ماذا يمكن للعلوم الإنسانية أن تقول من جديد؟

 

نحيا اليوم في مدارات زمنية ممخوضة بعُنف التحول. اجتهد الفيلسوف بودريار في توصيف الوضع بالقول: «زمن فوق الواقع». كُل الذين يشتغلون على خطابات العلوم الإنسانية يشعرون أننا أمام خطابات مفارقة، وقد يقسو البعض ويقول مُتجاوزة. نعم متجاوزة لأنها تبدو كما لو أنها لا تستطيع تقديم مداخل عِلمية من أجل فهم تشعبات الواقع الإنساني المتعدد والسائل…نغرق يوما بعد آخر في جاذبية عالم اقتصاد السوق وخطابات التكنوقراط التي حَوَّلت الواقع إلى كازينو تعمه فوضى الأسعار وجشع الأرباح وضرب القيم… نضع هنا، حِملا ثقيلا على العلوم الإنسانية، كيف يُمكن لها أن تُسهم في تحصين الإنسان الرقمي من تطرف الواقع؟

أسئلة عديدة ترتسم داخل مغرب اليوم، في تفسير تموقع العلوم الإنسانية ضمن خارطة الفهم، تبرز معها نتوءات التباعد وأنوية المغايرة، بين قوى تُمعن في السلطوية، وأفراد يتطلعون إلى توسيع هوامش الحرية… مغرب اليوم يطرح سؤالا: من يريد حَرْق الوضع؟
نحن أمام زمن جديد، بمرجعيات جديدة، وبأسئلة جديدة، يعيد رسكلة الخطاب والممارسة، بتصور مانوي، يقيم شرخا، بين قديم يترنح، وجديد لم يولد كما يقول غرامشي.
على العلوم الإنسانية الآن أن تُشيد حفرا جديدا يستند إلى بلازما الزمن، ويُعرِّي عن انجراحات الذات المغربية، ويقف عند انعطاباتها الوجدانية، عند إخفاقاتها الحضارية في كل الوَصفات الإصلاحية ماضيا وحاضرا، لفهم سؤال الإخفاق التنموي…وكأن مقولة السلطان المولى عبد الحفيظ «داء العطب قديم» تنبعث من جديد بمغرب اليوم، في تفسير مغرب الأماني والأحلام المجهضة.
لربما قول المؤرخ قد لا يُعجب إلا المؤرخ أو من له مزاج المؤرخ، وقول رجل الاجتماع تصحبه الفضيحة. كلاهما يَهُمَّان بمكاشفة ميلاد الوطنية في الرحم التاريخي Matrice historique. الوطنية هنا منظومة فكرية نجحت كنسق متراص في دحر فكرة السيادة المشتركة، وأيضا حركة سياسية ألغت وظيفية جيش الحماية، لكنها لم تنجح في بناء دولة الاستقلال.
سؤال الوطنية أو المواطنة ضمن زمانية مطبوعة بالتحول، لا يزال مثار نقاش واسع. تساؤلات مُحددة أحيانا، وسياقية أحيانا. ليس من السهل أن يظل نظرنا إلى الوطنية رهين الاستظهار بالبديهيات والسرديات الوطنية…الوطنية هي شعور، سلوك، وتطلع، الشعور هو الاعتزاز بالذات، السلوك هو الإيثار والتضحية، التطلع هو الحرية والتقدم والرفاهية، كيف يمكن للوطنية مهما يكون مضمونها، أن تكون بعد أن لم تكن؟ كما يفصح العروي في كتابه «استبانة».»
ثمة حاجة مُلحة لإقامة تحليل نفساني للمغربي المُستلب وجدانيا، وهو مَسْح سبق أن قام به فرانز فانون في سياق مغاير في كتابه هام بالمناسبة تحت عنوان: «معذبو الأرض»، حينما اعتبر أن مأساة العالم الثالث في الحاضر، تتلخص في الأعطاب النفسية التي أتت من فوهة الغرب، مشيرا في الصدد نفسه إلى أن «اللعبة الأوربية انتهت ابحثوا عن شيء آخر» Le jeu européenne est terminée cherchant autre chose.
