في مستهل هذه القراءة ،لابد من الإشارة إلى علاقة العنوان الذي ارتضيناه ثريا على سقف النص تضيئ عتماته بشخصية الكاتب حسن إغلان من جهة، والكاتب العظيم خورخي لويس بورخيس صانع المتاهات، من جهة ثانية.
الإشارة الأولى هي علاقة المتاهات والمرايا بكتابات خورخي لويس بورخيس ، وعلاقة التشابه الحاصل بين الكاتب، المبدع حسن أغلان وبين بورخيس من حيث العمى من جهة ثانية، حيث يتشابهان حد التطابق في علة الإبصار. فللإشارة فكلاهما يرى ويبصر بحاسة القلب والعقل والوعي والحدس والإدراك الباطني والإحساس الجواني، المؤديان إلى التفلسف والتساؤل والشك والحيرة للانخراط بعد ذلك، في مغامرات استكشافية لا متناهية للبحث عن الحقيقة. حسن إغلان كاتب مبدع، واحد من قافلة المبصرين الذين قهروا العتمات، و استشعروا الدنيا بنفاذ بصيرتهم وعزمهم الذي لا يلين وحدسهم الذيلا يخطئ.الكتابة لديهما ليست بهدف إثارة الفضول لدى القارئ والدهشة، بل إرباكه حدّ الوقوع في الشك والريبة، وخلق القلق لديه، لطرح السؤال. وهنا أجترح قولة للصديق المبدع علي اوعبيشة “النص خدعة، يحتاج إلى حسٍ إجراميّ فائق”، حيث يتجاوز النص السردي ، لدى كل من حسن أغلان و بورخيس هدف خلق فتنة الحكي، إلى فهم وتأويل المعرفة التي ينطوي عليها .وهنا أكون قد فضحت نوايا هذه الرواية التي تخلق لدينا منذ الصفحات الأولى الإرباك والدوار، وبالتأكيد فالرواية التي تخلق هذا الارتباك تبقى ،في اعتقادي الشخصي، أجمل الروايات وأمتعها على الإطلاق.
التشكل وإعادة التشكل
وإذا كان زمننا هذا الذي نعيشه زمنا متشظيا، في واقع متشظ، حيث تغيب الطمأنينة ويغيب الثبات، ويطغى ميسم التحول والتغيّروالتخلّق والتبدّل على كل المستويات، فأحداث رواية “سيدة العتمات” تعطي الانطباع أنها تسير في هذا الاتجاه، حيث كل شيء قابل للتشكل، وإعادة التشكل، والتعدد في الواحد الأحد / عقا الأول وعقا الثاني و..،بل عقا الثالث يمثل الوجه الواحد المفرد المتعدد الذوات والأوجه من خلال تقاطعات أحداث سابقة وأخرى لاحقة، وأخرى تتشكل في صيرورة التنامي الدرامي للأحداث، في توافق وتتواشج مع ما أومأنا إليه من إشارة إلى ما هو عليه الواقع المعيش . حيث سعى الكاتب في زواج سردي وثني، أن يمزج الواقع بالخيال، والقصة بالحكاية الشعبية والخرافة، دون أن يكون ذلك هدفه ولا مبتغاه، وبذلك تخلص من خطية السرد القائم على تسلسل زمني منطقي يراعي الحدث الأول، أو ما يسمى بالحدث النوى وما تتعالق به من أحداث صغرى ، حيث هي التوابع أو المحفزات المساعدة على انجاز خيارات الأحداث النوى، بل تتناسل الحكايا من بعضها البعض . وعوض أن تتضافر لتشكّل كلّا واحدا فإننا نجدها تتشعب لتعطي نصا متعدد الدلالات، يمكن للقارئ المتلقّي، تأويلها وفهمها وقراءتها حسب ذائقته الإبداعية ومحموله القرائي، ومرجعياته