عاش الروائي الطيب صالح تحت رحمة رواية «موسم الهجرة الى الشمال» التي حجبت أعمالا روائية له تضاهيها « ، وهي أكثر عمقا وإبداعا مثل «عرس الزين» و «بندرشاه» ومريود
الطيب صالح روائي من طينة المبدعين المتميزين، الذين وهبوا حياتهم من أجل خلق الأشياء والعوالم والذوات ، وزرع البهاء في عالم يزداد ضراوة وقبحا، نجاسة وصلافة، بفعل العنصرية المقيتة، والاستغلال الظالم لإنسان العالم الثالث في وجوده وأرضه وأحلامه، وناضلوا بيراعهم لكشف عورة الآخر ونذالته .فجاءت كتاباتهم ناضحة بصور بشاعة العالم المتقدم، وفاضحة لذهنية الغرب النرجسية والمغالية في تعاليها، وعنهجيتها المقيتة، فكان الطيب صالح من هؤلاء الذين حملوا سلاح المعرفة في وجه هذا المغتر بفكره وترسانته العسكرية والاقتصادية، لمحاربته بالمعرفة، والنضال في عقر داره لإبراز قدرة إنسان الجنوب على مبارزة هذا الغربي، والكثير من الأسماء الإبداعية والفكرية سارت في الدرب نفسه. وأن هذا الإنسان الإفريقي يمتلك من المؤهلات والقدرات العلمية والفكرية ما تفوق الغربي النرجسيّ.
وعليه فإن رواية» موسم الهجرة إلى الشمال» تعدّ من أبرز الأعمال الروائية التيشكّلت “ أثرا أدبيّاً صاعقاً، ورواية محيّرة أنّى توجّه إليها الباحث، كما أنها في نظره مكتنزة متلاحمة ومشوّقة وداكنة، فيها قدَرٌ كبيرٌ من الأسئلة عن كُنْهِ الإنسان في التاريخ، وكُنْهِ الإنسان في مجتمعه، وكُنْهِ الإنسان في مجتمع غير مجتمعه”(1)، وعبّرت عن عقلية الغرب المتغطرس، والمتبجح بقوته، حيث كشف مصطفى سعيد بطل الرواية حقيقة هذا الغرب، من خلال، الانتقام بواسطة الجنس كتيمة مهيمنة وحاضرة بقوة على عوالم الرواية، لكن هذا المنحى سيفضي بالذات/ الممثلة في بطل الرواية إلى الانكفاء حول الذات والعودة إلى القرية كتعبير ضمني عن الرغبة في الارتقاء في حضن عالم البساطة والحياة النقية والطاهرة، ونهاية البطل التراجيدية إما غرقا أو قتلا تجسيد لهذا المصير الوجودي الذي ينتظر الذات في مواجهة الآخر، وبالتالي فهو “ بطل إشكاليّ يعيش أزمة تتمثّل في ذلك العذاب الذي يعانيه خارج وطنه، ذلك التمزق بين حقيقتين آمن بهما”(2). لكن ما يهمنا نحن في هذا السياق هو أن الروائي الطيب صالح كان تحت رحمة هذه الرواية التي حجبت أعمالا روائية له تضاهي « موسم الهجرة إلى الشمال» وهي أكثر عمقا وإبداعا. ومن بين الأعمال الروائية التي دمغت مسار الطيب صالح الروائي بدمغات الخروج عما هو كائن في السردية العربية، والتي جعلته يتبوّأ مكانة متميزة في الكتابة والإبداع، نشير إلى روايات «عرس الزين» و»بندرشاه» و»مريود» وغيرها تبرز حقيقة صولة هذا المبدع السوداني القادم من تخوم الجنوب، المحمّل بروائح عوالم منسوجة بلسان الحكي، وتمثّل الواقع المعيش، ذلك أن أبطال رواياته تعبّر كلها عن الطبقات الاجتماعية المهمشة؛ والتي تطرح سؤال الانتماء إلى أرض السودان وتاريخه وحضارته المتجذرة في تربة الصحراء.
فالزين وهو بطل رواية “عرس الزين” يجسد شخصية من عالم القرية تؤمن بوجودها الاجتماعي، ويقول بواسطته ظواهر اجتماعية فريدة من نوعها، واسمه يحمل نقيضه، إذ يتسم بسحنة ذميمة ويحب الجميلات من القرية وعلى رأسهن نعمة الجميلة البهية بنت عمه، وكانت بالنسبة لنساء القرية فأل خير عليهن، فكلما تغزّل في واحدة منهن كانت الزواج من نصيبها، لكن ما يهمنا ليس القصة، وإنما قدرة الطيب صالح على انتشال شخصياته من واقع الحقيقة إلى واقع التخييل، فتكون كل شخصية مرآة ذهنية مؤطرة بسلوكيات نلمس فيها البراءة، غير أنها ذات حمولات اجتماعية وسياسية.
