لغة الجسد/ لغة الآخر 2/2

 

إن قدر العلاقة مع الآخر هو أن تخفي جانبا كبيرا منها ومن ذاكرتها برداء صمت مزدوج: صمت الجسد وصمت الآخر، وذلك حتى تصير ممكنة ومؤسسة في حاضرها على موقف إطيقي محترم للاختلافات، حتى لا يظل الفضاء العلائقي غامضا ويتحول ضرورة إلى فضاء وضوح وإمكانية التوحد بين الضرورة والاختيار .إننا لا نختار هذه العلاقة بل هي التي تختارنا تضعنا وجها لوجه مع الآخر، وعن هذه المواجهة تنتج حدود سلطة الآخر وعنفه ونتعرف عليهما. إن الجسد لا يدل ولا يحمل دلالته الخاصة إلا انطلاقا من موقعه داخل العالم وإزاء الآخر الذي يواجهه. مطروح إذن على ذاكرة الجسد أن تعي وتتخلص من الوشم الكولونيالي الذي انوشمت به، لكن تحقق ذلك يتطلب منها أن تعيش/أن تمر من / وتتجاوز لحظة أزمتها العضوية التي هي نفسها لحظة هذه المواجهة الملتبسة مع الآخر، أي لجزء من حقيقتها اللامفكر فيه، والأساسي بالنسبة إليها (وعندما يتمزق حجاب الرغبة بينك وبين الآخر- كما يقول الخطيبي – تكلم إذن بلا خوف) (4). الكلام هنا تسمية لهذه الفجوة الهائلة التي عاقت ولا تزال تعوق إمكانية هذه العلاقة، والتسمية تدفع بهذه الإمكانية إلى أن تتجسد في حقل الكتابة اليقظة والعنيدة، التي هي حركة ممكنة في مواجهة الآخر لتدعيم الجسد الذي لايوجد فقط في ذاته وداخل اختلافه العنيد، بل ومن أجل الآخر أيضا.إن من شأن فعل التدعيم هذا جعل الجسد قابلا لا أن يتلفظ به (بضم الياء) إلا مجرد ميثلوجيا بيضاء مسكونة بكوارثها الخاصة وكساحها .
إن جوانية الآخر ليست خالصة بل مشوبة بحضور الجسد المختلف ومخترقة من طرف برانيته المتعددة ، خصوصا وأن مسألة النقاء العرقي الثقافي لم تعد أكثر من وهم منتج لطمأنينة زائفة، ولعقائدية مرعبة تزدهر داخل أنساق توتاليتارية مغلقة على نفسها لم تقد إلا إلى نوع من الممارسة التاريخية البارانوية paranoiaque المبنية على النفي وإحراق الهويات. إن الغيرية altérité تقتحم حصون كل من الجسد والآخر ، وتدعوهما إلى أن يصيرا معا سجلين مفتوحين على النداءات الثقافية والحضارية لكل منهما، لأن كينونتهما كلاهما لا تتموقع في موقع على حدة بل تنمنح للأكثر قربا، وتصير حالة فيه ، ولأن حضورهما معا لا يتشكل ضمن زمن واحدي بل كحقل لتداخل أزمنة ولحظات ثقافية حضارية متعددة وخلاقة ترنو كلها إلى أن تصبح جزءا من هذا الحضور الذي لا يهيمن فيه الآخر وحده .إن خروجنا مثلا من استراتيجيتنا الخاصة للتأويل، من مرجعيتنا التي كانت تسيجنا بمقولاتها وتحمينا وتدعم كينونتنا ووجودنا التاريخي ووعينا بهويتنا وذاتيتنا – رغم الاضطراب والالتباس الذي يكتنف عملية الخروج هذه- لم يكن خروجا مجانيا بل دفع بنا إلى التفتح على صيرورات وعلى نظام تغيرات كوني، يتجاوز حدود وعينا وتمثلاتنا وعلى استراتيجيات تأويل أخرى قد تغني تصورنا لجسدنا ولموقعنا داخل عالم هو نفسه فضاء تجربتنا الذي تتأسس داخله تجربة العلاقة مع الآخر .