يبدو حسن بحراوي، سارد هذا النص ملحا على استصحاب قارئه معه، بما يعني تحميله جزءا من مسؤولية إخراج هذا المنجز (الرواية)(1) إلى واقع الناس، ويظهر هذا المنحى منذ الصفحات الأولى لهذا النص، (السيدات والسادة القراء .. اسمحوا لي أن أعرض عليكم مشكلتي في هذه الرواية..)(ص7)، ويستمر معه حتى منتهاه، إذ يصر الراوي (السارد) في العديد من المناسبات، على استدعاء قارئه، ومخاطبته بصيغة من الصيغ، وإخباره باختياراته الأدبية، وهو يباشر عملية الكتابة ؛ فيحدثه حينا عن اختيار (الحانة ) مكانا لموضوعات الحكي، ويستشيره حينا في تسمية مجمع شخصياته ب «مائدة العلماء»، يقول: ( وهنا بالذات أحتاج إلى التشاور معكم في شأن رغبتي أن أسمي تجمعهم هذا بمائدة العلماء تيمنا بأجواء العلوم والمباحث التي تنبثق عنها مائدتهم …) (ص12)، كما يخبره حينا آخر، بطريقة اختيار سارده. يقول: (وبعد الفراغ من التفكير في شخوص الرواية الذين أترك لكم فرصة اكتشافهم واحدا واحدا …رأيت لزاما علي أن أقوم بتحديد الزمن السردي …فقلت مع نفسي لماذا لا أكتري ساردا محليا …) (ص14)، ثم يخبر قارئه كيف استقر رأيه في النهاية، وبعد مشاورات مع النقاد، على الاعتماد على نفسه في تدبير عملية السرد:( وهكذا حزمت أمري أخيرا وصرت ساردا عن بكرة أبي…أي كائنا عالما بكل شيء وحاضرا في كل مكان ..) (ص16) ؛ كل هذا الذي يفعله الراوي، غايته هو تصفية ذمته مع قارئه. يقول: (وأكون قد صفيت ذمتي اتجاه قرائي الافتراضيين كما أصبح يقال اليوم.. وصار بإمكاني مباشرة الانخراط في حكاية المائدة .. مائدة العلماء ..)(ص17). هذا الحرص على استصحاب القارئ يطول أيضا شخصيات النص، يقول (أستاذ الرياضيات) مخاطبا القراء المفترضين: (ولو كان ذلك ممكنا تطبيقيا لعرضت أمامكم هكذا على الورق مباشرة أو مستعينا بسبورة، الخطوط العريضة لمشروع، فيه من التعقيد بقدر ما فيه من الطموح …ولكنني أعرف بالتجربة أن قراء الأدب ليس لهم مع هذه الأمور المستغلقة .. ) (ص229_230). وبعد أن يحدثهم عن معنى الرياضيات (ص230)، يختم كلامه إليهم فيقول: (وعند هذا الحد يتوقف التشخيص العام الموجه للجمهور وتنطلق العمليات الرياضية بمعناها الخاص …) (ص231)؛ وفي موقف آخر يتجه السارد إلى القارئ ليخبره أنه سينوب عن شخصية (عالم الدواجن) في تقديم خلاصات بحثه :(وأتمنى ألا أثقل عليكم لو استعرضت نيابة عنه بعض ما انتهى إليه في بحثه الميداني ..) (ص269)، وفي نفس المسار يتدخل الراوي محدثا القراء: (وبينما كان يضع نقطة الختام لبحثه الميداني الذي علمتم فحواه في ما تقدم من الصفحات…) (ص273)، ونفس الأمر سيتكرر مع شخصية (أستاذ الري)، الذي سيتوجه هو الآخر إلى قارئه ليحدثه عن أنواع الري (ص323)، وهكذا ستستمر عملية استدعاء القارئ وإشراكه في تدبير عملية الكتابة حتى نهاية هذا النص، إذ سيقوم الراوي بدعوة قارئه المفترض لإشراكه في تدبيج خاتمتها، مقترحا عليه مجموعة من النهايات الممكنة، والتي سيختار منها نهاية القاص (محمد زفزاف)، في روايته «الثعلب الذي يظهر ويختفي». يقول : ( وأخيرا أعرض عليكم اقتراحا خذوه أو اتركوه لنهاية استنفدت فيها كل طاقتي بعد أن استعرتها من رواية لمحمد زفزاف (الثعلب الذي يظهر ويختفي ) .. ) (ص393)، الرواية التي تحكي عن زمن سنوات الرصاص ليتساءل الراوي بعدها عن علاقة تلك السنوات بزمننا الآن (ص394).
