مؤسسة وطنية حامية للرصيد الوثائقي وللسيادة الثقافية

«المكتبة الوطنية» .. معلمة شاهدة على تاريخ وذاكرة المغرب

 

 

تلجأ الأمم للحفاظ على تاريخها وموروثها الثقافي إلى الكتب والمخطوطات التي تحمي جزاء واسعا ومهما من ذاكرتها الحضارية والمعرفية، ومن بينها المغرب، هذا البلد الذي يعود تاريخ حضارته إلى عهد العصور السحيقة، إذ يبصرنا التاريخ بدوره التنويري وما تركه من بصمة واضحة في مسار الثقافة العالمية. فالمغرب الذي عاصر حضارات شتى، وأنتج معارف وكتبا أسهمت إسهاما كبيرا في رقي الحضارات الإنسانية، كان وما يزال يُعرف أنه من البلدان الصديقة للكتب والمخطوطات، له سيادته الثقافية الخاصة به، وله مسار ممتد منذ القدم في التنوير وانتاج المعرفة وتخزينها ونقلها إلى العالم.
دور تنويري
تعتبر المكتبة الوطنية للمغرب، ذاكرته وحاضنة تراثه وهويته وحضارته التي ساهمت في إبراز دوره التنويري، إذ واكبت البدايات الأولى للتوثيق العصري كخزانة عامة للكتب والوثائق، لتتحول في بنية الرقي بالأهداف والاستراتيجيات الثقافية إلى “المكتبة الوطنية للمملكة المغربية”، ببنية مؤسسة عمومية مستقلة ماليا وإداريا، محدثة بموجب القانون رقم 67.99 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.03.200 بتاريخ 16 من رمضان 1424 (11 نونبر 2003).

تحول رقمي

عرفت المكتبة الوطنية خلال مسيرتها تحولات هامة تاريخيا ووظيفيا، وشهدت منذ دجنبر 2018 عصرا جديدا بتوظيف التقنية في خدمة الكتاب والمعرفة، مما مكّنها من تبوء مكانة كبيرة في الخارطة المعرفية تضاهي المكتبات العالمية، إذ عم التحول الرقمي منظومة عمل المكتبة المهنية والتوثيقية، وأدخلت إدارة المكتبة نظام المعلوميات مارك 21 وRDA والتقنية في الضبط والتعريف، ولم تدخر جهدا في توفير أحدث التقنيات للعناية بالمخطوطات، عبر مختبرها الذي يتميز بمواصفات عالمية بخصوص الترميم وإعادة الحياة للمضامين المادية للمخطوطات المغربية.
مختبر للمخطوطات
لقد وفرت المكتبة عبر هذا المختبر رعاية دقيقة للمخطوط، فهي تقوم بجمع ومعالجة وحفظ ونشر الرصيد الوثائقي للمخطوط المغربي وللوثائق الأجنبية التي تمثل مختلف المعارف الإنسانية، وتنمية الرصيد الوثائقي لمختلف المخطوطات والصور الفوتوغرافية والنقود والميداليات وغيرها عن طريق الاقتناء والتبادل، بالإضافة إلى تلقي وتدبير الإيداع القانوني وإعداد ونشر البيبلوغرافية الوطنية مما جعلها تحتل موقعا مميزا بين نظيراتها العالمية.

حماية الرصيد الثقافي

إن المكتبة الوطنية تقوم بالدور المنوط بها وفق القانون المنظم، ليس فقط باعتبارها مكتبة ناشرة للمعرفة، بل انطلاقا من كونها أيضا مؤسسة وطنية حامية للرصيد الوثائقي الذي يمثل تاريخ وذاكرة المغرب، وهو ما يجعلها على هذا المستوى من أقوى المؤسسات العالمية العاملة في مجالها، مستثمرة في مجال التقنيات والمعامل التكنولوجية، التي تسمح برصد قيمة الوثائق والحفاظ عليها من أي تلف، باعتبار المكتبة واجهة التاريخ وحماية الأرشيف العام، وبالتالي فهي مؤسسة يستفيد من كنوزها المغاربة كافة، على غرار المكتبات الوطنية الكبرى في عواصم العالم.