إننا لم نعد نؤول الجسد كجسد مستقل وواحدي، لم يعد – بالنسبة لنا – مفهوما نقيا متراص البنيات بل كجسد علائقي، كنهر واسع المجرى تصب فيه جداول متعددة المنابع مختلفة الإيقاع .إن مغامرة رامبو « Rimbaud » دالة في هذا المجال لأنها مغامرة جسد شعري داخل هذا الآخر المتراص، أحدث نوعا من القطيعة داخل فضاء كينونته في زمنية عقلانية موحدة وخلق آخره الخاص الذي هو في العمق آخر كتابته الشعرية ولا مفكرها، بل رحل باتجاهه تاركا النسق الغربي بأدلته ورموزه الحضارية، وكتابته المنظمة مفضلا آليته والنأي عن كل ما يعوق التوحد مع هذا الآخر الغامض واللامفكر فيه والمنظور إليه من خلال عين إكزوتيكية . إن رامبو « Rimbaud » نموذج دال على استحالة كتابة الآخر (آخر الغرب) دون المغامرة في أدغاله والرحيل باتجاهه. يستدعي ذلك – ضرورة – كتابة اللقاء معه ، عن طريق التيه والصمت الشعريين لأنه آخر لا تنتظمه – بالنسبة لرامبو – نفس آليات ومنطق الكتابة الغربية التي لا تحتفل بالاختلاف وكلام الهوامش، وإنما تعلي فقط من شأن الكتابة المعقلنة .هكذا يتشظى الواحد على أرضيته المتعددة، ويغتني بمتخيلات منسية أو مهمشة ويتعدد معنى الكينونة وحقيقتها ،ويصير تحيين Actualisation «الآخر» ممكنا .يتساوق هذا مع التصور الهيجلي لذاتية تفهم باعتبارها لحظة حتمية من الصيرورة تخرج عبرها الكينونة من عتمتها، أي تصور ذات يوقظها منطق الكينونة : مطروح علينا إذن لبناء محاولة تفكير الآخر أو صورته، تجاوز منطق الخوف أولا من إقحامه في الزمنية الخاصة لتفكيرنا وتصوره ثانيا باعتباره بنية رمزية وتاريخية، والإيمان ثالثا بأن الاختلاف ليس اختلافا بدون قرار sansfond ، إنه موقف مسؤول تجاه الآخر الذي يجب أن نمحوه أولا من ماضي ذاكرتنا لنعيد خلقه وفق حركية مشروطة بإرادة الجسد، لأن «أن نكون وأن نفكر هما الشيء نفسه» حسب مقولة بارمنيدس Parménide ومطروح علينا أيضا أن نختار في إطار العلاقة مع الاخر بين مظهرين لها:
مظهر غروبي نظل داخله حبيسي الجسد المستعمر من طرف أساطير الآخر وأساطيرنا ، والذي يتمثل كل علاقة باعتبارها لعنة شيطانية ستورطنا حتما في ورطة اللاهوية واللاتميز، وتصيب جسدنا بالدوار والتشظي بفعل الالتقاء مع آخر مغاير كلية لأصلنا .إنه مظهر داعي إلى التوحد مع الذات ودائرتها، باعتبارها ذاتا كائنة بصفاتها ومقوماتها، ورفض برانية الآخر وزمنيته .لهذا المظهر – دون شك – كوارثه وبؤسه .