الفكرية، ومستواه المعرفي، بطرق متعددة ومختلفة ،و صياغة معانيها بدمغة حبرٍ مختلف يتماشى ومخزونه الشخصي من التجارب الحياتية أو مستفيدا من جماليات التلقي وآليات التأويل، علما أن الرواية لا تعتمد عناوين فرعية، ــ كما نجده في الكثير من الروايات ــ تقود باتجاه تأطير الحكاية أو تسهيل مهمة القارئ، وحتى الكاتب نفسه، بل تبدو سيدة العتمات كلا لا يتجزأ، كلما توغلنا في أحداثها تزداد كثافة، وتكثر التساؤلات والقلق، ككرة ثلج متدحرجة من الأعالي، ولا أمل في الوصول إلى نهاية ، ليشيد من خلالها بناءه السردي.وهكذا يتضح جليّا أن الكاتب ومنذ البداية عمد ــ مع سبق الإصرار والتعمد ــ لتشييد بناءه السردي عن طريق عجن زمن الحكاية بزمن الخطاب، ليفتح متاهة متشعبة الأنفاق ،لا يخضع فيها الترتيب الخطي والتوالي المنطقي لأحداث الحكاية. .يقول حسن اغلان في إحدى مقالاتة متاهة نيتشه بالقدس العربي 10ماي 2014” إنها كتابة تفتح المتاهة لا لتغلقها بل لتؤجل غلقها عبر الحجب والنسيان”1 وهذا ما نلفيه لديه في أحداث سيدة العتمات التي تتلولب، وتمتد وتتسع، لكن بطريقة زئبقية يصعب الإمساك بنواصيها أو خواتمها، ما تلبث أن تزجّ بالمتلقي في زوبعة من الثنائيات والتقابلات التي أسميها تقابلات متنافرة، لا تعكس دلالاتها ومدلولاتها، إذ المتداول هو أن المعاني والدلالات تُعرف بأضدادها، بل تحمل بدواخلها أضدادها.
وإذ أردد مع السارد كما في الصفحة 18 أنني في قراءة أولى وثانية )««حاولت فهم هذا الاشتباك الخطير، لكني تيقنت بلا نهائيته.أدركت ذلك ، ربما لفهمي القاصر، وربما لصعوبة الإحاطة بمجال لا يفقهه سوى رواة المقابر «».(2 انتهى كلام السارد.
بؤرة الحكي تبتدئ من فضاء غرفة معتّمة مشبعة بالعرق ومكتظة ببقايا نزالات جنسية. كل ما فيها يوحي بالفوضى واللانظام، لتغدو الغرفة وسيدة المكان / سيدة الأحباب، مثنى وجمعا بصيغة المفرد « كعبة الزائرين، والزائغين، و الرافضين بيوتهم ، والمهمشين، والحمقى، وسادة المدينة « (3).غرفة سيدة الأحباب تتخلّق فيها اللذة والألم، كما يُتطهّر فيها من الآثام والذنوب ، وهذا بيت القصيد ، حيث يختلط ــ منذ الوهلة الأولى ــ الجسد بالمكان، الذي بقدر ما يوجد فيه من لذة، بقدر ما يوحي بالسجن والارتياد الدائم حدّ الإدمان، وذلك من خلال ما توحي به التوقيعات المتنوعة بأسماء من كل البقاع، وبعلامات توحي وتحيل على الزنازن لأناس مروا من هنا، تماما كما يفعل السجناء عادة، على جدران الزنازن .