نفسانية مغربية تَربَّت في حضن التواكل، غابت عنها جرأة الاختيار الفردي والجماعي في اتخاذ القرارات المصيرية. لننصت إلى نبض التاريخ وسكناته. تاريخيا، لم تتكون لدينا طبقة فيودالية قادرة على جَرِّ المجتمع على نحو فيودالي واضح، ولا طبقة مركنتيلية قادرة على جر المجتمع على نحو مركنتيلي واضح، ولا طبقة بورجوازية قادرة على تأسيس ثقافة بورجوازية جديدة… باختصار صريح، تجربتنا التاريخية تُزكي الجمود على الموجود، والاستقرار في ظل الانحطاط، لدرجة دفعت العروي إلى القول دون مواربة، لا يخلصنا من هذه المحنة سوى معجزة.
وَضْع حَار في توصيفه علماء الاقتصاد، في وصف ما كان يعتمل بمغرب ما قبل الحماية: هل نحن مجتمع آسيوي كما تفيد بذلك أدبيات التحليل الماركسي لأندري نوشي وأصحابه؟ هل نحن مجتمع قائدي بتوصيف من سوسيولوجي الحوز بول باسكون؟ هل نحن مجتمع معاشي حسب الاقتصاد الفرنسي نيكولا مشيل؟ هل نحن مجتمع عتيق بعبارة المؤرخة الفرنسية لوسيت فالنسي؟ هل نحن مجتمع كفاف حسب المؤرخ المغربي أحمد التوفيق في مونوغرافية إينولتان، أم مجتمع المبادلة حسب الاقتصادي البريطاني كارل بولانيي؟
لنترك هذه الانشغالات جانبا، لأن النقاش فيها أسال ولا يزال مداد الباحثين منذ مدة طويلة، ولنَعْبر نحو إشكالية التذبذب التاريخي/ الزمني، التي ترسم لنا مغربا يسير بإيقاعات زمانية مختلفة، مِنَّا من يعيش بذهنية ما قبل 1912، ذهنية القبيلة والسيبة والمخزن…ومِنَّا من يعيش بذهنية مغرب الحماية، ومِنَّا من يحيا بذهنية الدولة المدنية ومستتبعاتها الديموقراطية. باختصار مغرب بتوليفة مرتبكة.
تاريخانية التذبذب التاريخي والتأرجح الحضاري هي التي جعلتنا نتواكل على الآخر، المُخلِّص، ونعيش عُقدة الرجل الأبيض، نستورد منه وصفات لأعطابنا الحضارية، ونعتبره مخرجا لكل إخفاقاتنا الوجودية. ورثنا الآلة أو الحداثة من دون دليل عمل، فكان تحديثنا فوضويا، أَوَ لسنا نريد حداثة من دون نسغها الفكري والإنساني؟ وبما يمكنها أن تقدم من أدوات نقد وتفكيك لأصنامنا الموروثة.
مشكلتنا أننا عالقون في الزمن البائد بوصف من مؤرخ الثورة الأمريكية ألكسيس دو توكفيل، نمتلك نقدا سورياليا للواقع، فقط لأننا عالقون في علياء التاريخ ونرجسية الذات.
هناك شعور بالتحول. يبرز مفهوم التحول كبراديغم محوري في الدراسات التاريخية، فاصلا بين مغربين: مغرب الأمس ومغرب اليوم، مغرب الأمس ليس هو مغرب اليوم، مغرب الأمس ذهني ومغرب اليوم مادي، أو لنقل بعبارة وجيزة: تحديث مادي واستمرارية ذهنية.
حداثتنا مُشوهة، قُشرية، ركزت على البنيات المادية، ولم تركز على الإنسان، عبر تعليمه وتحرير وعيه من خرافات أساطير الجهل المقدس بعبارة محمد أركون، وهو ما يظهر من خلال تجربة الحماية الفرنسية مع التعليم.
الزمان بلازما المؤرخ، من لا زمان له لا وعي له، وحينما نفقد الوعي بالزمان نكون خارج مدارات التاريخ، والتاريخانية بما هي مشروع ورؤية ونظر هي العودة بالأشياء إلى الزمان، الزمان مرآة للوعي وعاكس له.
نفسانية مغربية عصية عن الإدراك والاستيعاب، مُتمردة على كل مقاسات التحليل النفسي، مُنحلة من كل التوصيفات السوسيولوجية، تربَّت على الانهزامية والتواكل، على الخنوع والانبطاح، على الاستنجاد بالأجنبي في لحظات التيه والضياع، ، على الاستسلام الوجودي من الآخر المتفوق…نفسانية تاريخية استدمجت القابلية للأشياء حسب مالك بن نبي، وقضت بأن تكون على هامش التاريخ، كما ارتضت القابلية للاستعمار.