انفتاح معرفي

وإيمانا بدورها المركزي في إنتاج المعرفة وتنشيط الحياة الثقافية والانفتاح على محيطها، ارتقت المكتبة الوطنية للمملكة المغربية لمصاف المؤسسات الثقافية الكبرى القادرة على الرفع من منسوب إنتاج الأنشطة الثقافية والفكرية، وكذا عن اقتناع تام بكونها ليست مؤسسة فقط لاستقبال طلاب المعرفة، وإنما لإعادة تموقع المعرفة في محيطها، وتبسيط حضورها لدى العموم، من خلال مطلب الرفع من منسوب اللقاءات والندوات المفتوحة.

الصمود والاستمرار

لم تتخل المكتبة عن روادها، ولم تؤمن يوما أن الظروف القاهرة قد تكون عائقا فعليا أمام نشر المعرفة، وهو ما ظهر جليا إبان ظروف الحجر الصحي التي فرضتها جائحة كوفيد 19، في مواصلة المكتبة لمهامها، وكانت من أوائل المؤسسات العمومية التي قدمت خدماتها عن بعد للطلبة والباحثين في جميع ربوع البلاد، لتسهيل عملية إنجاز بحوثهم و أطاريحهم الجامعية، بل كانت المكتبة في ظل العزلة الاجتماعية التي فرضتها الجائحة نعم الأنيس والسند المعرفي للطلبة والباحثين ووفرت لهم نسخا رقمية ومسموعة من مقتنياتها بمختلف أنواعها ومنها كتب الأطفال، في بادرة وطنية نوعية لاقت إشادة واستحسانا لدى الرأي العام الوطني.
عودة إيجابية
ومع العودة التدريجية للحياة الطبيعية، استأنفت المؤسسة أنشطتها ومهامها الرئيسية، بنفس الروح الإيجابية، وأصدرت أجزاء من البيبليوغرافية الوطنية لسنوات 2015 و2016 و2017 و2018، وكذلك إصدار أجزاء أخرى برسم سنتي 2019 و2020 و2021 ، بالإضافة إلى إصدار بيبليوغرافية مختارة حول الصحراء المغربية تضم خمسة أجزاء من شأنها أن تساعد الباحثين وأصحاب القرار في الترافع بشأن قضيتنا الوطنية.

إشعاع وطني ودولي

لم يقتصر استئناف العمل وتطبيع الحياة بعد الجائحة على الإصدارات، بل شرعت في برمجة وتنفيذ عديد من الأنشطة الثقافية ذات بعدين أحدهما دولي مع بعض الشركاء بتنسيق مع وزارة الخارجية والتعاون والجالية المغربية في الخارج كالسفارات والمنظمات الدولية ومنها “اليونسكو” و”الإيسيسكو” وغيرهما، وآخر وطني بالتنسيق مع وزارات الخارجية، والتضامن الاجتماعي، والتربية والتعليم، والتعليم العالي والبحث العلمي، ومؤسسات كمديرية التاريخ العسكري بالقوات المسلحة الملكية، ومؤسسات المجتمع المدني. وإلى جانب ذلك فقد نظمت المكتبة تظاهرات على مستوى تخليد بعض المناسبات التي تربط بلدنا ببعض الدول الشقيقة والصديقة، مشيّدة جسورا من التعايش بين الشعوب.

