«مجتمع اللاَّتلامُسَ: سيلفي لعالم آيل للانهيار» لفرانسوا سالتييل
إهداء
إلى مايا، صولال، ونوح :
أَبدًا، لاتَنْسُوا أَنْ تَظَلُّوا
بأعْيُنٍ مُتَطَلِّعةٍ، و أيَادٍ مَمْدُودَةٍ.
مقدمة
لَوْ كانَ بحوزةِ راكِبِي “تَيْتَانِيك” “هواتفُ ذكيةٌ / SMARTPHONES”، كَمْ كانَ سَيَبْلُغ عَدَدُ الَّذين سينْساقُونَ وراءَ إغْرَاءِ الْتِقاطِ سيلفيّ، رُفْقَةَ الأوركستر البُطوليّ، الَّذي ظلَّ يُواصلُ العزفَ حتَّى لحظةِ الغَرَقِ؟
لَئِنْ كُنَّا، على هذا القدْرِ الكبيرِ من الارتباطِ بِهَواتِفِنَا، فليسَ لِكَيْ نُرَاجِعَ مُذَكِّرَةَ الأَجُنْدَةِ، أو لِنُشَغِّلَ المصباحَ الجَيْبِيّ، ولكنْ، لِكَيْ نَلْتَحِقَ بِمَوَاقِعِ التَّواصلِ الاجتماعيِّ الحَاسِمَةُ في شَأْنِ إِدْمَانِنَا.
يَلِيقُ بِنَا هُنَا، أنْ نَتَسَاءَلَ حَوْلَ هذه المِنَصَّاتِ الَّتي تَعْنِي كُلَّ الأَعْمَارِ.
يَتَسَلَّى الفِتْيَانُ «بسناب-شات» و»التكتوك»، والبالغونَ «بفايسبوك»، فِيمَا يَتَأَرْجَحُ الشَّبَابُ النَّشِطُ بَيْنَ «لينكدن/Linkedin»، و»تويتر»، و»أنستغرام». وإذا كانتْ هذه المِنَصَّاتُ تَخْتَلِفُ مِنْ حيثُ استعمالاتِها، فإنَّها، بِمَجْمُوعِهَا، تَسْتَوْحِي نَمَطَ اشْتِغَالِهَا من العلوم العَصَبِيَّةِ، وتِقْنِيّاتِ الِإقِنَاعِ، لِتَجْعَلَنَا دَوْماً، أَكْثَرَ تَعَلُّقاً بِخَدَمَاتِهَا.
«سيان باركر/Sean Parker» ذَاتَهُ، يُقَدِّمُ نَفْسَهُ بِوَصْفِهِ « هَاكْرْ، مُهِمَّتُهُ: اسْتِثْمارُ ثَغَرَاتِ سيكولوجيا الإنسان «. تَسْتَعْمِلُ مَوَاقِعُ التَّواصُلِ الاجتماعيّ بَعْضَ الأَدَواتِ المُشْتَرَكَة، شَأْنُهَا في ذَلِكَ، شَأْنُ بَعْضِ الخَدَمَاتِ الَّتي بَاتَتْ أَسَاسِيَّةً، بالنِّسْبَةِ إلى مَعِيشِنَا اليوميّ: «وِعَاءٌ بِلاَ قَاعٍ/Le Bottomless Bowl»، والإشْعارات. «وِعَاءٌ بِلاَ قَاعٍ»، مَفْهُومٌ قَدَّمَهُ «ب.ج.ڨوك /B.j.Foog»، مُدِيرُ قِسْم ستانفورد للتَّصْمِيمِ السُلُوكِيّ، (Stanford Behavior Desinge)، بالجامعة الَّتي تَحْمِلُ نَفْسَ الإِسْمِ. يقترحُ «ڨوك» على المُسْتَخْدِمْ روابطَ لانهائيَّة للمُسْتَجَدَّاتِ الإخباريَّة، أو على الأرجحِ، روابطَ خَاليةٌ مِنْ أَيِّ إشارةٍ للتَّوَقُفِ، على خِلاَفِ ما هي عليه الحالُ مَثَلاً، بالنِّسْبَة إلى جينيريك نهايةِ الأفلام في التلفزة، أو التَّوقيعُ أسفلَ مقالٍ صحفيٍّ.
يَظَلُّ الدِّمَاغُ الإنسانيُّ إِذَنْ، باحثاً باستمرارٍ، عن نِهايةٍ لنْ تَأْتي أبداً. القراءةُ الأوتوماتيكيَّة للفيديوهات، على «يوتوب»، أو «نيتفليكس» «Netflix»، تنخرطُ هي أيضاً، ضِمْنَ نفسِ الإستراتيجية. كلُّ شيءٍ مُعَدٌّ، مِنْ أَجْلِ تمديدِ وقتِ انتباهِنا. وكما كان يقول «ريد هاستانغ/ Reed Hastings»، مُؤَسِّسُ نيتفليكس، إِنَّ « المنافسةَ الحقيقيَّة لَدَيْنَا، هي نَوْمُكُمْ «. هكذا كَثَّفَتْ «نيتفليكس»، هذه المِنَصَّةُ الكاليفورنية، من إيقاعِ تَصَدِّيهَا لمورفيس/Morphée (إِلَهُ النَّوْم)». بدءاً من سنة 2020، مَرَّ الفاصلُ الزَّمَنِيُّ، الَّذي تَتَتَابَعُ بِمُوجَبِهِ حَلَقَتَان من نفسِ المُسَلْسَلْ، من 15 ثانية إلى ستة ثوان.