مظهر صباحي يطرح الآخر كشرط من شروط كينونتنا في الهنا والان ، وفي ما سيأتي ويتمثل الآخر لا كعنف دائم بل كذلك الذي نستضيفه وفق شروط للضيافة تطرح سؤالنا عليه، كسؤال تفكيك ومقاربة لجوانيته وعناصرها ولتحولاته، وحركيته .إنه آخر / الكينونة الذي ينظر اليه لا ككلية معتمة بل ككلية ذات جوانب مضيئة أيضا.إنها إذن تمظهرات صباحية متسلحة بالطاقة النقدية لكل انبثاق صباحي للفكر ، ووحده الفكر الصباحي يستطيع إنتاج وعي نقدي بهذه الثنائية عبر رصدها في تاريخيتها ومخافاتها وإمكانياتها .إن إيجابية المظهر الثاني تقودنا إلى القول بأن تكون ضرورة التفكير وإنتاج المعرفة مزدوجة:
إنتاج معرفة بالجسد ومكوناته من طرف الآخر يفترض النظر إليه كمجال قابل للفهم والمعاينة، لا للتلذذ الإكزوتيكي، لا كجسد قابل للرؤية فقط، بل وللكتابة أيضا وفهمه باعتباره إبداعية غير مفصولة عن منطق معيشها عن ثقافتنا ورؤيتها ورؤيتها للعالم ، فهمه فهما إطيقيا لأن «ذاكرة أمة صغيرة – كما يقول كافكا بصدد حديثه عن الذاكرة – ليست أقصر من ذاكرة أمة كبيرة .إنها تخدم بعمق أكثر المواد الموجودة». وحده فهم كهذا يستطيع أن يستوعب الجسد في وظائفه الرمزية، في حضوره الحيوي العنيد وعدم قابليته للاختزال .
إنتاج معرفة بالآخر لأنه ليس المنفصل كلية عنا، إنه ذاك الذي يحضر داخل جوانيتنا كإمكانية ، كجزء من صيرورتنا والذي يجب استدعاؤه كسؤال ناطق لا انطلاقا من ثوابت فكر ميت ومغلق .إن كينونة جسدنا في الهنا تنتمي إلى فعل فهم الآخر وإمكانية استعادته بعيدا عن كل إحساس بالألم، وذلك بعد الخلاص من الجانب المعتم والعنيف من تاريخية علاقته معنا .
ينبغي إذن أن يتحكم في هذه العلاقة وفي الخطاب الممكن إنتاجه حول قطبيها مبدأ أساس يتجلى في الاعتراف المزدوج والذي يضيء مسار الآتي، ويحول الصراع من وضع الإلغاء والنفي إلى صراع إطيقي منتج للذة المعرفة وبهجة التعايش على صعيد كوني أكثر قربا من همومنا وهواجسنا وتطلعاتنا وإنصاتا لها .هنا بالذات يصير الحوار مبنيا على التفاعل، على تجنب نزعة التملك تجنب الحماس الذي يختفي فيه ويطمس الاختلاف بين الجسد والآخر، وتجنب النظر إلى العلاقة بينهما على أساس أنها وعد بالسعادة المطلقة .ينبغي لحوار كهذا ألا يكون إلحاقا للذات بالآخر بل حوارا له بروتوكوله الخاص، محدداته لأن من شروط التحاور الإطيقي الانصات إلى الآخر، احترام رأيه، واستقلاليته الكينونية والمعرفية ومجابهته على أرض الحقيقة الفعالة والحية، لا على أرض المسبقات والتصورات المغلوطة «إن الآخر يهمني رغما عني» كما قال ليفانس بصدد حديثه عن إمكانية تأسيس «إنسانوية للإنسان المغاير» (5) إذا المطروح بالنسبة إليه – ضرورة إعادة الاعتبار للرسالة الانسانوية، تطويرها والدفع بها إلى تحقيق غاياتها: تأسيس أخلاق في مستوى الإنسان .قد يقود حوار كهذا إلى تأسيس المعالم الأولى لفكر جريء ومتمرد، متجاوز لفضاءات الصمت وسوء الفهم ومناعة المسبقات، «إن الحق في الاختلاف إذا اكتفى بترديد مطلبه دون أن يضع ذاته موضع سؤال ودون أن يعمل ويناضل في الميدان الفعال الذي يظهر فيه تمرده، فإنه لن يكون خرقا ومجاوزة وإنما سيظل مجرد تمثيل لهذا الخرق ومحاكاة له، تمثيل لحياة وموت أخذا منا رغما عنا ضد كل تحد لا معنى له وحينئد يكون العيش من غير إدراك وقياس مدى ذلك ولا معرفته طريقا مسدودا» (6). إن فكر الاختلاف إذن لا يكون فاعلا في ذاته بل انطلاقا من مواجهته لبرانية الآخر التي تحفزه ، تعمل على تشغيل آلياته، وتفكير مدى صلاحية مبادئه وانسجامها مع الموقف المرغوب فيه، مع السياق الذي داخله يفكر أم لا ، حتى يصير فكرا يقظا بانيا .
