يظهر استخدام مفهوم العائق الإستمولوج ي في حقل العلوم التجريبية والرياضية مألوفذا، فقد بيّن باشلار في دراسته لتطور المعرفة العلمية، وخاصة الثورة العلمية المعاصرة في مجال الميكروفيزياء والرياضيات اللاإقليدية، أن ذلك ما كان يمكن ليحصل دون تجاوز العوائق الإبستمولوجية، هذه العوائق التي عملت المعرفة اللاعلمية على غرسها في بنية الوعي، بما في ذلك الحس المشترك، الملاحظة المباشرة، البداهة، اليقين، التطبيق العملي (…) في حين أن المعرفة العلمية المعاصرة تقوم على مبادئ وأسس جديدة مناقضة تماما لما سبقها.لقد أصبحت المعرفة تقوم على منهج البناء العقلي للحوادث بالإنطلاق من الفرضي إلى التجريبي.
أمام هذه الادعاءات اعتبر أبو زيد أن عمله هو كشف لآليات الخطاب الديني، وهو يميز تمييزا واضحا بين الدين والخطاب الديني المجسد للسلطة التي يلحقها الإنسان بالنص من الخارج، بما يتلاءم مع رؤيته إلى المجتمع والكون. وهكذا يتهم أبو زيد عبد الصبور شاهين بالمغالطة وتزييف المفاهيم، لأنه ليس هناك دعوة للتحرر من النصوص، بل من سلطة النصوص، وهي السلطة التي أضفاها الشافعي على الفكر الديني. لقد حدد أبو زيد آليات الخطاب الديني فيما يلي:
التوحيد بين الفكر والدين وبين التراث والدين، مما يجعل كلاًّ من الفكر والتراث ديانتين.
تفسير الظواهر كلها بردها جميعا إلى مبدأ أو علة أولى فيؤدي ذلك إلى تغييب التفسيرات العلمية.
الاعتماد على سلطة السلف، وسلطة النصوص.
إطلاقية الأحكام، وغياب النظرة النسبية إلى الحقيقية.
إهمال البعد التاريخي لتشكل الحقائق.
هذه جملة الآليات التي يضبطها في كتابه نقد الخطاب الديني (الطبعة الأولى)، أما في الطبعة الثانية لنفس الكتاب يضيف آلية التكفير قائلا : « إن التكفير-في الحقيقة-يمثل أيضا إلى جانب “الحاكمية” والنص”عنصرا أساسيا في بنية الخطاب الديني بشقيه المعتدل والمتطرف على السواء، غاية الأمر أنه معلن في خطاب المتطرفين، كامن خفي في خطاب المعتدلين». ومن تم إضافة هذه الآلية تحت ضغط أحكام التكفير الصادرة ضده، مما يعني أن هناك ما هو أصيل في فكر أبو زيد، وهناك ما هو مجرد رد فعل، لأن كتابه “التفكير زمن التكفير” لا يحلل تحليلا علميا ومنهجيا التكفير بقدر ما هو مجرد تكرار لكتاب “نقد الخطاب الديني” ونقد لوسطية الشافعي، ومجموعة من التبريرات لنفي التهم الموجهة إليه.
لقد دافع أبو زيد عن نفسه من خلال تحديده لثوابت الإيمان الديني المتمثلة في العقائد والعبادات، كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت…وتأكيده المستمر أنه مسلم ومؤمن كقوله: «اتهام كاتب التقرير للباحث بأنه ينكر مفهوم العلة “الأولى”الذي يعني إنكار الألوهية اتهام باطل من أساسه، لكنه الإتهام الذي صوغ مسألة “عداوة النصوص” ويسهل تصديقها من جانب النقلة والأتباع.». وهذا يتناقض مع ما طرحه في كتابه ” الخطاب والتأويل” قائلا: «فكلنا مسلمون بداهة، وإسلامنا هو الأصل الذي يحتاج لبرهان. ليس مطلوبا من المفكر أو المواطن أن يثبت إسلامه لأحد »5. ويظهر التناقض جليا في المقال الذي نشره في “مجلة الطريق” تحت عنوان “نداء إلى الشعب المصري” والذي صرح فيه : « وإذا كان شعار العالم “أنا أفكر فأنا موجود”، فليكن شعارنا “أنا أفكر فأنا مسلم” ». توقف علي حرب عند هذا التصريح في مؤلفه “الاستلاب والارتداد” معتبرا إياه تراجعا عن منجزات الفكر التنويري. فبعد أن كان يهدف إلى إخضاع الخطاب الديني، أي النص الديني والفهم الديني للنصوص إلى الدرس والتحليل العقلاني لإزاحة الغيبي والأسطوري واستبداله بالإنساني والتاريخي. بعد كل هذا يعود في الأخير ليحتمي بالدين وليس بالعلم. هذا الموقف سبق وأن انتقده أبو زيد في كتابه “نقد الخطاب الديني”. يقول علي حرب: «وهكذا انساق أبو زيد،من حيث لم يشأ، تحت تأثير الإرهاب الديني الذي يمارس ضده، إلى تقويض الإنجاز الديكارتي، منقلبا بذلك على عقله التنويري،إذ التنوير هو خروج المرء من قوقعته الدينية ونهوضه من سباته العقائدي. ». وقد نبّه أبوزيد في كتابه الخطاب والتأويل إلى إمكانية حصول مثل هذا التراجع قائلا: «ومن شأن هذا الموقف الدفاعي السجالي أن يدخل “الجديد” في دهاليز الديماغوجية الوعظية الإنشائية التي تخاطب العوام بلغتهم وعلى قدر أفهامهم. فينخرط المفكر في إنتاج خطاب ركيك سقيم ينطوي على “التراجع” و “الإستسلام”».