وكل من دخل بيت السيدة لابد عائد إليه ك « المبحر في خواءات لاحدّ لها «4. الغرفة ساحة تضج بالمتلاشيات التي تحكي ألف حكاية وحكاية عن حشود بشرية هائلة مرّت من هناك . وفي غمرة انخراط السارد في لذته وما ان يجمع أعضاءه المشتتة على اللحاف « ص 6حتى يخاتلنا الراوي الأول بوقفة تفسيرية هدفها تكسير أفق الانتظار ناسفاً بذلك الأرضية الأولى للحكي والسرد المتعارف عليه منذ الوهلة الأولى، ليعلن في خطاب مباشر « «كان علي أن ابدأ هاته بطريقة أخرى لكن ظرفية المقام تستوجب قول ما لا ينقال، لذا أعدكم بمتابعة حكايتي بالطريقة التي تريحكم »»5 ص6 وهذه محطة انزلاق انذارية أولى مخاتلة، هدفها استفزاز القارئ وخلخلة أفق انتظاره وشد انتباهه لمواجهة القادم من السرود الملتوية المخاتلة بما يليق بهكذا طريقة في الحكي، وكذا للمشاهد غير القابلة للتصديق حينما انخرط الراوي في لجّة عالم الغرابة منذ أن سلمها جسده وعاثت فيه لذة ،في جلسة خمرية رفقة ندامى غرباء بغرفة سيدة الأحباب،ويرى بأم عينيه عقّا الشيطان الجني الصغير يخرج عاريا من فم أمه .حيث يقول تفتح سيدة الأحباب « فمها عن آخره ..ومن فمها خرج طفل …عار ….أما أنا فانظر إلى المشهد غير القابل للتصديق»» 6ص 7
وحتى لا يلتبس علينا نحن أيضا أمر البداية والنهاية في هذه الرواية غير العادية، لابد من قلب البداية عاليها سافلها، ونذكر أن الراوي كما يقول في الصفحة 89 « ««فأنا صحفي كلفت بالتحقيق في حدث محدد ، حادثة الصديق الذي مسّه عقّا ابن سيدة الأحباب ،طار عقله»»7 ظاهرة ناذرة حدثت لعدّي
يمكن اعتبار عقّا، في خطوة أولى لتفسير وتقشير المعاني ، رمزا للرقابة الذاتية التي يمارسها كل شخص على نفسه auto_censureوهي وسيلة من الوسائل المتعددة لتقويم النفس في فجورها وتقواها، وتصحيح أخطائها، وهفواتها، وذلك بالإحساس بالمسؤولية بما في ذلك « الإنسان على نفسه بصيرة « ونذهب في اعتقادي الشخصي باعتبار الابن عقّا حجّة عليها يوم الحساب والعقاب ..
وتساوقا مع الآية نضيف أيضا « لديه رقيب عتيد « كما يمكن أيضا توجيه دفة المعاني والدلالة والإحالة إلى نظرية العقل واللاوعي في نظرية التحليل النفسي عند فرويد أن للّاشعور علاقة بالسلوك المبرّر سطحيا، وحسب فرويد، ساحة الشعور هي مسرح يقع فيه الصراع بين الأنا الأعلى، الذي يتشكل فيه الضمير الخلقي، والهوى أي الغرائز وأقواها الغريزة الجنسية ، حيث أن الأول يقاوم إمكانية انتقال الغريزة إلى الشعور ، فالأنا الأعلى يمنعنا من الوعي ببعض الرغبات والذكريات التي تتجلى في السلوك الإنساني في شكل تصرفات آلية . وعقّا يحيلنا بشخصيته اللابشرية أو الشيطانية أو في شكلها الهيولي المتفرد والتي تحضر آناء الفعل الشنيع المشين إلى مفهوم جلد الذات في رمزيته المعنوية، وبلوْم الإنسان لنفسه وحرمانها أو الحؤول دون ارتكاب سلوكيات خاطئة في عملية تصحيحية لبناء الضمير. واعتقد شخصيا أن هذا( جلد الذات ) ليس سلوكا سلبيا في كل الأحوال،غير أن هذا كله لم يفلح مع سيدة الأحباب التي قهرت عقّا وأردته منهزما كما أنه (عقا )في علاقته بالروحانيات أضحى، لضعاف النفوس، ضريحا ومزارا يتبرّك منه ويُزار.
