«ما وراء السّنتير » في فيلم «بيت الحجبة» للمخرجة والباحثة السينمائية جميلة عناب

كلما زاد شغف الفنان وتراكمت معرفته بآلته الموسيقية، أكاديميا أو سماعيا، صارت تلك الآلة أكثر عطاء وهي بين يديه، وكان المتلقي أكثر تفاعلا مع عزفه. ذلك أن الفنان الذي تتراكم تجاربهُ يجيد تطويع موسيقاه كفارس أجاد ترويض فرسه. إن الموسيقى بعناصرها الفنّية والتّقنية والأنثروبولوجيّة هي كذلك سرد لتجربة حسية وإنسانية، حيث تجد من يتفاعل مع الموسيقى ويتمايل يمينا وشمالا ويرقص متتبعا الأنغام والإيقاعات وتصلنا مشاعر البهجة والفرح، أو الحزن والشجن. كما تجد من يشرد بذهنه ليعيش مشاعر الاشتياق والحنين والألم. وفي حالات معينة قد نصل لمستويات الطرب، أو النشوة أو «الترانس» Trance بالانجليزية.
وفق الأخصائي النفسي «غييرمو داليا» Guillermo Dalia، يمكننا الحديث اليوم عن «سيكولوجية العازفين». ذلك أن الآلة الموسيقية لها تأثير نفسي خاص على العازف من جهة، وكذا المستمع أو المتلقي الذي هو بدوره ينقسم إلى مستويات وفق بيئته ومعرفته بأصول تلك الآلة ومقاماتها… على سبيل المثال، ووفق نفس المصدر، قد يلجأ عازف القيثارة إلى العزف رفقة عازفين آخرين لتكتمل الأصوات والطبقات المراد أداؤها في جلسة موسيقية أو على الركح. نستطيع أن نقول هنا إننا أمام «آلة موسيقية اجتماعية». على عكس آلة البيانو التي تغطي مساحة صوتية عريضة ويصعب التنقل بها، حيث تجعل شخصية العازف يميل إلى العزلة.
لذلك، يجوز لنا أن نتساءل: كيف تؤثر هذه العوامل النفسية والاجتماعية أيضا على العازف ومردوديّته؟ وكيف يمكن رصد وتحديد هذه الحالة المحيّرة التي يعيشها إنسان قرّر أن يمنح وقته وطاقته لوهب تلك الآله حضورا وصوتا؟ وبعبارة أخرى: أن يمنحها روحا من روحه ويبثّ فيها الحياة. خاصة أنّه فيما يتعلق بالآلات الأكثر أصالة والمصنوعة من عناصر طبيعيّة، أو ما يصطلح عليه «بموسيقى الشعوب»، فالعازف هنا هو نفسه من قام بصنع تلك الآلة قطعة قطعة.
في هذا الصدد؛ أصدرت الباحثة والمخرجة المغربيّة «جميلة عنّاب» فيلما بعنوان «بيت الحجبة»، والذي عُرض ضمن فعاليات الدّورة الأخيرة من المهرجان الوطني للفيلم بطنجة، ليعرض بعد ذلك في المهرجان الدَّولي لسينما المؤلّف في الرباط. كما تم إدراجه ضمن قائمة الأفلام المشاركة في أيّام قرطاج السّينمائية، دورة أكتوبر 2023. الفيلم من كتابة وإخراج جميلة عنّاب، أما الانتاج فهو لـ «سينتلما» Cinetelma.
تدور أحداث الفيلم في مدينة الصويرة، المرتبطة في المخيال المغربي- والأجنبي أيضا- بأجوائها الساحرة المتمثلة في ثنائية الأبيض والأزرق في الشوارع والأزقة والمنازل، والقطط والنوارس، والبحر والصيادين ورائحة السمك، .. أما في الذاكرة الصوتية، فهي ترتبط بِموسيقى «كناوة» المتوارثة منذ قرون في المنطقة.
المْعلّم الصدّيق هو أحد أبناء هذه المدينة، وأحد أكثر المْعلّمين الكناويين شهرة وشعبيّة. وهو يستعد لِحدث هام جدا، وهو «ليلة كناوة». غير أن السّنتير الخاص به لم يعد صالحا للعزف. ما يدفعه إلى صنع سنتير آخر بنفسه اتباعا للعرف الكناوي، خاصة أن الأمر هنا يتعلق بالآلة الأساسية التي تُنادى بها الأرواح التي ستأتي لليلة كناوة، والتي تُعزف عليها السبع مقامات أو المْحلات، بشكل تستجيب فيه كل روح لمقام معيّن.
ولأن «تكناويت» عُرف مقدّس لدى أتباعه، فَعدم الالتزام به يعدّ عصيانا وخروجا عن التقاليد، ذلك أن المْعلّم عليه أن يتطهّر ويمُر بِمراحل معيّنة استعدادا لمقابلة الأرواح هو وآلته. هنا يأتي دور» بيت الحجبة» الذي اختير عنوانا للفيلم؛ تلك الغرفة التي لا يملك أحد حق الولوج إليها باستثناء صانع السنتير الذي سيستخدمه، وذلك مخافة أن تفقد الأرواح التي ستزور المكان تأثيرها على الآلة.