هل تتلخص مأساتنا في الحاضر في تواكلنا مع الفساد؟ في تماهي منظومة الحماية مع تقاليد مغربية منغرسة في وجدان المغاربة ورعايتها لمغرب الاستقلال؟ وهو سؤال يجر بالاستتباع سؤال آخر: نخبنا المغربية هل أضحت أقل وطنية؟ هل العائق الأكبر هو أنفسنا كما يخبر بذلك صاحب الاختيار الثوري المهدي بن بركة، وبذلك ننأى بأنفسنا عن نظرية الاستهداف والمؤامرة التي عَمَّرت ردحا في أفئدة عقول متنورينا.
نفسانية التواكل هي من جعلت روني غاليسو واحدا من أهم قارئي منجزنا السياسي يصيغ مقولة «التكرار» كبراديغم مُحايث لتاريخانية فعلنا السياسي، وكليفورد كيرتز رائد أنثربوولجيا الأديان ينتج مقولة «الدولة المسرح»، وهي دولة بقبضة بوليسية صارمة قضت بدولنة المجتمع، وبجعل السلطة تنغرس بشكل مثير في فضائنا اليومي في كل تفاصيل معاشنا.
ثمة حاجة إلى استدعاء الأنثربولوجيا التاريخية، لفهم تجربة تاريخية مغربية تصدح بغير قليل من خيبات أمل، من أجل فهم جديد لانكسار الوجدان المغربي، وانعطاب الذاكرة في مرايا منكسرة، للإمساك ببؤس الواقع وتصحر الوعي، فهل هي أزمة التاريخ إذن أم أزمة الوعي به؟
ساحاتنا العمومية صارت لا مدنية، تضع شرخا بين التاريخ والذاكرة، من أجل بناء ذاكرة جماعية بالتوصيف المدني لا السياسي. يتلاعب السياسي بالذاكرة، وفقا لغايات الهيمنة والتحكم، بينما الذاكرة هي بدورها في حاجة إلى توافقات من أجل إعادة بناء الضابط الاجتماعي حسب السوسيولوجي موريس هالفاكس. علينا أن نُقر بأن الماضي ليس هو التاريخ، فالماضي شيء أساسي بالنسبة للحاضر وللمستقبل، لكنه ليس هو التاريخ، لأنه يتميز بنظرة مخصوصة وقابل للتبرير والشرعنة، انطلاقا من رواية تغلبت على روايات أخرى ضمن سيرورة إخضاع وتحكم.
وجب أن نعيد صياغة مفهوم الهوية بالمدلول التاريخي، وأن نعيد حكي التاريخ. «من لا يملك الحكاية لا يملك أرض الحكاية» كما يقول محمود درويش. تعليمنا أخلف الموعد مع التاريخ، أنتج قطاعات عريضة من البشر قادرة على القراءة، لكنها غير قادرة على تمييز ما يستحق القراءة، مدرسونا يلقنون الجهل ويقتلون الحياة، مهندسونا يغشون في الأساس والدعامات، أطباؤنا لا يستعجلون في المستعجلات، قضاتنا يُكيفون الحق وفق التسعيرات، فُقهاؤنا أعلنوا الدين جلابيب وعباءات، كُتابنا صنعوا للظلم مسالك وممرات، ولائحة العبث طويلة…ماذا حدث للسلطة في هذه البلاد، وأقصد سلطة العقل والفكر، سلطة الحكمة والضمير.
الابتذال الفكري، الكذب المتعمد، التلاعب الإعلامي، تزييف الوعي، التدني الثقافي، تشويه الحقائق، مداهنة صانعي القرار والنفوذ…كلها سلوكيات تعتمل داخل المجتمع، أَوَ ليست الأشياء التي تظهر مُجردة في الأصل، مرتجلة ولا إرادية، وأيضا الكلمات العفوية تأتي كلها من بعيد، وتشهد على الصدى الطويل لأنساق التفكير، كما يقول بذلك عرّاب الحوليات جاك لوغوف.
نحيا اليوم حالة انسداد تاريخي، تكلس حضاري، انغلاق وجداني، يغدو معها سؤال التنوير أكثر ملحاحية للمشاركة في المتاح الإنساني المشترك، ودحض الاستثناء الذي يمشي بنا خارج مراكب الزمن. معضلة العالم الإسلامي أنه يبدو اليوم عاجزا عن تدبير إرثه التاريخي وفق حاجياته المتجددة، وأسئلته الزمنية، وكان قد أفرز معها اتجاهات متصارعة، أو لنقل «هويات متصارعة» حسب الروائي اللبناني أمين معلوف. بين قائل بالقطيعة، وبين مُتحدث عن الاستعادة، وبين آخذ بالنقد المزدوج.