إن الترحل ليس مجرد استعارة بيضاء، ليس مشتغلا على الجسد، ولا غيابا عن فضاء الكينونة وفقدان لآثارها، إن الترحل LE NOMADISME خلق لمفاهيم وأدلة ورموز فعالة تبدو أشبه ما تكون بآلة حرب ومقاومة : أي إنتاج لنسق سيميوتيقي مغاير يرحل في الفضاءات المتعددة للحقيقة، بعيدا عن نسق الواحد L’UN وانتظامه. الترحل هو أن تجعل من الجسد فضاء يرى خارجه في داخله، وداخله في خارجه، لا هوية ثابتة ، مسيجة ومعيقة بحضور دالها البارانوي/الواحدي كل صيرورة. الترحل هو نمط كينونة الجسد الفاعل الذي يعيش داخل الطاقة المتجددة لحياته الخاصة وداخل تعدديته، ويخترق الصراعات وآثارها، والقطائع ومحتوياتها ويحول كل علامات الموت إلى اقتصاد كينوني دال على فعالية جوانيته وانفتاحه ووعيه باختلافه العنيد، واندغامه في فضاء تجربة تؤسسه كجسد مكتشف وخلاق لأسئلته منذور للعالم وأشيائه. إن الكينونة – من أجل – الترحل يمكن في الوقت نفسه أن تكون في ذاتها لأنها في الهناك أي من أجل الآخر الذي تزوره وتستدعيه. إن الترحل استثمار رمزي لحدث التفتح هذا انطلاقا من تلك الشجاعة التي تعترف بخصوصية الآخر، ومن الإرادة الدائمة واليقظة في التفاهم الأصيل المبني على الانصات للآخر والجرأة على تحديد مقومات الذات .إن الاتكاء على مقومات الجسد وحدها قد يسجننا داخل تصور شبيه بالموناد LA MONADE عند لبينتر leibnitz والتي حددها في المونادولوجيا la monadologie باعتبارها دون باب ولا نافذة أي موقعا مغلقا وذا عمق معتم لا يرى منه شيء من الخارج، لهذا أصبح من الضروري الترحال داخل صحراء الجسد، واختراق مسألة الهوية من أجل العثور على كلام الآخر وأسئلته ، الآخر الذي لا يكون بدوننا. إن المسألة هنا تتعلق بحركة كامنة تصل وضع الانعلان، تنكشف كحركة كائنة في جوانية الجسد أصلا لا خارجه. إن الجسد الرحال le cops nomade وحده يستطيع تجاوز مسألة الأصل الثابت والخالص، وتاريخ الجذور واختراق صحراء العالم تبعا لذلك.إنه الترحل المنتج لمسار المكاشفة والالتقاء بالآخر في موقعه، والذي يتحذر فيه الفهم الإطيقي لمسألة السكن داخل العالم.