في ظَرْفِ ستَّةِ ثوان، لَيْسَ للدِّمَاغِ حتَّى زَمَنَ التَّفكيرِ، فِيمَا إِذَا كَانَ السيناريو الجديد قد انطلق !اختطافٌ للعقلِ مِنْ أَجْلٍ إِشْبَاعِ غريزةِ البَصريّ.
تُقَدِّمُ «نتفليكس» خَيَاراً جديداً، يُتِيحُ لِلمستَخْدِمِ الرَّفْعَ من وثيرةِ سُرْعَةِ القِرَاءَة إلى حدود 50%، مُبْتَلِعاً على هذا النَّحْو، وفرةً مِنَ الصُوَرِ، وَمُخَاطِراً بِزَمَنِيَةِ الحَكْيِّ، وهو ما يَتَقَصَّدُهُ المُنْتَج، غيرَ مُكْتَرِثٍ لِحَجْمِ الخسائرِ. هكذا تَفْرِضُ «نتفليكس» نَفْسَهَا، بوصْفِهَا قاتلاً متسلسلاً لِلَيَالِينَا.
نَوْمٌ مُقَرْصَنٌ على أَيِّ حالٍ، وَبِكَيْفِيَةٍ صارِخَة، عَبْرَ هذهِ النُّقَطِ الضَّوئيَّةِ الصَّغيرة، الَّتي يُفَضَّلُ أَنْ تَكُونَ حمراءَ اللَّوْنِ، والَّتي تُذْكِي فينا الرَّغْبَة المُلِحَّة لِأَنٌ نَتَصَفَّحَ التَّطبيق، من أَجْلِ مطالعةِ ما يَتَخَفَّى وَرَاءَهُ.
مُتَقَافِزَة أمامَ أَعْيُنِنَا، تُبْقِينَا هذه الإشاراتُ الضَّوئِيَّةُ، داخل حالةٍ مِنَ اليقظة والأملِ الدَّائِمَين، قد نَعْثُرُ، عَبْرَ النَّقْرِ، على إعجابٍ، «لايك»، أو على تعليقٍ، أو على صديقٍ جديدٍ، أو على متابعٍ آخر»Autre Follower»، أو ببساطةٍ، على مجرَّدِ إشعارٍ خَالٍ مِنْ كلِّ فائدة.
نحن خاضعونَ، إِذَنْ، لسُلْطَةِ «المكافأة غير المستقرَّة»، وهو مفهومٌ أَجْرَأَهُ، نَظَرِيّاً، الأخصائيُّ النَّفسيّ، «Burrhus Frederic Skinner». رَأَتِ التَّجْرِبَةُ النُّورَ في جامعة هارفارد، نَفْسُ المكان الَّذي شَهِدَ ميلادَ فِكْرَة «الفايسبوك». نَحْنُ هُنَا، في مرحلةِ الثَّلاثينات مِنَ القرنِ المَاضي، حيثُ النَّظَرياتُ السُلوكيَّة في أَوْجِ رَوَاجِهَا. يَتَعَلَّقُ الأَمْرُ، في مرحلةِ أُولَى مِنَ التَّجْرِبَة الإختباريَّة، بِمَجْمُوعَةٍ مِنَ الفِئْرَان (طبعاً، لَيْسَتْ تِلْكَ الَّتي نَنْقُرُ بها على شَاشاتِ الحواسيبِ)، بِحَوْزَتِهَا زِرٌّ مسؤولٌ عَنِ التَّوزيعِ الأوتوماتيكي للطَّعَام، ما إِنْ يَتَعَوَّدِ الحيوانُ على فِعْلِ التَّلاَزُمِ بين الضَّغْطِ على الزِّر، وبَيْنَ الحُصُولِ على الطَّعامِ، حتَّى يَنْضَبِط لهذا المَبْدَأْ، فَلاَ يَضْغَطَ الزِّر إِلاَّ لحظةَ إِحساسهِ بٍالجوعِ. لَقَدْ تَعَلَّمَ على نَحْوٍ مَا، كَيْفِيَّةَ اشتغالِ الآلةِ. في شَكْلٍ آخَرَ للتَّجْرِبَةِ، يُقَدِّمُ الزِّرُ نَفْسُهُ، تَارةً، أَطْعِمَةً عَدِيدَةً، و أحياناً، بَعْضَ الفُتَاتِ، وفي بَعْضِ الحالاتِ، لاَشَيْءَ. ينتهي الأَمْرُ بِالقَارِضِ إلى التَّعَلُّقِ بهذا الميكانيزم غَير المستقرِّ، والاعتباطيِّ. مدفوعاً بِحَافِزِ احتمالِ الحصولِ على المكافَأة، لَمْ يَعُدْ بِإمكانِ الفأْرِ أنْ يَنْفَصِلَ عَنِ الزِر، حتَّى الجوعُ يَغْدُو ثانوياً بالنِّسبةِ إليه، هكذا يَجِدُ الفأرُ نَفْسَهُ، وَقَدْ أَعْمَتْهُ سَيْرُورَةُ هذا الإدمانِ، تَحْتَ رحمةِ الآلة. إنَّها إِحْدَى التِّقنِيَّاتِ الَّتي كانت وراءَ نجاحِ الكازينوهات وصناعةِ اللَّعِبِ.