فشلنا في مشروع التحديث من الداخل، فظلت الحداثة عندنا مرتبطة بالخارج، وبتجربتنا مع الاستعمار، وقد يربطه البعض، بتحكم الأنظمة السلطوية من مَلكيات، وأنظمة عسكرية، وأوليغارشيات عشائرية… التي راهنت على إجهاض المشروع التحديثي، وعملت على إعادة التقليد. وقد يربطه البعض الآخر باكتشاف البترول الذي دَعَّم اقتصادات الريع، وأنتج إيديولوجيات مغلقة.
المجتمع المدني بنفسه كشكل حديث يستضمر داخله مظاهر التغير الاجتماعي والثقافي ضمن بنية انتقالية، تشهد على استمرارية الأنساق التقليدية في أشكال مدنية حديثة، وزواج الثابت والمتحول، الاتصال والانفصال، التقليد والتحديث…الواضح، أن إشكالية النهوض من معضلة التأخر التنموي شكلت محور تدخل جل المجتمع المدني بهدف تذليل فجوة التفاوت وتجسير التأخر التاريخي، واستكمال شروط وآليات بناء الدولة المدنية الحديثة.
لم تعد العملية التنموية تخضع اليوم قياسا بالمنجز الجمعوي للعشوائية والارتجال، وإنما أصبحت توظف استراتيجيات تنبني على التخطيط والحكامة بشكل يسمح بتحقيق غايات محددة. علينا أن نُسائل منجزنا المدني: هل استكمل الفضاء المدني بالمغرب شروط المواطنة؟ هل استوعبت النخب المدنية شروط الترافع عن الساكنة وأولويات المطالب؟ ألا يعيق تصحر النسق السياسي وتكلسه الفكري تشكل الفضاء الجمعوي؟ هل التجربة الجمعوية بالمغرب ناجزة للقيام بمداخل أولية للتفكير في أسباب العطب وعسر التحول في سوسيولوجيا التنظيمات؟ هل يمثل الفضاء الجمعوي العمق المجتمعي؟ أم يعكس إخفاقات الانتماء السياسي وفشل المشروع المجتمعي؟ وهل الترافع عن القضايا الجوهرية يشكل ترفا أم ضرورة وطنية في مجتمع لم يستكمل بعد نضاله الحقوقي؟
قد يبدو المجتمع المدني منهجسا بسؤال الآني/ التنموي، لكنه لا يُشخص نفسانية هذا المغربي الذي يتساكن معه، لأنه مجتمع لا يجعل العلوم الإنسانية تخدم ركب التنمية.
يجر المجتمع المدني وراءه إرثا قبليا وصوفيا ثقيلا جدا، معيقات ذهنية وتاريخية، يقع في قلب عاصفة هوجاء، تُزكيها وسائل الإعلام وسدنة الاقتصاد الجديد، هل سيصمد؟ هل يملك آليات المقاومة وحس الدفاع عن الإنسان والإنسانية وسط ركام من الصور البربرية التي تتناقلها وسائل الميديا الجديدة؟ صار العمل المدني نوعا من الماركوتينغ المُربح، جمعيات تحولت إلى مقاولات وشركات ضخمة تتغيا الربح والمنافسة، مما يؤكد تغلغل قيم اقتصاد السوق وضواري الرأسمال الجشع داخله.
والحقيقة، لا يمكن لإخفاقات الدولة الكبرى أن تُجَبِّرها الجمعيات، لا يمكن لفجوة التباعد بين الدولة والفرد أن يردمها العمل الجمعوي، وبخاصة في عمق البادية المغربية، التي لا زالت تذكرنا بمغرب القرون الوسطى. لا يخلصنا من هذه المحنة سوى معجزة دونما تعسف على زفرات التاريخ، وتجني على تمردات الزمن، ومصادرة لحقه في الهدم وإعادة البناء.
نعيش زمن أفيون المثقفين حسب ريمون آرون، ووضع المثقفين المزيفين بتوصيف باسكال بونيفاص، وموت نموذج المثقف العضوي الغرامشي.
أجيال اليوم عالية من الوجهة التقنية، متدنية من الوجهة السياسية والتاريخية، حيث تبني المواطنة يتم بمنطق الاستفادة أو عدم الاستفادة من طاجين المخزن، من كعكعة الفساد والريع.


الكاتب : عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 23/02/2024