إن تفكير الآخر هو تفكير للحقيقة الأخلاقية للجسد و»الفكر إذا لم يستلهم فقره فإنه يهدف دوما للسيطرة والقهر. إن الفكر إذا لم يكن فكر أقلية وهامش، وإذا لم يكن فكرا لا يعرف المنظومة والاكتمال يصبح فكر إبادة» (7). إن الترحل هو ما يفتح الجسد على فضاء يتجاوزه .إنه يقود من الفضاء إلى الشيء ومن الشيء إلى أفق الأشياء، لأنه ترحل مضيء ، ليقود إلى عالم موجود هو آخر عالمه.لا يعود الجسد الرحال إلى الأصل ، لأن العودة تقصي الآخر بل يستمر دوما في وضع ذاتيته ووعيه بها موضع تساؤل وفي إنتاج معرفة بالحدود والعوائق والسذاجة الدوغمائية التي تحجب عنه صورة الآخر .هكذا تعمل العلاقة مع الآخر على إفراغ الجسد من أنانيته، ودفعه دوما إلى اكتشاف وتملك منابع أخرى وجديدة لذاتيته انطلاقا من الحوار المتكافئ مع الآخر الذي ليس مكملا لي ولا عدوا لي، ولكنه آخر مسؤول دوما تجاه جسدي وحضوري. يدفعنا الترحل إلى طرح مسألة الهوية الراحلة L’indentité nomade كضرورة ملحة لتجاوز كل انغلاق من شأنه الحد من تداخل الخطابات وإخصاب المرجعيات وتقليص .شساعة أرضية اللقاء. لا يتماهى الترحل مع نفي الذات أو محو الهوية ، بل إنه الانفتاح على عالم / آخر يكون تمثيلا للجسد في الكثير من جوانبه ، إنه تحقيق الرغبة في الآخر ، التي هي رغبة الجسد المستقل لذاتيته واختلافه الفاعل والمتسلح بانتمائه لغيريته. إن الترحل هو مسؤولية الجسد تجاه نفسه أولا وتجاه الآخر ثانيا «المسؤولية ليست لا عمياء ولا مصابة بالنسيان Amnésique ولكنها تكون متوجهة نحو استعمال أقصى أو موازية له تحديدا انطلاقا من حركات الفكر التي تعمل داخلها» (8) . انها ما يدفع الجسد الى اكتشاف ثقل الصمت /عتمة الذاكرة وفداحة الغياب، إذ لا يمكن دوما للجسد أن يبقى وديعا مفرغا من دهشته معزولا عن جلبة الآخر، بل ينبغي له أن ينخرط في فاعلية التفكير والكتابة وأن يتجذر في عملهما ليضمن لنفسه إمكانية تطوير التفاهم مع الآخر وفهمه ، وتجاوز مرحلة الوعي الشقي، لأن صورة الآخر مشروطة بشكل تلقي الجسد لها وبحدودها وبالمعنى الذي يمنحه إياها، والتي تبقى مهما تحكم الآخر-عبر سلطة معلوماته ونتاجاته- في علاماتها ومحتوياتها، معرضة أيضا لتأثيراتنا وفعالية ادراكنا وتلقينا لها. إن عمل الاختلاف لا يمكن أن ينتج نوعا من السالبية وأن يكون حائلا بيني وبين معرفة الآخ، و لا يمكن أن ينتج نوعا من الإيجابية الساذجة المؤدية الى الإقبال الفرح على الآخر الذي يذوب غيرتنا في فكرته الموحدة، ولا يمكن أن يكون فكرا في ذاته مفتونا بلمعان لغته و مفاهيمه بل حركة يتقدم من خلالها الجسد نحو الآخر الذي لا يستعاد كمثيل بل كآخر لا نهائي الغيرية وقابل للتحليل والمعالجة من طرف الجسد. إن المسألة تتعلق بإرادة في تجاوز البؤس والفقر المعرفي لأن» ما يمتلكه شعب ما من خصوصية يتمثل في عمل الابداع الذي ينسب إليه والذي عبره يندمج في مهمته التاريخية متجاوزا نفسه باستمرار:) (9) كما يفترض في الآخر أيضا حتى تكون صورته محايثة،أن يعترف بالمساواة بين الثقافات والهويات المتعددة و يتميز بسمة الجرأة في اكتشاف الجسد كموضوع لمعرفة مغايرة خارج مسبقات المعرفة الاثنوغرافية الاستعمارية، أن يتسلح بالتواضع لا بإرادة القوة ، لأن جسدنا المغربي بتعددية مكوناته، بخصوبة انتماءاته الثقافية و متخيلاته ليس هامشا ميتا/متوحشا كما ينظر إليه من طرف النظرة المركزية