يضعُ المْعلّم السنتير في هذه الغرفة المظلمة الغامضة ليصير كالجنين في مرحلة التكوين، فهذا «الكائن الخشبي الحي» الذي صَنعه العازف بداية من قطع جدع الشجرة، وتجويفه لتحضير ما يسمى موسيقيا بالقصعة أو صندوق الصوت، ثم تركيب الجلد بعد أيام من التجفيف، وتجهيز الذّراع الخشبية والأوتار الثلاثة، وكأنه كائن قيد التكوين؛ صار بحاجة لاحتواء الأرواح.
لا يتم عزل السنتير فقط، بل العازف نفسه، حيث يختلي في مكان يتم انتقاؤه بشكل خاص لمدة سبعة أيام، بغرض للعزلة والامتلاء. كي يتحقق المراد من ليلة كناوة التي سَيُنادى بها «المْلوك».
هو إبداع يخلقه العازف، المْعلّم، وهو منسجم تماما مع آلته التي تمنحه هوية وروحا ويستشعر جسده ترددات نغماتها، حيث تكاد تصير جزءا لا يتجزأ من ذاته.
ٱثرت المخرجة اختيار خطّين للحكاية، حيث توثّق الكاميرا خلق المعلّم الصدّيق للسّنتير وانتظار اكتماله وتحضيره، وذلك بتواز مع قصة «تودا» التي تؤديها الفنانة حنان الزهدي، المرأة الأمازيغية التي تمارس مهامها اليومية في القرية، حيث تجمع الحطب وتحضّر الخبز، وترعى الماعز… وتعيش لحظات حزن وفرح، وهي تحمل في قلبها مشاعر امرأة حامل تريد ضم مولودها إلى حضنها. هذا الترابط الذي قد نترجمه كصورة مجازية للسنتير في كونه متّصلا بِكيان صانعه.
اشتغلت المخرجة بعناية فائقة على الشريط الصوتي للفيلم. إذ ينقلنا «بيت الحجبة» إلى مدينة الصويرة وهزيز رياحها ونعيق نوارسها وكأننا نواجه المساحة الصوتية التي يعرضها الفيلم. فكلما ابتعدت الشخصية، صار الصوت أبعد. كما أن العناصر المتواجدة في تركيب الصورة يصدر صوتها من مكبرات صوت معيّنة في قاعات العرض وفق تموضعها في المشهد. وعلى الرغم من وجود الصّلة بين الموسيقى الكناوية وفيلم «بيت الحجبة»، فالمخرجة لم تقع في فخ طغيان الموسيقى على باقي أصوات الشريط الصوتي للفيلم، ولم تستخدمها كموسيقى تصويرية بل استخدمتها في المشاهد الملائمة لها على شكل غناء حي. في المقابل، يجد المتلقّي نفسه في مواجهة مع المشاهد التي يطغى عليها الصمت، ما يؤدي إلى غموض وتساؤل حول شخصية حنان الزهدي «تودا» في الدقائق الأولى لظهورها، في «استفزاز» للمتلقي ودعوة للتأمل والتركيز أكثر مع الفيلم.
وإن اعتبرنا أن هذا التركيب يدخل في الرؤية الإخراجية لجميلة عنّاب، فهو ظاهر كذلك على ملصق فيلم «بيت الحجبة» الذي جاء كصورة ملخصة لِرمزيته. نحن أمام ملصق ينقسم تركيبه إلى قسمين:
على اليمين نرى «المعلم الكناوي» الصديق جالسا ممسكا بآلة السنتير بكل حنو وحرص وكأنه يمسك طفله الرضيع، أمامه مائدة صغيرة فوقها أربع شموع مشتعلة تمنح النور للناظر إليها. وألسنة من النار متفاوتة الحجم في توضيب montage سلس جدا. ما يحيل إلى الحركية والديناميكية في الصورة. ذلك أن النّيران تنعكس على مدخل المكان الذي يختلي فيه المعلّم الجالس في وضعية تكاد تتماثل مع وضعيته يمين الصورة. حيث أن العناصر المتموضعة على يمين الملصق تشكل تضادا تاما مع نراه على اليسار: العتمة مقابل النور، وخلوة الصديق في مكان شبيه بالكهف مقابل الفضاء المفتوح. هو تضاد قد يكون مقصودا لجذب الانتباه حول موضوع الفيلم، العازف وآلته والحالة التي يعيشها… الأمر الذي يمنح الصورة/ الملصق سحرية شديدة، كما تخلق العتمة الطاغية على تركيب صورة الملصق جوا من الغموض ومجموعة من المشاعر والأفكار المتوقعة في هذا العمل.
إن هذه الحكاية التي تتمحور حول العازف الكناوي وعرفه المقدّس، وآلته ومراحل تحضيرها، والصلة بينهما… تعرض لأول مرة في السّينما المغربية، لتكون المخرجة جميلة عنّاب أول من قام بعملية ورصد وتوثيق هذه الحالة من خلال عمل سينمائي يضيء جوانب كثيرة من سيكولوجية العازف على الٱلة الوترية الأقدم في الموسيقى المغربية، ما يشكّل خطوة هامّة في التّعريف بالتّراث الكناوي، ويؤكد أن اختلاف زاوية النظر بالنسبة للمؤلف يمنحه عملا متفردا ومختلفا عن السائد.


الكاتب : رانية النتيفي

  

بتاريخ : 06/01/2024