بالدار المقرصنة وانتهت الحملة بأن تعهدت الدار بسحب الكتاب من السوق وبدفع حقوق النشر لكن الكتاب لم يسحب مع الأسف واقتصرت حقوق النشر على فتات لا قيمة لها. وقرصن الكتاب مجددا في القاهرة هذه المرة في مطلع الألفية الثالثة وقرصن مرارا عبر تصوير أجزاء منه ونسبه المقرصنون إلى الدكتور حنفي وقالوا أنه أعطاهم حق النشر فيما الحق الحصري لي شخصيا بإفادة خطية موقعة من حنفي والجابري باعتباري صاحب المشروع من ألفه إلى يائه. وقرصن الكتاب مؤخرا في العام 2017 عبر النت بنسخة مصورة.
ولقطع الطريق على أعمال القرصنة بادرت شخصيا إلى إعادة طبعه في بيروت بعد مرور عقدين على صدوره وأضفت إليه نصوصا لم تنشر في النسخة الأولى وعليه فإن الطبعة الكاملة من «حوار المشرق والمغرب» هي طبعة الدار العربية للعلوم الصادرة في بيروت عام 2010 وأنا الآن أفكر بإعداد طبعة جديدة مماثلة للطبعة البيروتية.
وهذه بعض من رسائل «محمد عابد الجابري» أرسلها إلى فيصل جلول مستنكرا أعمال القرصنة التي طالت كتاب «حوار المشرق والمغرب»
n كيف كانت ردود فعل القراء على مشروعكم ل «حوار المشرق والمغرب» وهل حقق الغرض الذي كان وراء إعداده؟
pp لا أبالغ إن قلت إن حوار المشرق والمغرب اعتبر في حينه حوار نهاية الألفية الثانية. وقد ناقشت شخصيا عددا من حلقاته خلال زياراتي لدول عربية عديدة في اليمن والمغرب وتونس وموريتانيا والأردن ولبنان والقاهرة. ومازالت الآراء الواردة في الكتاب قيد النقاش والتداول حتى يومنا هذا، كما وردتني رسائل عديدة من طلاب جامعيين في أقطار مختلفة يريدون تحضير أطروحات جامعية حول الحوار.
وهنا اكشف سرا آخر وهو أن الجابري كان يرفض نزوع الدكتور حنفي لنشر الكتاب دون الأخذ بعين الاعتبار رأيي بوصفي صاحب المشروع ورأيه هو بوصفه محاورا اساسيا فيه. كان حنفي يعتبر أن الترويج للكتاب حتى عبر القرصنة هو أفضل من حصره في دار نشر واحدة لكنه التزم من بعد فيما قررناه وخاض معنا معركة مكافحة القرصنة.
ولا أبالغ أيضا بالقول بأن الحوار ساهم في توسيع الاهتمام بأفكار الدكتور «محمد عابد الجابري» الذي كان معروفا على نطاق واسع في المغرب فكانت مشاركته في الحوار وردود الفعل على أطروحاته في وسائل الإعلام العربية المختلفة مهمة للغاية في اتساع حضوره في النقاش الفكري في العالم العربي.