محاكمة الكتابة :
يبدو الراوي في هذا النص غير راغب في تحمل تبعات هذا الحكي بمفرده، وإن كان هو سارده بالفعل، لأنه في النهاية لا يخصه تحديدا، إذ هو مجرد حاك وناقل لما عاينه، وحرص على تسجيله، يوما بيوم، وبمجهود شخصي يشير إليه بوضوح، حيث كان يتحين الفرص وينوع في طرق استجماع هذه الحكايات التي تخص أحوال أصدقائه الأساتذة، أعضاء (مائدة العلماء) (ص401)، ويخبرنا كيف كان يحمل إلينا (نحن القراء) أخبارهم: (كنت أغادر إلى دورة المياه لأدون ملاحظاتي بمعدل ثابت لا يقل عن ثلاث أو أربع مرات في اليوم والليلة الواحدة …) (ص402) . وكأن الراوي هاهنا يريد أن يكون في حل من هذه الكتابة، سواء من حيث اختياراتها الشكلية التي تعني جنس الرواية، أو من حيث رهاناتها المضمونية التي تعني أحوال الشخصيات ومساراتهم الفكرية والحميمية ؛ فالأمر يبدو أقرب إلى المغامرة ، كما جاء على لسان القاضي مدافعا عن الكاتب: (وبالمناسبة فقد تخابرنا مع زمرة من النقاد فأكدوا لنا أن هذه الرواية تندرج في باب الكتابة السردية التجريبية التي تتحرك في نطاق المغامرة وحرية التعبير ..) (ص404) التي تعني التجريب؛ تجريب التعبير عن طريق هذا اللون من الكتابة، المسمى (رواية) . يريد الراوي أن يقنع قارئه المفترض أنه إنما بدا له في لحظة ما، أن يجرب حظه من هذا الذي يسمى كتابة الأدب، وربما أيضا كتابة الرواية، ليبقى للقارئ كامل الصلاحية والحرية في القبول بهذا المكتوب أو رفضه، ولذلك لا مشكلة لديه أن يعرض عمله على المحاكمة؛ محاكمة أدبية، بل وثقافية أيضا، نتائجها في النهاية لا تهم، إذ الأهم يبقى هو التجربة، حتى ولو كانت فاشلة، ففي فشلها تكمن رهاناتها التجريبية، وفي ثنايا هذه المحاكمة يتم عرض الكثير من القضايا الإشكالية المرتبطة بكتابة الأدب. يمكن أن أميز منها ما يلي: (العلاقة الإشكالية بين الكاتب والقارئ )(ص398)، (مسألة تلقي الأدب) في علاقة بالنقد بمختلف أشكاله(ص404).
بناء الشخصيات:
يمكن أن نلاحظ أن الجزء الأهم من هذا النص، يخصصه الراوي لتقديم شخصياته والتعريف بها بطريقة يقول عنها 🙁 … بطريقة حرصت أن تكون وافية أي أن لا تترك كبيرة أو صغيرة إلا نبشت عنها …وقد عانيت في هذا الشأن الكثير…)(ص403) ؛ وبصدد هذا العرض ذي المنحى البيوغرافي للشخصيات، يمكن رصد مجموعة من العناصر والتقاطعات، أشير منها إلى مايلي :
– أولا : كل شخصياته، التي يمكن نعتها بالرئيسة، تشترك في انتسابها إلى هوامش المدن، وإلى أصول بدوية تحديدا؛ (الأستاذ الأندلسي)، ولد على بعد خطوات من وادي المخازن (ص139)، ومنها انتقل، بعد أخذ ورد، إلى الدراسة بإسبانيا (ص143_144) ؛ (أستاذ الرياضيات) ينتقل من بادية سيدي علال التازي، حيث اشتغل برعي الغنم (ص195)، إلى دراسة الرياضيات بباريس (ص196)، ثم بأمريكا (ص197) ؛ (الأستاذ عالم الدواجن)، ينتقل من ضواحي مدينة مراكش(ص260) إلى الدراسة بمعهد زراعي بمدينة (ليل) الفرنسية (ص261)؛ (الأستاذ عالم الري) ينتقل من عائلة تهتم بزراعة الأرض وسقيها، بإحدى القرى (ص312)، إلى الانكباب على التحصيل العلمي في مجال الزراعة، بالمدرسة المحمدية للمهندسين (ص321) ؛ (أستاذ الجيولوجيا) ينتقل من قرية قرب (غفساي) إلى مدينة (مونبوليي) لدراسة الجيولوجيا وعلوم الأرض (ص352).