الأوربية. إن يقظته تتجسد في قابليته للتعامل مع برانية الآخر كمكون من مكوناته وهنا تتمثل أريحيته، و هنا مطروح على الآخر الغربي إذن أن يتخلى عن جاذبية الحلم الأوليسي الذي انبثق منذ صباحه الفلسفي الأولي/ الحلم بالعودة إلى مسقط الرأس، إلى المثيل الذي يتسم بالدفء والاستقرار ويلغي كل غيرية. إن تاريخ الآخر في أغلب أطواره هو تاريخ نسيان لكينونة الجسد وطمس لصفاته ونزع لسمة الحضور عنه/ تاريخ إلغاء لتلك المعرفة الإطيقية الممكنة كما لو أن العالم مجرد رؤية واحدة تنظم الاختلافات وتمتصها، لا صراع هويات ولا تأكيدا على تميز. صار اللقاء مع الآخر حدثا مستحيلا كلية بدون الاعتراف به والأخذ به كمبدأ أساسي. إن التفكير في العالم والسكن داخل هذا العالم المفكر فيه، شيئان لا ينفصلان عن صيرورة الجسد وانفتاحه على الآخر والتعبير عنه. إن التفكير والسكن ليسا مسألتين مجانيتين، بل إنهما ترجمة فعالة لقرار لا ينبثق سوى كلحظة مضيئة تزيل العتمة التي ولد داخلها وتفككها، لأن كل كثافات التاريخ/ كل محمولات الذاكرة ضرورية لإنجازه ، لأنه قرار الجسد غير المنفصل عن تاريخيته وقرار هذه التاريخية التي تقود الجسد نحو الآخر في لحظة القطيعة مع الوعي الشقي و الحقد والانطلاق نحو الآتي. إن القرار لا يمكن أن يتميز بسمة الوضوح إلا بالنسبة لمن عاش كل عنف الماضي/ الذي يعاش كأزمة يقود الوعي بها نحو جوهر هذا القرار، إذ « لا يكفينا للتمكن من الابتعاد عن الوعي الشقي مجرد الإرادة المتمردة، إن ذلك يقتضي عملا دؤوبا ننكب فيه على ذواتنا قصد التقليل من آلامها والتغيير من الحقارة والانهيار اللذين تتعرض لهما في علاقتها بالآخر. إن التفكير في مثل هذه الأسئلة يبعث على الألم و أذهب الى القول بأنه ألم لا أمل بعده ولا يأس، ألم لا غاية من ورائه لكنها ضرورة شاملة تفرضها علينا الحياة لكي تتركنا وتهجرنا عند ذات السؤال: السؤال الأول والأخير ولا خيار لنا في ذلك» (10). نعرف بأن الدعوة الى الحضور داخل العالم عبر العلاقة مع الآخر انخراط في حد لا حد له/ وقوف أمام هاوية عميقة نحس ونحدس الضوء الكامن خلف عتمتها، ونعلم أن علينا البقاء رغم كل شيء أمامها، لأننا سنعرف مؤكدا شيئا ما في نهاية المطاف ولا يهم إن كانت معرفة مكتملة أم شذرية.

ملحوظة : ألقيت هذه المداخلة سنة 1989 في ندوة دولية بعنوان (الجسد وصورة الآخر) ضمن (اللقاءات الفنية والأدبية) التي تم تنظيمها بتعاون بين كلية الآداب (جامعة القاضي عياض) وجامعة غرو نوبل (الفرنسية). عثرت عليها بالصدفة وسط أحد الملفات التي نسيتها كل هذه السنوات .ظلت المداخلة كل هذه السنوات محافظة على راهنيتها، ولم أكن بالتالي مضطرا لتغيير ولو كلمة واحدة فيها.

هوامش :

ماكازين ليتيرير، عدد خاص عن دولوز ، رقم 257 ، ص .22.
بيير بورديو، الانطولوجيا السياسية عند مارتن هايدغر، منشورات مينوي ، 1988 ، ص .52
ليفيناس ،إنسانوية الانسان المغاير، فاتامورغانا، 1972 ، ص .26.27.
الخطيبي ، الذاكرة الموشومة ، الاتخاد العام للناشرين، 10/18 . 1981 ، ص 52.
ليفناس، مرجع مذكور، ص .90.
الخطيبي، المغرب المتعدد، منشورات سمير ودونويل ، 1982 ، ص .12.
الخطيبي ، المرجع السابق ، ص.18.
ليفيناس ، مرجع مذكور ، ص .55.
دفاتر ليرن L’herne ، منشورات ليرن ، 1983 ، ص .71.
الخطيبي ، المغرب المتعدد ، ص. 11.


الكاتب : مصطفى الحسناوي

  

بتاريخ : 13/01/2022