عوالم» سيدة العتمات»
اعتمد الكاتب في خطابه السردي بداية واستهلالا ليس ككل البدايات، إذ ارتأى الانخراط مباشرة في عالم سيدة الأحباب ، ليدرك المتلقي بعد لأي أن الراوي محرر صحفي، ينوي إنجاز تحقيق حول سيدة الأحباب. التحقيق كان في مقصديته منصبّا على سيدة الأحباب ، التي تسبب ابنها عقّا ــ الذي يندلع من فمها إثر كل جلسة خمرية جنسية ماتعةــ في هبل وخلل عَدّي وحمقه . إذ كلما سكرت ظهر هذا ال « عقّا «…بتلوينات مختلفة حسب مقام السكر « ص 40
فيواصل الراوي الصحفي رحلة البحث عن عقا، ذاك الذي يظهر في مظاهر مختلفة، ومتداخلة، ووجوه منعكسة على بعضها ، فتارة عقا الشيخ الفقيه العابد المتبتّل في الخلوات، وتارة شيخ المخزن، وتارة شيخ كتيبة الشيخات. ولأننا قوم إذا لم نجد أوثانا نقدسها خلقناها، فقد خَلَقَ الخَلقُ من عقا قديسا ألّهوه .فلما حاول التخلص من الخطايا أصابته خطيئة أكبر وأفظع، وهي تأليهه وتقديسه، ليعود مرة أخرى ل « أكل أجمل المأكولات وأحسن البنات أفض بكارتهن» 8ص 12 .وفي تداخل مثير للارتباك يتحدث عقا ويتحدث السارد الراوي الأول عن حلول ذات المولى عبد القادر في ذات عقّا، وأضحى يحمل بدواخله جسد المولى، لأن عقّا ما هو إلا تصغير لاسم عبد القادر. ويتحدث عن أول ولادة أنها كانت من الخلف، ليلعن الاحتفال الرهيب ويعود لرحم الأم من جديد .احتفالات تختلط فيها اللذات والذّكر والرقص والحلول والفضائح ثم الصراع الداخلي .فتآلف مع الخروج والدخول والحلول في ذات أمه والوصول إلى طريق الكشف، وما إلى ذلك من روحانيات،ومنها حفظ القرآن كسلاح للمقاومة. ولكن لاشيء يتم خارج أحضان الأم ، فيخسر طريقه ليسلك النهج الابليسي النواراني، فلا هو من آهل الوصل الكاشفين الكشافين، ولا هو من أهل الدنيا / لا دين لا دنيا / . وعن دلالات اسم عقا تتواصل اشتباكات الأحداث، فيثير السارد صنفين آو نوعين من الإحالات الدلالية، عقا العاقّ، وعقا القاع، وعقا الصغير لاسم عبد القادر كما أسلفنا ذكره، ولكنه يعود لتنبيهنا قائلا في ص 16 « «فإن اقتصرت على ظاهر المعنى أفسدت الصورة ، وإن تعمقت في التنقيب عن البواطن ، فتلك معرفة الحق .وهذا مقام لا ينكشف إلا لمن تنمّلت رجلاه بالمشي»»9
وللزجّ بالمتلقي في متاهات العتمات ،يذكرنا الراوي بين الفينة والأخرى أنه يصاب بالسعار هو أيضا كلما تذكر تلك الليلة رغم تجاربه ومجونه ومعرفته بعوالم السهر والسمر والعاهرات ، بينما عدّي ــ أحد ندمائه ــ انخطف عقله حين تمزيق ملابسه أول الصباح بعد خروجه من ليلة سيدة الأحباب «10 ص 19 .عدّي الذي تغلبت شياطينه على شياطين الفقيه حمّاد المتبتّل الخاشع إلى ربّه في علياء الجبال.ويعود الراوي ليذكرنا أنه كلما فكر في « إشارة تدلني على مكانه أصاب بالإحباط» ويواصل مساءلة سيدة الأحباب التي تحدثه أن ابنها نبي مرسل إلى الأمة ، وأنها أمسكت عن الفعل المنكر ونذرت نفسها للبياض والإمساك عن الفحش حتى أتاها اليقين ، نعم حتى أتاها من يفك عقدتها ويطهرها، أتاها من أرض القداسة السعودي القادم من قبة مولانا رسول الله، ليغسل ذنوبه ويتيه في دروب طنجة والاغتسال في مولاي يعقوب ولالة شافية، ويدعها تحكي وتتداعى حكاياتها ، لأن الكل ينتظر ما تقوله سيدة الأحباب، لتحدثه عن ولد طامو، بطلها المغوار الذي دكّ أسوار خلجانها، الذي يريها ساعة ولادتها وتتجدد حياتها ، ثم نعرج في الرواية على حوار الراوي الصحفي مع سيدة الأحباب، فتتشابك حكاية السعودي بالطفولة البريئة. حكاية فيها من الذنوب وغسل الذنوب واقتراف المعاصي الشيء الكثير من الجنس والعري والرقص والموسيقى والخمرة والتهتك ، ليعود عقّا للظهور بنصائحه وعتابه .لأن عقّا هذا المبحوث عنه يطلع في كل مناسبة ماجنة، ويجهز عليها باللوم والعتاب والجلد والتعذيب ، فتعيش حالة من الانفصام والازدواجية هي عقا وهو هي .
