ماكبث المصنع:صرخة مسرحية ضد طغيان التكنولوجيا

في قلب مسرحٍ ينبض بالحداثة ويمتد بجذوره إلى عمق التقاليد المسرحية، تتجلى رؤية جديدة ومثيرة للنص الكلاسيكي «ماكبث» لشكسبير، أبدعها فريق كلية طب القاهرة تحت إشراف المخرج محمود إبراهيم الحسيني. في هذا العمل، تأخذ المأساة الشكسبيرية الشهيرة منحى عصريًا يلتف حول قضايا الطمع والقوة بظلال من التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، حيث تتحول أجواء القصور الاسكتلندية إلى مصنعٍ بارد يعكس إيقاع الحياة المعاصرة، وحيث تصبح شخصيات العمل مرآة تعكس صراع الإنسان الحديث مع آليات صنع القرار بين طموحه وأخلاقه.
منذ اللحظة الأولى، يأسرك العرض بتناقضاته البصرية والفكرية. المصنع الذي يُشكِّل خلفية القصة، بآلاته وضوضائه وإضاءته القاسية، ليس مجرد ديكور، بل هو شخصية قائمة بذاتها. المصنع يمثل عصرًا جديدًا حيث تتلاشى الخطوط الفاصلة بين الإنسان والآلة، حيث يصبح الإنتاج أهم من الإبداع، وحيث يتم اختزال العلاقات الإنسانية إلى أرقام ومعادلات.
إن أبرز ما يميز معالجة المخرج هو استبدال الساحرات الثلاث بشخصية واحدة تُدعى «مدركة»، وهي تطبيق ذكاء اصطناعي يرافق ماكبث في رحلته نحو القمة. «مدركة» ليست مجرد أداة تقنية، بل كيان غامض يتلاعب بماكبث ويقدم له رؤية مغرية لتحقيق طموحاته دون التفكير في العواقب. هنا، يتحول الإغواء الشيطاني إلى وعود برّاقة تقدمها الآلات، مما يعكس صراعًا وجوديًا بين الإنسان والتكنولوجيا.
ماكبث في هذا العمل ليس فقط رجلاً غارقًا في الطموح كما في نص شكسبير، بل هو صورة للإنسان المعاصر الذي يسعى بكل طاقته للوصول إلى أهدافه، دون أن يدرك أنه يدفع حياته وروحه ثمنًا لذلك. «مدركة»، بدورها، تُجسد التكنولوجيا التي تعد بالسهولة والسرعة، لكنها في الواقع تحكم قبضتها على قرارات الإنسان، وتجعله يفقد السيطرة على مصيره.
ليدي ماكبث، التي لعبت دائمًا دور المحرّض في النص الأصلي، تظهر هنا كشخصية تمثل التردد والندم، وكأنها صوت الضمير الذي يحاول مقاومة طغيان «مدركة». الصراع بين هذه الشخصيات يأخذ أبعادًا فلسفية عميقة، حيث تشتبك القيم الإنسانية مع الإغراءات الميكانيكية، ويتحول كل حوار إلى سؤال مفتوح حول معنى القوة والطموح.
يعتمد العرض على تقنيات إضاءة حديثة تخلق أجواءً كابوسية تعكس صخب المصنع وبرودته. الأضواء الباهتة والزوايا الحادة تُبرز العزلة التي يعيشها ماكبث وسط عالمٍ تُسيطر عليه الآلات. المؤثرات الصوتية تلعب دورًا محوريًا في إيصال الشعور بالتوتر والقلق، حيث تتداخل أصوات الآلات مع نبضات قلب ماكبث المتسارعة، وكأنها تُمثل الصراع الداخلي بين طموحه وضميره.
أما الأزياء، فتعكس جمود الحياة الصناعية؛ ثياب رمادية وميكانيكية تخلو من اللمسة الإنسانية. هذا البعد البصري يُساهم في خلق إحساس بالاختناق، وكأن الشخصيات محاصرة داخل مصنع لا فكاك منه.
المسرحية ليست مجرد إعادة تفسير لنص كلاسيكي، بل هي صرخة تحذير من الاعتماد المفرط على التكنولوجيا. «مدركة» ليست شخصية خيالية فقط، بل رمز للذكاء الاصطناعي الذي يتغلغل في كل جوانب حياتنا، ويحاول استبدال الحكمة الإنسانية بالخوارزميات. ماكبث، في رحلته المحفوفة بالدماء والخيانة، يُصبح مرآة لكل من يسعى وراء الطموح غير المقيد، دون أن يدرك أن الثمن قد يكون أعظم مما يحتمل.
في النهاية، يترك العمل المشاهد أمام أسئلة مفتوحة: هل يمكننا الوثوق بالتكنولوجيا؟ وهل نحن، كبشر، مستعدون لدفع الثمن الذي يتطلبه الاعتماد عليها؟ ماكبث المصنع ليس مجرد عرض مسرحي، بل هو دعوة للتأمل في معنى الإنسانية في عصر تسيطر عليه الآلات.
بهذا العمل الاستثنائي، نجح فريق كلية طب القاهرة في تقديم رؤية مبتكرة تُجدد الكلاسيكيات بأسلوب حداثي. محمود إبراهيم الحسيني، في إخراجه لهذه المسرحية، لم يُحيِ ماكبث فحسب، بل أطلق صرخة فلسفية ضد الانصياع الأعمى للتكنولوجيا. في «ماكبث المصنع»، يلتقي الإبداع المسرحي مع القضايا الفلسفية العصرية، ليؤكد أن المسرح سيبقى دائمًا مرآة تُجسد صراعاتنا وأحلامنا، مهما تغيرت الأزمنة.


الكاتب : إيمان وليب

  

بتاريخ : 20/01/2025