«ما لم يقله ابن خلدون» للمفكر المغربي كمال القصير

كتاب يكتشف قانون الفراغ في قيام الدول والجماعات وانهيارها

 

عندما يتوقف التجديد والمراجعة والاسترداد للمضامين الضائعة، أو يقع – من ناحية أخرى- تجديد للهياكل والواجهات فقط، تكون بذلك الجماعات والدول قد دخلت في صيرورة تآكل المحتوى

منذ قرون عديدة والعلامة ابن خلدون يحظى بمكانة سامقة في العالم العربي والإسلامي وحتى الغربي، حيث حاول المتخصصون في مجالات علوم إنسانية عدة فهم ما قاله، واكتشفوا نظرياته في العمران وعلم الاجتماع والدولة والعصبية وغيرها، وتبارى العديد في شرح نظرياته وبيان اختلافها عن غيرها من النظريات الغربية خاصة، غير أن المفكر المغربي كمال القصير انفك عن كل ذلك التراث المكتوب ليكتشف قانونا جديدا من خلال «ما لم يقله ابن خلدون».
عن مركز مدارات للأبحاث والنشر بالقاهرة صدر حديثا كتاب جديد للدكتور كمال القصير بعنوان «ما لم يقله ابن خلدون: قانون الفراغ في تفسير قيام الدول والجماعات وانهيارها»، ويعالج هذا الكتاب الوجه الآخر لـ»قانون العصبية» المتمثل في ما سمَّاه «قانون الفراغ».
ويبحث هذا القانون الجديد في العلل الخفية غير المادية وراء قيام الدول والجماعات وانهيارها، وينظِّر له ويُتبعه بدراسات حالة في تاريخ الإسلام واتساع رقعة دوله شرقا وغربا إلى سقوط الدولة العثمانية، و»ذلك بهدف الانتقال بصرح ابن خلدون إلى حقل التنظير العملي لاستيعاب تحولات الماضي والحاضر واستشراف المستقبل» بعيدا عن التجريد الفكري.
في حديث ل»الجزيرة نت» يقول الدكتور القصير إنه لا يريد من كتابه هذا «شرح أعمال ابن خلدون أو تفسيرها أو نقدها، لكنني أذكر ما لاحظت أنه لم يذكره، أو طاف حوله دون أن يفصح عنه»، وإنه يسعى «إلى إكمال ما أنجزه ابن خلدون، وبخاصة ما يتعلق بمفهوم العصبية، ودورها في قيام الدول والجماعات وسقوطها؛ فهو لم يتخيل -وجيله من المؤرخين- أن الدول قد تقوم من دون دعوة دينية أو صيغة قَبَلية، كما هو حال زماننا».
المفكر المغربي كمال القصير يعتبر كتابه الجديد «جوابا على حالة التراخي المحزنة في الثقافة العربية والإسلامية (مواقع التواصل)
ويضيف أن «قانون العصبية لا يصبح فاعلًا بغير وجود دينامية الفراغ، حيث تنمو العصبية ضمن تفاعلاته. لم يجعل ابن خلدون لقانون الفراغ بناء نظريًّا قائما، لكنه استخدم مقتضياته، دون الارتقاء به إلى مستوى قانون العصبية ودرجته؛ لذا، فإن هذا القانون (أي قانون الفراغ) سيضيء المساحة الرمادية للبناء الخلدوني».
ويعتبر المفكر المغربي كتابه الجديد «جوابا على حالة التراخي المحزنة في الثقافة العربية والإسلامية في ميدان الاجتماع والتاريخ. ومن خلال طريقة بناء عناصر قانون الفراغ، يقول الكتاب للمفكرين والسياسيين والجماعات إن هذا القانون أساسي في فهم ما يحدث من تحولات لهم وللعالم. وعلى الجميع أن يتعامل مع لحظات الفراغ في التاريخ لمغادرتها لاحقا بنموذج جديد يصلح للمنطقة» ، مشيرا إلى أن ابن خلدون «اهتمّ بالأسباب المادية المشاهَدة الصلبة لقيام الدول وسقوطها؛ من الترف، والعصبية القبلية، وعوامل الطبيعة مثل الطواعين التي تُفرغ العمران من البشر. لكنه لم يقف على كثير ممّا خفي من العلل غير المادية، التي تمهّد للصعود من جهة، أو تؤدي إلى السقوط من جهة أخرى. وهنا يأتي دور قانون الفراغ، ليمثل العلة الخفيّة لكثير من التحولات التي تمسّ الدول والجماعات»