ويجد الراوي / الصحفي أنه لا يتقدم في تحقيقه، ويلفي قدميه تتخبطان في نفس المكان كأن الطريق واقفة»11 ص 48 ويحيلنا هذا النسيج الحكائي الداخلي الملتبس على اليرقة التي تنسج حول نفسها شرنقة من خيوط متماسكة متينة متشابكة تجعل الخروج منها أمرا في غاية الصعوبة.
إذ في كل محطة من محطات البحث عن الحقائق لانجاز التحقيق، تتوارد خواطر ،وتتداخل أفكار ورؤى، وتطهّر وتأمّل فلسفي في مفهوم الانتظار مثلا والنسيان، وغيرها من الغرائز ص 55 .فتتداخل أيضا شخصيات علال وابن طامو وحياتهما الطلابية والتجارب السياسية والاعتقال وذلك من خلال رحلة علال صديق ابن طامو عبر ذكرياته القاسية مع السجون والأقبية .ولأن من عادة الصحفي الفضول والبحث عن الحقيقة « ولكن عوض أن أقوم بذلك وجدت نفسي بين هذه الشخوص بأكملها «12 ص 62 وهذا يحيلنا على ما جاء لدى محمد ايت لعميم : يريد بورخيس أن يقول إن أول ما يقوم به الكاتب هو عزل نفسه عن كل ما حوله ويبدأ في عملية استنساخ ليصبح شخصين أو أكثر في مكانين في الوقت ذاته ..إذا اختلطت نزوة الكاتب اختلطت نزوة الكاتب مع الواجب المهني المتعلق بتحقيق صحفي « وسنعود لمثل هذه المتاهات البورخيسية المكثفة في رواية سيدة العتمة .
وفي خضم هذا الهذيان السكيزوفريني يجد المحقق الصحفي نفسه مطوقا بمرجعياته الفكرية والأدبية ليعبُر المخاطرة في الطبيعة من أجل هدفه(التحقيق) ، كما عبَرها العديد من الشخصيات التاريخية التي أوردها في ص 68.ولما يحكي عقّا عن حياته داخل وخارج ذات أمه فتلك حكاية أخرى، يشد على إثرها المحقق الحزام قائلا « جمعت قواي وبدأت في الخطو مثقلا ..وفي الطريق التواءات أكثر صعوبة «13 ص 69 وينطلق في حكي سردي مدهش يقع بين الحلم والحقيقة ، فتتواشج روح سيدة الجبل بأرواح الكائنات الحية ،وتماهت ذاتها في امتداد يقع بين حدّ الواقع والخيال في سيدة الأحباب، والشاهد في ذلك ما حكته سيدة الجبل قائلة « وجدت جسدي مزوقا كله بالحناء ، وفي بعضه بالوشم «14 ص70 وهذا طبعا عمل من أعمال عقا التي دأب على فعلها.وهكذا يمتد البحث عن سيدة الأحباب، ليمتد معه البحث عن عقّا، فتتعدد محطات البحث والسارد مستندا إلى عصاه، ضاربا في الأرض، باحثا عن حقيقة كضباب ما يلبث أن ينقشع، حتى يترك الفرصة لضباب آخر أكثر كثافة وغموضا ، إذ بمجرد ما أن يصل إلى بيت الله في الجبل حتى تتناسل الشخصيات فينكشف في آخر المطاف / التحقيق أن لعقّا» الجد المتواري خلف قرون مضت أحفادا من الشيوخ ، وكل شيخ يحمل إسم عقا يحكي عن جده عقا الأول. ليعود لسيد الجبل مبلبل الأفكار، مشوش الذهن بالتباسات الحكاية كما تشوشنا نحن القراء ، فتنهال عليه التساؤلات» أين عقّا وسط حكايات النسوة المثخنات بالحكايات؟ « عقا ليس هو عقا الشيخ صاحب الكرامات، ولا هو عقا شيخ المخزن، ولا عقا شيخ الكمنجات ، محاولا وسط كل هذا تبيّن الأمر، فيخرج الحيّ من الميت ويخرج الميت من الحيّ ويفصل في الشخصيات في متوالية من الأحداث اللولبية والشخصيات المتناسلة حدّ الهذيان ، بدءا بعقا الهيولي إلى عقا الشيخ ذي الكرامات إلى بيت الفلاح البربري أبي المريد الذي يوجد في حوزة عقا الشيخ الذي يحرضه هو أيضا على مواصلة البحث، لينتقل في محطة تالية إلى بيت صهر المريد، أو بيت المرحاض، ليصل في نهاية المطاف بين يدي شيخ المشايخ وسيف القبيلة. وبين محطة وأخرى هناك أكل وشرب، حتى يلتقي بآخر شخص وهو سائق العربة ذات الحصانين، وهنا وجب الوقوف عند نظرية النفس بل العقل والنفس اللذان يشبهان حصانين يجران عربة، أحدهما جموح والآخر مطواع. وكذا أن معرفة النفس هي الخطوة الأولى للمعرفة.وفي لجة هذه المتاهات المضللة، التي لا مخرج منها، والتي تفتح سبلا مشكوك في هدفها ،إذ لا يوجد شيء وراء المتاهة كما عند بورخيس، ولا مركز فيها ولا محتوى ماعدا التفاف الحكاية وانغلاقها حيث لا مخرج يبدو في الأفق. في خضم كل هذا التضليل وجب إعادة صياغة التساؤل: من تكون سيدة العتمات ؟ من تكون سيدة الأحباب ؟ من تكون سيدة الجبل ؟ من يكون عقا ؟ ومن يكون الممسوس عدّي ومن؟ ومن ؟؟ .ففي كل محاولة للقبض على الشخص تتعدد الشخوص، لندرك في آخر المطاف أنه مجرد وهم يطارده شخص يكاد يكون شبحا ،بل أدرك في نهاية اللعبة أن يعيد البحث والتحقيق لإنجاز التقرير من جديد . وفي هذا نورد ما جاء في كتاب « ضد الجميع لسعيد منتسب ص 61 « أنهى بورخيس قصة «الخرائب الدائرية « بإدراك الساحر ، الذي كان يبحث عن نفس جديرة بأن تشارك في العالم ، أنه هو الآخر مجرد وهم يحلم به إنسان آخر، بعدما أدرك أن الشخص الذي ظل يدركه كل ليلة بوضوح ويقين من خلال مجموعة من الأحلام المرتبة بعناية مجرد شبح»15 يقول بورخيس إن ” الكاتب هو عقل متحرك في جسد ثابت ويقول أيضا “أن أول ما يقوم به الكاتب هو عزل نفسه عن كل ما حوله و يبدأ عملية استنساخ ليصبح شخصين ، أو أكثر ، وفي مكانين في الوقت ذاته»
لتطوقنا دائرة الحكاية المرجأة كما بدأت ببيت ينضح عرقا وشبقا تماما كما في مستهل الحكاية ، فنلفيه في كل محطة يبدأ الحكاية من جديد ، إذ كل شيخ يسلمه لمحطة تالية عبر حارس، أو تابع مريد، أو سيدة أو شاب أو سائق شاحنة التي سيستقلها في عودته الأخيرة للمدينة.
وبعد ثلاثة أيام من الكتابة عن عقا الذي يتنقل من مكان لآخر كأنه يمثل دورا مسرحيا أو سينمائيا ، يغير فيه الممثل الملابس والماكياج والاكسسورات المتجددة ، والممثل يدور هاته الدورة دون كلل «16 ص 106 سيقدم التحقيق للمدير الذي سيفضح هذيانه لهيئة التحرير، ليبلع الصحفي عرقه وجهده ويجمع أمره ليجمع كل ذاك الشتات ويبحث فيه عما يسند حكايته، ويعد نفسه لمواصلة كتابة التحقيق ،وذلك في لعبة المرآة والمتاهات والتوالد الحكائي اللانهائي وهي الموضوعة، ذات السبل المتشعبة التي تواترت في أعمال بورخيس وفتن بها من خلال قراءاته لألف ليلة وليلة.
البناء الفني للرواية
يقوم البناء الفني للرواية على لعبة المرايا والمتاهات، ولا نهائية الحكاية أو الحكاية المرجأة على حد تعبير حسام الدين النوالي في كتابه النقدي العقل الحكائي، وكذا على الفانتاستيك والغرائبي ونقط الحذف أو الاختصار التي أسرف إغلان في استعمالها كما بورخيس، لدعوة القارئ للتأمل قبل السقوط في مطبّات لانهائية، بالحذف والإضمار، وإعطائه فرصة للتّركيز على ما يقرأه، واستجماع الأفكار للتأويل، وفهم المقصود مما سبق وما يليه.