– ثانيا : جميعهم واجهوا صعوبات بدت كبيرة ومتنوعة في مساراتهم الدراسية، سواء من حيث اختيار مواضيع بحوثهم، أو من حيث الظروف التي صاحبت إنجاز هذه الدراسات والبحوث ؛ (الأندلسي) يتحمل الكثير من العناء إزاء انتصاره للشاعر الأمير(المعتمد بن عباد) ، وما يعنيه الجمع بين الاستبداد (الإمارة)، والشعر(ص158)؛ (الرياضيات) وقصته مع منحة الصندوق الأمريكي الإسرائيلي (ص210_211) ؛ (عالم الدواجن) ومعاناته في الحصول على أستاذه المشرف وتحديد موضوع لبحثه (ص284) ، واشتغاله بعد لأي، أستاذا مكلفا بطمأنة المواطنين، حول صلاحية لحوم الدواجن، بأمر من الكاتب العام للوزارة (ص304) ، وتهدئة مربي الدواجن (ص306) ؛ (أستاذ الري) ومعاناته مع إخوته بعد موت الأب (ص316-317)، ومواجهته لمشاكل الشأن الفلاحي، والعقليات المرتبطة به والتي بدت مغرقة في التقليد وتخلف الوعي (ص349) ؛ (أستاذ الجيولوجيا) ومعاناته في تدبير موضوع بحثه، بين موت الأستاذ المشرف، وخيانة زوجته (ارحيمو)، وخذلان صديقته الفرنسية (ص357) .
– ثالثا: جميعهم سينتهي بهم الأمر إلى الانضمام إلى «مائدة العلماء» بحانة «منتصف النهار»، بما يشبه النهاية الموضوعية لمسارات شخصيات اهتمت بالمعرفة، وقادتها ظروفها عبر مسارات مختلفة، لتلتقي حول (مائدة العلماء).
محكيات عابر :
فضلا عن الحكايات الرئيسة، أو التي يمكن نعتها كذلك، والتي تخص أعضاء «مائدة العلماء»، كما يسميها الراوي، يحتفل هذا النص بحكايات أخرى يتم إيرادها بين ثنايا الحكي على سبيل التنويع السردي، والتفصيل التعبيري، كما يمكن أن نقرأ. ويمكن الإشارة هاهنا إلى الحكايات التالية:
_ حكايات (الحسين )، نادل حانة (منتصف النهار)، الذي يتحول أحيانا إلى سارد بالقوة، يحكي مروياته لأعضاء (مائدة العلماء) (ص 56إلى ص59).
– حكايات (بائع البيض) (ص60)، و(بائع اللوز) (ص61)، و(المكسيك) بائع الزريعة (ص62)، وحكاية مدير الديوان (شاف دو كابيني) (ص63)، وحكاية (بائع السجائر الأعمى) (ص78إلى ص81)، وحكاية (رجل الأسلاك) (ص81-82)، وحكاية (الفنان التشكيلي) (ص85 إلى ص87)، و(عازف الآلة) (ص88و89) .
– حكاية رجل الداخلية (سبيلمان) الذي توفي داخل الحانة جراء تجرعه لكميات كبيرة من الخمر، ما أدى إلى إغلاق الحانة وتفرق أعضاء المائدة على قبائل الحانات (من ص104 إلى ص114) .
– حكاية المخبر(السفياني) (ص120 إلى ص125) ؛ حكاية (الأندلسي ) مع (سعاد) ابنة السفير (ص166 إلى ص177) .
إضمامة:
يبدو راوي هذا النص، غير مستعجل، وربما أيضا غير متحمس لتوقيع كتابة باسم (رواية)، وكأنه إنما يريد أن يروض حظه من الحكي، أكثر مما يريد أن يكتب سردا باسم محدد (رواية)، ولذلك بدا حريصا على إشراك قارئه، واستدعائه في الكثير من لحظات هذا النص (الكتابة)، كما بدا حريصا أيضا على تفعيل خصيصة التناوب، في تدبير عملية الحكي، بين السارد والراوي والشخصيات.
* 1 (مائدة العلماء) رواية – حسن بحراوي -الطبعة1 -2024م – دارأبي رقراق للطباعة والنشر – الرباط.