يَوَضِّحُ هذا الأمر، جَيِّداً، «Tristan Harris»، المهندسُ السَّابق لدى «غوغل»، قائلاً: «يَلْزَمُنَا جهازُ المِنَصَّات بالضَّغْطِ على زِرٍّ، أو الانزلاقُ بِإِبْهَامِنَا أسفلَ الشَّاشَةِ، لِتَحْيِينِ رابطِ المستجدَّاتِ الإخباريَّةِ على المِنَصَّةِ تماماً، كَمَا هي الحال بالنِّسْبَةِ إلى الذِّراعِ الرَّافعِ في آلةِ القِمَار». يَشْرَحُ «هاريس» كيفَ أنَّ التَّطبيقات يُمْكِنُهَا، آلِيًّا، أن تُشَغِّلَ المُحْتَوَى، دُونَ مساعدةٍ مِنَ المُسْتَخْدِمِ، الَّذي مع ذلك، تَجْعَلُهُ، وتدفعُ به مباشرةً، إلى الإدمانِ.
جميعُنَا نَحْنُ، هذه الفئران، في مُواجَهَةِ اللِّص «مَبْتُورُ الذِّرَاعِ»، الخَاص برافعةِ آلةِ القِمَار، والَّتي تكادُ دوماً، تُكَبِّدُنَا خسائرَ باستمرارٍ. إِنَّهُ «برونوباتينو/Bruno Patino»، مرَّةً أُخْرَى، مَنْ يُقَارِبُ جَيِّداً، في كِتَابِهِ « حضارة السمكة الحمراء «هذه الإشعارات، والَّتي لاتَكُفُّ عَنِ الحُدُوثِ، يقولُ» برونو : «داخلَ العَتَمَة، كَتَقْطِيرٍ طِبِّيٍّ، تُغَـذِّي الإشعاراتُ، مهمَّةً كانتْ أَمْ سَخِيفةً، عُزْلـَةَ وُجُـودِنَا المُتَّصِل».
ثَمَّةَ نصيحتانِ على دربِ الخلاصِ، أُولاَهُمَا: أَنْ تُحَاوِلَ تعطيلَ هذه الإشعارات، لِتَكُونَ بمنأى عن تأثيرِها، وثَانِيَتِهِمَا : أَنْ تُدَبِّرَ زمنَ الشَّاشَة، الَّذي يُمْكِنُ أَنْ تُقَضِّيَهُ أمام نِظَامِ الجِهَاز، والَّذي هو نَفْسُهُ تقريباً، بالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ الهواتف «الذَّكِيَّة» / «Smartphones”.
وأنا بِصَدَدِ كتابةِ هذه الأَسْطُر، أَقْضِي مَالَا يَقِلُّ عَنْ ثَلَاثِ ساعاتٍ ونِصْفِ السَّاعَةِ يوميًّا، أمامَ شاشةِ الجهازِ، دُونَ هذا المُؤَشِّرِ، لَنْ يَكُونَ بإمكاني قيَّاسُ حَجْمَ اسْتِهْلاكِي المُفْرِطِ.
قَدْ تَبْدُو هذه المعلومات مُرَائِيَّةً، تماماٌ كَالتَّحْذِيرِ الشَّهِيرِ الوَارِدِ على ظَهْرِ عُلَبِ السَّجَائِرِ، «التَّدْخِينُ يَقْتُلُ»، لَكِنَّهَا، على الأَقَلّ، يُمْكِنْ أَنْ تَسْتَفِزَّ ضمائِرَنا.
إذا كانتْ صالاتُ القِمَارِ، قَدْ رَفَضَتْ دَوْماً، تَثْبِيتَ ساعةٍ حَائِطِيَّةٍ داخِل أَوْكَارِهَا، فَإِنَّ هَوَاتِفَنَا «الذَّكِيَّةَ»، حَرِيٌّ بِهَا أَنْ «تُوَافِقَ» على وَضْعِ بَنْدُولٍ خَفِيٌّ في أقْصَى عُمْقِ الجِهازِ. هَلْ أَنْتُمْ مُسْتَعِدُّونَ إِذَنْ، لِوَضْعِ زَمَـنَ إِبْحَارِكُمْ، على الشَّاشَة، مَوْضِعَ انتباهٍ، حَتَّى تُعِيدُوا عقاربَ السَّاعةِ إلى نِصَابِهَا ؟