مائتا عام مرت على اهتزاز عرش القيصر

 

 

بحلول الحادي عشر من شهر تشرين الثاني الجاري، احتفل الأدباء، الكتاب، القراء، العدميون، العبثيون، وكل بؤساء البصيرة بالذكرى المائوية الثانية على ميلاد أعظم أدباء روسيا على الإطلاق، إنه فيودور ميخايلوفيتش دوستويفسكي.
قبل مائتي عام من الآن، كان عرش القيصر قد اهتز بقصر الشتاء مذعورا من خبر ولادة أحد المتمردين الروس بمدينة موسكو، وكانت حينها رفوف المكتبات الوطنية في جل عواصم أوربا قد اغتبطت بميلاد واحد من جهابذة الأدب، الذين سيغنون مكتبات العالم أدبا وحكمة. كان مقامرو  ومعذبو وبؤساء وسجناء روسيا حينها سعداء بمجيء شخص مثل فيودور دوستويفسكي إلى الوجود، طبيب في صفة أديب يداوي جروحهم تارة، ويكشف أغوار نفوسهم تارة أخرى.
كان الحادي عشر من نونبر من عام 1821 يوما شبيها بميلاد نبي من الأنبياء، لقد كانت البداية الأولى لأول نبوة في مجال الأدب، نبوة سيحمل رسالتها طفل روسي صغير اختاره القدر أن يكون عراب الأدب الروسي على مر الأزمنة.
مع توالي السنون واشتداد عضده، بدأت الأفكار الاشتراكية تؤثر على فيودور دوستويفسكي، كما أن انحيازه للكداح والمفقرين سيجني عليه العديد من المشاكل، خصوصا في علاقته بالنظام القيصري الروسي الجائر آنذاك. وقد كان فيودور دوستويفسكي عضوا برابطة  بيتراشيفسكي السرية، وكانت هذه الرابطة تعقد اجتماعات كل جمعة  بمنزل الصحفي ميخائيل بيتراشيفسكي. دوستويفسكي سيلتحق بدائرة « بالم دوروف» المنشقة عن «دائرة بيتراشيفسكي» . وقد ذكر الناقد الادبي الأمريكي هارولد بلوم أن سبب هذا الانشقاق كان بدعوى أن دائرة بيتراشيفسكي لم تعد تهتم بالشأن السياسي، بل اكتفت فقط بمناقشة المواضيع ذات الصبغة الأدبية أو ما له علاقة بالموسيقى.
ما بعد، سيعلن القيصر نيكولا الأول حظر كل الجمعيات الأدبية والثقافية السرية واعتقال أعضائها، وسيتم اعتقال ميخائيل بيتراشيفسكي وباقي الأعضاء، منهم فيودور دوستويفسكي الذي سيتم توقيفه واعتقاله في الثالث والعشرين من نيسان/أبريل من عام 1849 داخل منزله بسان بيترسبرغ. سيتم النطق بحكم الإعدام في حق دوستويفسكي وباقي رفاقه، ليخفف الحكم عليه في آخر اللحظات، ليتحول الحكم من الإعدام إلى عشر سنوات، سيقضي منها أربع سنين من الأشغال الشاقة، وست سنوات بالمنفى في سيبيريا.
بعد كل هذه السنون من الأعمال الشاقة وكل أشكال التعذيب التي تلقاها، سيعمل فيودور دوستويفسكي على ترجمتها  إلى أعمال أدبية  ستظل خالدة إلى أبد الأبدين.
أظهرت بعض أعماله جانبا من حجم التعذيب الذي تلقاه بالمنفى(حلم العم نموذجا) في حين عكست باقي الأعمال الأدبية الأخرى علو كعبه في سبر أغوار الذات البشرية، وقدرته الفائقة على الغوص في دواخل الإنسان.
إضافة إلى كل هذا، فإن دوستويفسكي يمتلك قدرة رهيبة على زعزعة ذهن القارئ واللعب على وتره الحساس. أعماله الأدبية تجعلنا نتوقف كل لحظة ونتساءل: هل دوستويفسكي يعرفنا؟ هل يتحدث عنا؟ .
دائما ما يجد القارئ نفسه شخصية من شخصيات دوستويفسكي، مرة كمراهق، ومرة كأبله، ومرة كرجل مضحك، ومرة كمقامر، ومرات عديدة كفيلسوف يطرح الأسئلة الوجودية بكل تلقائية:» هل تعلم يا سيدي الكريم ما معنى ألا يكون للإنسان مكان يذهب إليه؟» .
إن دوستويفسكي مستشفى  لكل المرضى العاطلين عن الحياة، وكل أولئك الذين أتعبتهم الأسئلة،  وفي الآن نفسه هو الطبيب الوحيد والأوحد لكل هؤلاء. لقد تحدث في كل شيء وعن كل شيء: الله، الإنسان، الحب،الجمال، الحياة، والموت. بعبارة أدق، إنه الكاتب الذي تحدث عن ما نخشى نحن التفكير فيه، غرد خارج السرب، طالقا العنان لمخيلته للتفكر في كل شيء، دونما قيد أو شرط.
في مقال بمجلة «ايستوغيا» الفرنسية   نشر في شهر نونبر من عام 1971 بمناسبة مرور 150 عاما على ميلاد فيودور دوستويفسكي تحت عنوان : « دوستويفسكي، سجين الحرية» أعده الكاتب الفرنسي جورج ريير ا قال في افتتاحية المقال ما يلي:
-» لقد مرت مائة وخمسون سنة على ميلاد  دوستويفسكي بموسكو.أليس هو أكبر عمالقة الأدب الروسي؟ وواحدا من أكثر الذين نالوا حظا كبيرا من التعذيب. لقد عاش في عالم من نار يتقاطع فيه لهيب جحيمه من جهة، وأنوار رجل حالم من جهة ثانية. لقد نال أشد أنواع التعذيب، مرة كسجين، ومرة كمريض بالصرع، ومرة أخرى كمقامر. لكن حساسيته المرهفة مكنته من التعرف على الإله  لحظات سموه وتعاليه».
و أخيرا، وبعد سنين عديدة من العمل على إغناء مجال الأدب وإتحافه بأعمال ستكرس نفسها من خالدات الأدب العالمي، كان دوستويفسكي قد ترجل عن صهوة جواده في التاسع والعشرين من كانون الثاني عام 1881، ونام نومه الأخير، وإلى الأبد ببيته بسان بيترسبرغ.
ليرحل عراب الأدب العالمي، تاركا وراءه إرثا أدبيا خالدا.


الكاتب : عزالدين بوروى

  

بتاريخ : 20/11/2021