وما يشغل هواجسنا هو أن رواية « موسم الهجرة إلى الشمال» بالرغم من القضية الجوهرية التي تعالجها، والتي تكمن في علاقة الأنا بالآخر أي الصراع الحضاري، وهي علاقة فيها الكثير من التوتر والالتباس، ومآلها الفشل، على جميع الصعد، وتثبت أن الشرق شرق والغرب غرب – كما قيل- ويستحيل أن يتحقق أمل تقليص الهوة بينهما. إلا أنها كانت لعنة محمودة على كلّ حال على الطيب صالح، من ناحية أسره في عمل روائي واحد وتضييق الخناق على أعماله الأخرى، بل يعطي رؤية ناقصة لمجمل ما كتب وأبدع، فهذه الرواية غطّت على نتاجاته السردية، وفرضت عليها حصارا خانقا، ومغيّبا جدارة الروايات الأخرى التي لا تقل إبداعية على موسم الهجرة إلى الشمال. وبالتالي هل قدر كتابنا العرب أن يعرفوا ويشتهروا بعمل إبداعي واحد؟ ومن تم ألا يعتبر هذا تقليلا من مكانة الكتابات الأخرى؟ وبماذا نفسر ذلك؟
ثمة أسئلة تطرح نفسها وتتناسل لتشكل حافزا لتأمل هذه الظاهرة التي تسود الأدب العالمي وليس العالم العربي وحده. فالبعض من الروائيين العالميين ارتبطوا برواية واحدة تشكّل هويتهم في الكتابة الروائية فنجد دوستوفسكي عرف برواية الإخوة كرامازوف، وإغفال روايات كثيرة ترقى إلى مستوى رواية الإخوة، ونفس القول يمكن أن نسجله على بروست وروايته الزمن الضائع، ماركيز الذي التصقت به رواية مائة عام من العزلة، ومن العالم العربي نذكر الرواية السيرذاتية الخبز الحافي لمحمد شكري التي حجبت روايات أعمق كزمن الأخطاء ووجوه وغيرها من السرود،. فهؤلاء عينة تمثل هاته الظاهرة، مما يدفعنا إلى التساؤل هل الأمر يتعلق بإبداعية هذه الروايات المشار إليها سلفاً عن باقي ما تمّ تأليفه من لدن هؤلاء العباقرة أم يعود هذا الذيوع والانتشار لرواية واحد على حساب أخواتها السردية إلى المؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية؟ . وبالتالي نطرح السؤال الآتي: ألا يمكن إرجاع هذا إلى أن الروائي صبّ خوارقه الجمالية والفنية ورؤاه للذات والعالم في كتابة هذه الرواية؟
في الحقيقة تبقى هذه الأسئلة مشرعة على إجابات و تآويل وقراءات عدّة، تستلزم من القارئ إعادة النظر فيها كإشكالية تثير الكثير من الحيرة وعلامات الاستفهام. هاته الشهرة يمكن وصفها بلعنة مازالت تطارد الروائي وروايته الوحيدة، ولعل الروائي الطيب صالح وقع تحت رحمة “موسم الهجرة إلى الشمال” وعلى رأسها مصطفى سعيد بطل الرواية الذي حمل مطرقة الجرأة لتحطيم طابو الجنس، من خلال الكشف عن فتوحاته الجنسية في بلاد الغرب، التي علّمته وأشعرته بقيمته الإنسانية بعد أن كان تحت وصايتها الاستعمارية محتلا ومحاصَرا في بلده الأصل، وتلك مفارقة فيها الكثير من الالتباس، فتلك الفتوحات الجنسية عرّت حقيقة الآخر والأنا في الوقت نفسه، بعبارة أخرى هذا الآخر المتسلِّط بقوته العسكرية والثقافية والاقتصادية هو الآخر يعاني من أعطاب الجسد، التي كشفتها علاقات مصطفى سعيد مع نساء بريطانيات، وكان مآل الكثير منهن الموت، كتعبير عن انتقام الأنا من الآخر من عهود العبودية والاستغلال الفاحش، ودون الاسترسال في هذه التأويلات، لأن مايهمنا هو هذه القدرة الهائلة التي امتلكتها ومازالت رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” في ذاكرة القارئ العربي، هل الأمر متعلق بنكهة الرواية وطراوة الموضوع، أم هناك سِرّ تُخفيه الرواية لم يتم اكتشافه بعد؟ تلك علامات تساؤل ستظل تطرح على مسيرة الطيب صالح الإبداعية، وقد يأتي زمن وتُزال كلّ هاته الإبهامات والالتباسات المحيِّرَة، التي ظلت تميّز هاته الرواية الفريدة فريدة حياة الروائي الطيب صالح، ومسيرته الإبداعية الحافلة بهذه الفرادة الكامنة في قدرته على التقاط هذا المنسيّ الحاضر، المتعلّق بطابو/ محرم الجنس الذي يمكن اعتباره حافزا من حوافز الكتابة عند الطيب صالح، غيّر أن الأمر فيه إجحاف في كون رواياته وكتاباته الأخرى لها دمغتها الخاصة بها المتمثلة في تناول قضايا ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وأنساق ثقافية تكشف عن أنماط الذهنيات داخل المجتمع السوداني الذي لا ينفصل عن الذهنية العربية، وأيضا تعرّي حقيقة المجتمع، من خلال، الحفر في طبقات النسق الثقافي والاجتماعي، لرسم صورة تقريبية لوضع مازال يرزح تحت نيْر التخلف والنظرة الدونية للمرأة والرجل على السواء، والذي جعل إبداعات الطيب صالح تكون لها هيبتها وقيمتها الإبداعية لأنها منسوجة بإبرة الارتباط القوي بالمجتمع وقضاياه. فما ترمي إليه كتابته هو كشف الواقع الكائن ومحاولة تجاوز أعطابه بإيجاد حلول ناجعة لترميم شقوقه وأمراضه الاجتماعية والسياسية والفكرية وذلك بالحلم بواقع ممكن متجدّد، وقادر على احتضان الآراء والتصورات المختلفة والمتعدّدة، واقع تنتفي فيه كل مظاهر الإقصاء والشعور بالدونية أمام الآخر/ الغرب، وحماية الهوية من الامّحاء أمام هيمنة هويات هجينة يروم العالم الغربي السعي إلى فرضها على مجتمع المستعمرات السابقة. وتحطيم الصورة النمطية حول الإنسان الإفريقي أنه مجرّد إنسان متوحش، متخلف، خارج الحضارية الإنسانية والتاريخ الإنساني. ومصطفى سعيد رمز من الرموز السردية التي استطاع من خلالها الطيب صالح إدانة المجتمع الغربي المستبد والقاهر.
لا تكمن لعنة الروائي السوداني العربي الطيب صالح في جريرة «موسم الهجرة إلى الشمال» وإنما في قدرته على تحويلها إلى خطاب يكسّر محرمات المجتمعات التقليدية بنقاشها بصوت عال دون خوف أو توجّس، بل بإبداعية روائية تنشد التحرر من قيود الذات والمستعمر والمجتمع والمحرم، لمعانقة الكينونة المفتقدة،وفتح أفق وجودي متحرّر من عقدة الآخر الذي يشكّل جوهر تخلّف الذات، وسببا في جعلها رهينة سياساته العدوانية، واللاإنسانية. فالرواية تحبل بتيمات ذات أبعاد احتجاجية ض كل ما يسلب الذات ويحوّلها إلى أداة لقتل الأمل الذي تطارده شعوب الجنوب منذ عقود مضت، وكل ما يقوّض صروح الرغبة في الخروج من واقع متخلف بفعل القهر والظلم والاستبداد، فالذهاب، عبْر اللغة والخيال كان وسيلة للانتقام من هذا الغرب المتحامل، والراغب في تكريس كل الوسائل للقضاء على إرادة التغيير. وهذه اللعنة التي صاحبت الطيب صالح لعنة جميلة، استطاع بوساطتها ولوج العالمية من بابها الإبداعي المتميّز، المفارق، المتجاوز للسائد، الخارق لجمركية التبعية والخلّاق المستفز. لكونها رواية “ تصبّ فيها جل الألوان، فهي الرواية الذهنية والرواية الواقعية، كما تتعلق بالتاريخ والاجتماع في علاقة حميمة ذكية ، وتنحو منحى ذاتيّا وفنّيّا وأدبيّا خاصّا”يثير الرغبة في اقتحام عوالم متخيّلة بوعي الروائي .
في ضوء ما سبق فإن الروائي الطيب صالح، من خلال، رواية “موسم الهجرة إلى الشمال” يعبّر، بوساطة، شخوصه السردية عن رؤية فكرية وإيديولوجية تطرح قضية الصراع الحضاري بين الأنا والآخر بطريقة فنية إبداعية، تمكّن من فضح علاقة التوتّر بين الشرق والغرب، ومنح فرصة للذات كي تستعيد وجودها الكينوناتي عبر اللغة الروائية، التي تُبطّن شفرات وعلامات تتطلب من القارئ توظيف ذخائره المعرفية والثقافية للوقوف على أبعادها ودلالاتها المبهمة والملتبسة.