تكريم الرواد

كانت “المكتبة الوطنية”ولا تزال قريبة جدا من فكر ترويج صورة المغرب الثقافي، من خلال تثمين الفعل الثقافي وتكريم رواده حيث نظمت المؤسسة حفل تسليم أرشيف حول الخطارات لفائدة المكتبة ومؤسسة مفتاح السعد للرأسمال اللامادي للمغرب يوم 16 ماي 2022، باعتبارها حامية للموروث الثقافي، ليس فقط من منظور الحماية المعرفية والثقافية، بل أيضا بمنظور الحماية التقنية للأرشيف نظرا لما تتوفر عليه المكتبة الوطنية من أطر متخصصة في حماية وتثمين الأرشيف، وإمكانيات وتجهيزات تقنية عالية الجودة، فضلا عن تنظيم لقاءات علمية لتكريم الرواد الثقافة المغربية المعاصرة كعباس الجراري وعبد المجيد بنجلون خناثة بنونة وتابين الاستاذ العميد ابراهيم بطالب وغيرهم.
أنشطة ولقاءات عديدة من بينها، على سبيل المثال لا الحصر، حفل تكريم الكاتب الأردني مصطفى القرنة احتفاء بروايته “فوضى في حديقة الشيطان” يوم 17 ماي 2022، وهي رواية تنهل من معاناة محتجزي مخيمات الذل والعار بتندوف وتكشف الوجه الدامي لعصابة البوليساريو المغتصب للإنسان في أبشع صوره وتجلياته، وكذا حفل تدشين النسخة الثانية من كتاب ” التراث العالمي في البلدان العربية” بحضور الشيخة مي بنت محمد ال خليفة رئيسة مجلس إدارة المركز الإقليمي العربية للتراث العالمي، يوم 26 ماي 2022.

دبلوماسية ثقافية

تعمل المكتبة الوطنية في سياق تنشيط الدبلوماسية الثقافية، وباعتبارها قوة ناعمة، على التوقيع على مسار متميز ببصمات جديدة يروم إبراز مكانة الثقافة في خدمة الشعوب كاحتفالها في إطار العمق الثقافي الإفريقي المغربي، باليوم العالمي لإفريقيا 2022 بحضور وزير الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، ووزراء خارجية 20 دولة افريقية، وعدد من السفراء وممثلي البعثات الديبلوماسية المقيمة بالمملكة يوم 08 يونيو 2022. وفي إطار التعريف بذاكرة الهجرة المغربية إلى كيبيك بكندا، وبتنظيم من مكتب كيبيك بالرباط وبشراكة مع المكتبة الوطنية تم إحياء يوم ثقافي في الموضوع يوم 21 يونيو 2022. وإلى جانب ذلك فقد عملت المكتبة الوطنية على المساهمة أيضا يوم 21 يونيو 2022، في تخليد الذكرى 80 لعملية المشعل “طورش” بتنظيم من القوات المسلحة الملكية وسفارة الولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن تنظيم مجموعة من المعارض الثقافية ذات صلة بالزيارة التي قام بها المغفور له محمد الخامس للمناطق الشمالية للمملكة، وغيرها من الأنشطة الثقافية الكبرى والفنية والعلمية، ومعرضا لتاريخ الطباعة في المغرب وما إلى ذلك.

بصمات راسخة

لقد عرفت المكتبة الوطنية هذه السنة برنامجا حافلا لقراءة الكتب بما معدله قراءة في كل أسبوع. أما معارض اللوحات التشكيلية فإن المكتبة سواء بشراكة مع الجمعيات ذات الصلة أو المؤسسات والأفراد أيضا تعمل باستمرار على الالتزام بتعهداتها مع الشركاء خدمة للثقافة والمعرفة، وهذا ما جعلها مؤسسة موثوقة لدى شركائها من مؤسسات دولية ومنظمات حكومية وغير حكومية ومثقفين كبار أمثال محمد ابوطالب، المهدي المنجرة، وعبد الحق المريني، ومحمد أركون، ومصطفى القرشاوي، وأدموند عمران المليح، ومحمد العربي المساري، ومحمد وقيدي، وخالد الجامعي وغيرهم، الذين أهدوا مكتباتهم للمؤسسة إيمانا بدورها الطلائعي في نشر العلم والمعرفة.

رسالة مستمرة

لقد ظلت الحركية الثقافية في المغرب على امتداد عمر المملكة تتمدّد وتتطور، وتتميز بالغزارة والغنى والإنتاج والعطاء، تسهم في تطوير منارات العلم وتعزيز صرح الفكر، والمكتبة الوطنية للمملكة المغربية ومن خلال أدائها تحرص على أن تظل وفية لمسيرتها في خدمة المغرب الثقافي وتوفير المعرفة للأجيال المتعاقبة.


الكاتب : إعداد: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 13/08/2022