للا عائشة: قصة امرأة جبلية اخضرت بالعطاء

قصة أخرى من القصص الواقعية التي لم يستطع زلزال الحوز أن يطمرها تحت الأنقاض ،ولم يتمكن الغبار الذي غطى ذاك المكان أن يحجبها فيطويها النسيان.
قصة تستحق أن تروى بكل اللغات، لأنها قصة إنسانية بامتياز، تلخص معدن المغاربة الأصيل، وتبين أن ما حدث من تضامن بين المغاربة منذ الوهلة الأولى لحدوث هذه الكارثةالطبيعية، التي مست البشر والحجر، ، وأصبحت معها مداشر أثرا بعد عين، أنه ليس مسألة طارئة، فرضها هول وحجم الفاجعة ،بل هو أحد أركان “تمغرابيت ” التي تشكلت منذ القدم، قدم وعراقة هذه الأمة وقيمها النبيلة .
شخوص هذه القصة التي جرت فصولها في ” ويرڭان ” بالأطلس الكبير ، نجد على رأسهم للا عائشة وعنزاتها وسبع فتيات فرنسيات ومرشد سياحي، هو الذي سيحكي ماجرى وكيف أدهشت هذه المرأة المغربية للا عائشة المشبعة حتى التخمة بقيم أجدادها ،السائحات الفرنسيات.
يتحرك لسان المرشد السياحي بالحكي، ويروي القصة من البداية، بعفوية وتأثر أيضا ، وهي الحكاية التي تناقلتها مواقع التواصل الاجتماعي.
قادت المهمة كما يتطلب العمل، المرشد السياحي إلى هذه المنطقة الجبلية ، إذ في أحد أيام فصل الخريف من السنة الماضية، يقول ، تم اصطحاب السائحات الفرنسيات السبع إلى” ويرڭان” بالأطلس الكبير التي تبعد بأربعين كيلومترا عن بؤرة الزلزال، وهم يتجولون في أحضان هذه الطبيعة العذراء ، يتذكر المرشد السياحي، إذا بهم يرون من بعيد عجوزا ترعى عنزاتها في هذا المكان الخلاب ، كانوا يسمعون صوتها من بعيد وهي تغني أهازيج أمازيغية ذات لحن حزين.
أعجبت بل فتنت السائحات الفرنسيات بهذا المشهد ، وأصررن على مقابلتها وهو ماجعل المرشد السياحي يستجيب لطلبهن، وعرض الأمر على للا عائشة، وفعلا لم تتردد العجوز في قبول الطلب، حيث تولى المرشد الترجمة ، وماهي إلا دقائق معدودات، حتى دعت الجميع إلى منزلها المتواضع والمتواجد في قمة الجبل.
أعدت للا عائشة الشاي وقدمت لضيوفها “الخبز البلدي وأملو والعسل الحر وجوز إمليل”.
هذا الكرم الحاتمي من سيدة عجوز عاشت حياتها العريضة على الكفاف والعفاف والغنى عن الناس ، أدهش الشابات الفرنسيات. لم تلتفت للا عائشة إلى اندهاشهن وواصلت حديثها بعفوية وتلقائية ، تستعرض لهن سيرتها الحياتية والظروف الصعبة التي مرت بها، كانت تتحدث كأنها تتحدث مع بناتها، هكذا تعاملت معهن بدون أي تحفظ أو خطوط حمراء، فهي شفيفة وشامخة أيضا مثل الطبيعة والجبال ، فكل منهما خبر الآخر ويعرفه لعقود من الزمن.
وفي حديثها الذي سرت به السائحات الفرنسيات وارتحن له، أحسسن كأنهن في حصة لعلاج نفسي، كانت للا عائشة تداعب شعر هؤلاء الفتيات بحنان ،وكأنها تعرفهن منذ مدة طويلة، وتزودهن بنصائح في عالم التجميل لكي يحصلن على عيون ورموش أحلى مثل الملائكة كما يشرح المرشد السياحي، حيث خاطبتهن قائلة ” الحب يابناتي دائما يحدث من النظرة الأولى، وبالتالي يجب الاهتمام بالعيون والرموش”.
استحسنت الفتيات الفرنسيات السبع هذه النصائح القيمة من امرأة خبرت الحياة ومتصالحة مع نفسها ومع الطبيعة.