بالنسبة لكمال القصير، صاحب كتاب «تهافت الفلاسفة: أوهام صراع المفاهيم»، فإن العمران قضية أساسية في تحليل التاريخ، وأن «إعمار الدول هو ملؤها بالمحتوى الثقافي والديني والاجتماعي والحضاري. وضدّ العمران الخراب والتخريب، وهو فراغ وإفراغ للدول من المضمون السابق، مع بقاء الهياكل الخارجية».
ويوضح أن «الفراغ قوة كامنة، فهو نقطة الصفر السابقة للعصبية؛ فقبل أن تنشأ العصبية فإنها تحتاج إلى أن تقوم فوق جغرافيا فارغة من الكثافة العصبية والأيديولوجيا. وعندما تمرّ العصبية بعد نشأتها بأطوارها المختلفة مع توالي الأجيال، فإنها تضعف مرة أخرى وتتراجع حتى تتلاشى، ثم تُحدث أثناء انفجارها فراغًا، يمثل وعاء جديدًا يستعد لاستقبال عصبية صاعدة. ويترك انفجارُ العصبية فراغًا في نسيج الاجتماع والجغرافيا السياسية، ويتقلّص حينها مجالُ الدولة؛ فتصبح أطرافها فارغة، ومناسبة للقوى الجديدة للانطلاق منها، والزحف نحو المركز للسيطرة عليه».
ذلك بأن التدفّق الهائل للتاريخ يحدث كلّما ظهر وعاءٌ فارغ على تخوم وحدود الدول والإمبراطوريات. وقد كانت الجماعات البشرية على مرّ التاريخ تبحث عن المناطق الفارغة أيديولوجيًّا وسياسيًّا، أو «الأرض البور»، وهو التعبير الذي كان يصف به الدعاةُ الشيعة الأوائل بلادَ المغرب. إن حدوث الفراغ في الأيديولوجيات الكبرى للدول في مراحلها النهائية يعد صورة أخرى، يمثل فيها هذا الفراغ قاعدة لنشوء عصبية جديدة».
وبالانتقال لواقعنا المعاصر، يقول الدكتور القصير إن «التحليل بقي ناقصا عندما تحدث الكثيرون عن أسباب تراجع الإسلام السياسي، وربطوا ذلك فقط بالفشل في إدارة السلطة. وبسبب ضعف أدوات علم الاجتماع العربي الحالي، يغفل الكثيرون القوانين الاجتماعية التي تقف وراء هذه الظاهرة بعيدا عن السياسة. إن دينامية «تآكل المحتوى» عنصر أساسي في قانون الفراغ، حيث يحدث التآكل وفق صيرورة زمنية تؤدي إلى الضعف في النهاية، مقدما المثال بأن «بروز موجة الدعاة الجدد وانتشارها كان قد أكل كثيرا من رصيد ومحتوى خطاب الجماعات الإسلامية الدعوي، الذي تتم من خلاله عملية التأثير والاستقطاب. كما أن تعدد قنوات إعلام الخطاب الديني وانتشارها قد سمح بانفتاح المجتمعات على التدين باستقلالية عن صيغ التدين التي طرحتها تلك الجماعات».
ويوضح كمال القصير، أستاذ الفكر الإسلامي بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة ، أن «صيرورة تآكل المضمون تقع في صلب قانون الفراغ، فعندما يتوقف التجديد والمراجعة والاسترداد للمضامين الضائعة، أو يقع -من ناحية أخرى- تجديد للهياكل والواجهات فقط، تكون بذلك الجماعات والدول قد دخلت في صيرورة تآكل المحتوى، ويصبح المضمون في تلك اللحظة جامدًا، ويسود التقليد الذي يخدم الجمود ويمنع الفكر والفقه المتحركين، ويصبح «التنميط» والتقديس وغياب الاجتهاد والاختلاف حالة سائدة ضمن هذه الصيرورة. إن المضمون الديني والثقافي والسياسي المتحرك لا يتآكل، فالحركة عنصر مانع للتآكل».

 


الكاتب : عن» الجزيرة نت «بتصرف.

  

بتاريخ : 28/09/2024