مؤنث القصيدة في ديوان «جزيرة ف السما» لأحمد لمسيّح

تعرّضت سابقا، وبنوع من التفصيل، لمراحل الكتابة الزجلية عند الشاعر الزجّال أحمد لمسيّح، وكان ذلك بصدد ديوانه ما قبل الأخير « مسافر…بلا عنوان «، وقلت إن الشاعر في دواوينه الأخيرة بدأ يكشف بوضوح عن انتصاره لكيفية كتابة القصيدة الزجلية في مشهد زجلي يمكن تقسيمه، في تقديري إلى تيارين/ حساسيتين:
تيار التجربة أسبق من التعبير.
تيار التعبير أسبق من التجربة.
وقد لا أبالغ إذا قلت إن أعمال الشاعر أحمد لمسيح تتصدّر هذا الاتجاه الثاني بما هو تيار ينهض على إيلاء أهمية قصوى للتعبير على حساب التجربة، أو بالأحرى خلق تجربة مغايرة، تجربة نصية، مخالفة لتلك التي عادة ما تربط الشاعر بالواقع الخارجي، والتي، في حالة هيمنتها، تودي بجمالية القصيدة، وتوقعها في الاسفاف والابتذال والترهل، وتجعل منها قصيدة مباشرة يُغني الواقع عنها.
في أفق هذه التجربة الجمالية المرجوّة، والتي تجعل من القصيدة ورشة إبداعية مفتوحة على ما هو معرفي ينهل من خزّان فلسفي إبداعي بروافد الأزمنة القديمة والحديثة، يندرج ديوان « جزيرة ف السما « حيث يقول الشاعر في الصفحة 15:
« اسجن قصيدتك في « القفص الصدري»
احجبها ب « سحابة « ماياكوفسكي
بحال وليفة المتنبي…
اشرب كاس المجاطي….. عبارة النفري
تسلّف إليوت من السياب
…..
….
وخبي سرك في بئر الخال المهجورة»
….
وهي المرحلة التي، في تقديري، انجلت بوضوح منذ ديوانه « توهّم أنك عشقت «، والذي يتناصّ بذكاء مع كتاب المحاسبي « توهّم أنك مت «، والتوهم هنا درج من مدارج التخييل بما هو استشراف وتطلّع للمحتمل، يقول في الصفحة 11:
«وقال: الشعر هو اللي جاي ماشي اللي فات.»
هذا في انتظار القصيدة المشتهاة التي تأتي ولا تأتي. وزادت هذه المرحلة وضوحا في ديوانه ما قبل الأخير « بلا عنوان …مسافر» ثم انكشفت في ديوانه الأخير.
والمثير في هذه المرحلة هو هذا البحث المضني عن هذه القصيدة المحتملة، المحلوم بها من عاشق ولهان، ملسوع، لا يجد ذاته إلا بداخلها …
في هذا السياق تتماهى القصيدة بالأنثى المعشوقة، فتتحوّل الى غاية في حدّ ذاتها حيث الرغبة العارمة في اكتمالها ديدن هذه الكتابة وأسّها الأساسي، والذي لايمكن تحقّقه إلا بدخول مجال نظام عرفاني خاص …عرفانية بروحانية مفتوحة لا تقبل منطق العقل وحدوده. فإذا كان عابد الجابري يقول في خاتمة تقييمه للنظام العرفاني في نقده للعقل العربي: « اللهم اجعل لنا العقل حجابا «، منتصرا، بدافع نزعته العقلانية، في ذلك للنظام البرهاني، فإن لمسيّح، منسجما مع سياق جنس كتابته يقول في الصفحة 3:» ادعوا معنا ليسترنا العشق من حجاب العقل «، وهي الجملة المحفّزة على التحليق بعيدا، بحثا عن هذه القصيدة المعشوقة التي قالت عنها لوس كليبو في مقالتها الرائعة « مؤنث القصيدة «:
« إنه في الشعر، في هذا الشكل من الكتابة الأكثر قربا من الجسد، من الهمس، من العاطفة الجيّاشة، تحصل الكتابة خارج الأشكال والمعايير. كتابة كاشفة عن تفرّدها، مطهرة من قيود العقل «.
وعليه، نسجّل ثلاث مقامات شعرية للعلاقة مع القصيدة/ الأنثى في «جزيرة ف السما «:

ـ مقام التودّد: يقول:» كوني ابرة خيطي « دربالة» كتابتي
بشعاك ترديها كلام مسقي»
مقام التوتر: يقول: « وما نقدرش ندخل ليّ نقراني
يطيح من يدي القلم وتتقلق الورقة»
مقام الاستحالة: يقول: ولا ضو ادخل السحابة
وخلّى» صباحها « مداد ينشد:
امتى نحياو؟»

وهذه المقامات مجتمعة إنما تعكس موقع القصيدة المتمنّعة، القصيدة الحرون، التي تأبى الانصياع لأن انصياعها إيذان بموت الشعر والشاعر، وما توالي دواوين أحمد لمسيّح بكل هذه الغزارة إلا بحثنا جميعا عن هذه القصيدة المتحجّبة، ونحن في حيرة من أمرنا يقول:
« وسحابة هربت من الحلمة
والشاعر حاير
واش يبقى ف الحلمة أو يفيق؟».


الكاتب : عبدالإلاه رابحي

  

بتاريخ : 06/04/2022