ملاحظة لابد منها حول ما يمكن تسميته بالحيوية اللغوية وما تضخّه من دلالات تكتظ بالمعنى أحيانا وتدفع المتلقي للإبحار بحثا عن المعاني الثاوية فيما وراء اللفظ والعبارة، ألا وهي التضاد في الرواية ، حيث يقول ايت لعميم في هذا الباب « هي لعبة أثيرة لدى بورخيس أي لعبة الشيء ونقيضه وتواري الواقعي خلف الوهمي «17
ولا نعني بالتضاد تسمية الشيء بضده ــ ولو أنه لدينا ما يعني هذا سنأتي على ذكره ــ ولكن التقابل الضدي أو المتقابلات المضادة أو المتناقضة، كما جاء في الرواية مثلا،نجد المقدس والمدنس، كالسكر والصلاة ، هي تسكر وأنا أصلي ص 9 ثم اللذة والمسجد – الفقيه وفضائحه / مدنس بالخطيئة / يخرج عقا عضوه من النافذة ليبول والصومعة ناعسة على نحيييييب المؤذن / عقا يحيل على العقوق في حين أنه مخلص أمه ص 11 / السعودي مصدر الخطايا وهو القادم من أراض مقدسة، ويتطهر في عين لالة شافية ومولاي يعقوب، تاركا خلفه ماء زمزم هناك بأرض الأنبياء. ثم ازدواجية الوجه الورع والوجه القبيح / خطيب المسجد المربي الواعظ وما تقترفه ابنته، وكذا الشرطي المعذِّب في المخفر الذي يتحول إلى معذَّب في غرفة سيدة الأحباب. كما يمكن أن نشير هنا أيضا إلى المواقف الجهادية للسيدة في الحركة الوطنية، وكونها مواطنة شريفة، لتُدفع لأن تتحول إلى مُخبِرة. هذا على سبيل المثال لا الحصر أما اللفظ الحامل للمعنى الضدي الصارخ الذي أومأنا إليه سالفا فهي جملة ممنوع الدقان التي عادة ما تكتب على أبواب بائعات الهوى، وهي تحمل في ذاتها معنى عكسيا، وقد عبر الكاتب عن هذا بصريح العبارة على لسان السارد إذ يقول في ص 43 « كلها كلمات في تشابكها تعني عكسها» .وهذا أسلوب حامل للمعنى، ويمكن تسميتها أدوات أسلوبية تتحول إلى علامات مهمة وفي هذا يقول محمد نجيب السعد في موقع كتابات: “يصبح الأسلوب وعاء للمعنى و تتحول الأدوات الأسلوبية إلى علامات مهمة في اللغة الأدبية التي تنطق ببعض البديهيات ، كما يعتقد ديدييه جان في كتابه مكتبة بورخيس الخفية (1992) “..18
المتاهات : سرود مجنونة تتواشج فيها التهيؤات والتخيلات لخلق عوالم /متاهات مربكة ومدهشه تتناسل فيها الأحداث والشخصيات في جمّاع حكايات تنفتح على متواليات حكائية، منها ما هي أساسية وأخرى متعالقة بها ،وأسئلة محيرة ومقلقة تجعلك تسبح في فضاءات وهمية لا متناهية تعيد كبّة السرد إلى نقطة البداية، وهكذا دواليك كما حصل بالضبط تماما للمحقق السارد في الرواية. وتدفع المتلقي للبحث فيما وراء السطور عن الأفكار والرؤى والرموز والمعانى الثاوية والمضمرة في المتن الروائي ككل. ونلفي هذا في ما جاء على لسان السارد نفسه ب ص 41 حيث يقول « الحكايات المتشابكة والمتقاطعة فيما بينها يصعب في الواقع تسويتها « ويقول في موقع آخر « لا أعرف من أي البدايات أبدأ» « النهاية لا تنتهي، تنتهي لتبدأ، وبين النهاية والبداية ثمة ندوب تختنق في المداد «