في كتابه “دوائر الخوف” يسجل أبو زيد الاعتراف الآتي: «لقد كان خوفي-الذي ما يزال قائما-من إستراتيجية “البحث عن العفريت” التي لاحظت أنها تسيطر على قراء كتبي مثبطا شديدا جعلني أحيانا أفقد الثقة في جدوى الكتابة والنشر.» 9. فأكيد أنه بعد الأحكام التي صدرت في حق أبوزيد جعل قرائه وخاصة المتشككين في معتقداته يقرؤون نصوصه بكثير من الحذر والتمعن لإيجاد ما يمكن أن يدينه ويؤكد صدق الأحكام الصادرة ضده. وهذا ما يمكن أن يدفعه إلى المزيد من التريث في صياغة أفكاره والتعبير عنها. رغم أنه من قبل كان يطرحها بلغة جسورة غير مراوغة، لغة تقول ما تريد دون لف أو دوران. لكن شعور كثير من المفكرين بخطورة عرض الأفكار دفعة واحدة وبوضوح جعلهم يلجأون إلى استخدام الحيلة، كما يفعل حسن حنفي والذي يقول: «أن تقال الحقائق إلى المنتصف حتى يتعود عليها الناس ثم يكمل جيل قادم النصف الآخر خير أن تقال مرة واحدة..أن تقال الحقائق على نحو متشابه ويترك لجيل قادم أحكامها خير أن تقال محكمة فتقابل بحكم آخر، وتسيل الدماء في عصر التكفير والتخويف المتبادلين». وحسن حنفي يعترف قبل ذلك أن أمثال أبو زيد هم الجيل القادم، فبعد جيل المشاريع الكبرى يأتي جيل جديد يحقق مشروع النهضة على نحو عملي دقيق، جيل يوصف بأنه تكون وتجرأ وقرأ بين السطور وتجاوز، مثل جيل نصر حامد أبو زيد، وسيد القمني ثم جيل علي مبروك…..
ما يميز جيل أبوزيد عن جيل المشاريع هو الجرأة. حيث إن أبو زيد أدرك ذلك عشية تكفيره وفي ندائه إلى الشعب المصري اعتبر أن أفكاره وقراءته التي يزعم خصومه أنه ارتد بها عن الإسلام تملأ الأسواق وأرفف المكتبات منذ سنوات طويلة. تساءل أبو زيد لماذا لم يحكموا عليها بنفس الأحكام؟ وهو فعلا يشعر أنه ينتمي إلى جيل جديد، جيل القراءة العلمية. يقول: «لكن التفات مفكر في قامة زكي نجيب محمود لمسألة التراث وتطويره وتجديده أوجد تحققه في الجيل الثاني، فانتقل مشروع النهضة من “قناع” التراث إلى “تجديد التراث”مع حسن حنفي ولعله ينتقل من ” التجديد ” إلى “القراءة العلمية” عند الجيل الثاني من تلاميذ الراحل العظيم». والمقصود بقناع التراث عند زكي نجيب محمود هو تحول هذا الأخير من الوضعية المنطقية ومحاولة تجاوزه للميتافيزيقا إلى الاهتمام بالتراث العربي الإسلامي تحت تأثير الهزيمة. وبالتالي إدراكه أن الغرب عدو لا يمكن الاعتماد على نظرياته الفلسفية للنهوض بالأمة العربية الإسلامية، فاختفى هكذا وراء قناع التراث للاحتماء به.