يواصل المرشد السياحي، الحكي، ويقول: عند اقتراب لحظة غروب شمس ذاك اليوم، طلبت السائحات الفرنسيات، الإذن من أمي للا عائشة، للمغادرة فصاحبتهن إلى أسفل التلة ، على بعد 100 متر تقريبا، وقبل أن يودعنها ، اتفقن بينهن لكي يقدمن مساعدة إلى هذه المغربية الأمازيغية الحرة، حيث جمعن ألفي درهم، لكن ما أن حاولن منحها هذا المبلغ حتى تفاجأن برفضها وردة فعلها الغاضبة ،وخاطبتهن قائلة “صحيح أنا فقيرة بالمقارنة معكن لكنني لست متسولة ،أنا لم أقم إلا بالواجب معكن كما كان يقوم بذلك آبائي وأجدادي منذ قديم الزمان، كانوا يطعمون ويسقون المارين من هنا ، وما أن أكملت حديثها ،حتى التفتت بسرعة إلى عنزاتها وهي غاضبة ونادت على قائدة القطيع ” تاسكوت ” فاستجابت لندائها للتو ،واقتربت من العجوز أمي للا عائشة، وتبعها كل القطيع ، حيث قادتهم إلى الحضيرة، ودخلت بعدها أمي للا عائشة إلى منزلها وأقفلت الباب من ورائها .
في زمن قياسي حدث هذا المشهد، مما زاد من دهشة السائحات الفرنسيات اللواتي لم يستوعبن أي شيء ،إذ مكثن مذهولات يراقبن بدهشة بعضهن البعض، متعجبات من كرم هذه المرأة المغربية ومن أنفتها.
في طريق العودة، يواصل المرشد السياحي حكيه، عم صمت وسط المجموعة، لم يتحدث أحد عما جرى، إلا عندما أرادت المجموعة تناول وجبة العشاء، وهناك شرح لهن المرشد السياحي عقلية المغاربة ومنهم طبعا الأمازيغ،ومدى تشبثهم بإكرام الضيف، وعابري السبيل ،لكن أن يحاول أحدهم أن يمنحهم مقابل ذلك أي شيء، فإن ذلك يعتبر إهانة في حقهم.
جرت مياه كثيرة تحت الجسر كما يقال، وحدث ماحدث إثر الزلزال الذي ضرب بقوة عدة مناطق بالمغرب، وانتشر الخبر في العالم كله عبر وسائل الإعلام العالمية. اتصلت بالمرشد السياحي هاتفيا، إحدى السائحات الفرنسيات، وهي تشغل منصبا مهما، مديرة لإحدى الشركات الدولية الكبرى ،لتسأل عن مصير أمي للا عائشة، وإن كان قد كتب لها عمر جديد بعد هذا الزلزال المدمر ،أو إن لا قدر الله قد تكون قد قضت في هذه الكارثة الطبيعية.
ولما لم تكن هناك وسيلة للتواصل مع أمي للا عائشة، اضطر المرشد السياحي، كما يروي لأن يتجه إلى ” ويرڭان ” لمعرفة مصير هذه المرأة ، سافر بين الأشجار، كانت الطرق والمسالك مقطوعة، تراءت له التلة الصغيرة من بعيد، وصل إلى المكان أخيرا بعد رحلة شاقة، لكن لم ير أي منزل، بدأت دقات قلب المرشد السياحي تتسارع لأن المشهد كان مرعبا، تيقن مما رآه، أن أمي للا عائشة، لامحالة قد هلكت، وحين اقترب أكثر حيث كانت تقطن، وجد المنزل قد دمر عن آخره، وقطيع الماعز نفق تحت الأنقاض، دمعت عينا المرشد السياحي، وهو يترحم على روحها وعيناه مغمضتان ،وماهي إلا دقائق معدودات، حتى شعر بيد تربت على كتفه الأيسر، فتح عينيه، فكان أمامه شخص مربوع القد في عقده السادس، وخاطبه بالدارجة المغربية، أنت لست من قريتنا، هل يمكنني مساعدتك، فرد عليه المرشد السياحي بالأمازيغية، لقد جئت لأطمئن على أمي للا عائشة، فرد عليه، كما ترى لقد دمر بيتها تماما عن آخره، ونفقت عنزاتها ،لكن الحمد لله مازالت حية ترزق، لم يصدق المرشد ما سمع، لكن هذه الحيرة سرعان مابددها مخاطبه، حينما أكد له أنه ليلة الزلزال، قضت الليلة عند ابنتها في الأسفل، حيث قاوم بيت ابنتها قوة الزلزال، وقد كتب الله لها عمرا جديدا.
التقى المرشد أخيرا بأمي للا عائشة وعانقها، وأخبرها أنه جاء خصيصا للاطمئنان عليها، وكذلك بتوصية من إحدى السائحات الفرنسيات.
نقل المرشد السياحي البشرى للسائحة الفرنسية التي بدورها أخبرت باقي صديقاتها، أثلج هذا الخبر صدورهن ، وكالتفاتة منهن لكرم وقلب هذه السيدة المغربية، التي أطعمتهن وسقتهن من غير أي مقابل ، ولم ترد من ذلك جزاء ولا شكورا، ما عدا وجه الله، قررت الفرنسيات السبع تمويل بناء مسكن جديد لأمي للا عائشة، وشراء قطيع من الماعز لها، حتى تؤنس هذه العنزات وحدة أمي للا عائشة الكريمة المضيافة المعطاء الشامخة شموخ جبال الأطلس.


الكاتب : جلال كندالي

  

بتاريخ : 02/10/2023