وزارة المالية تبحث عن «فوتويات» ومكاتب أجنبية ب 430 مليون سنتيم
في الوقت الذي دعا فيه رئيس الحكومة عزيز أخنوش، في المذكرة التوجيهية الأخيرة لمشروع قانون المالية 2026، وزراءه إلى تشديد الحزم في ترشيد نفقات التسيير، وتقليص مصاريف التنقل والسفريات والحفلات وتجهيز المقرات، برزت مفارقة صارخة تجسدها وزارة الاقتصاد والمالية ذاتها، التي يفترض أن تكون حارسة الانضباط المالي وراعية سياسة التقشف. ففي يوم 25 شتنبر 2025 ستفتح هذه الوزارة طلب عروض دولي رقم 78/2025، يهم اقتناء أثاث مكتبي جديد لفائدة إدارتها المركزية، بكلفة تقديرية تناهز 4.3 ملايين درهم (430 مليون سنتيم) موزعة على ثلاث حصص: أثاث مكتبي متنوع (1.633 مليون درهم)، كراسي مكتبية مختلفة (1.878 مليون درهم)، وأثاث خاص بقاعات الاجتماعات (709 ألف درهم).
هذه العملية، التي يفترض أن تمر عبر المساطر العادية للصفقات العمومية، تعكس مع ذلك حجم التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة. فمن جهة، تطلق الحكومة توجيهات صارمة بشأن ترشيد النفقات وتقديم صورة عن إدارة “رشيقة” تضع المصلحة العامة فوق الامتيازات الشكلية. ومن جهة أخرى، يتواصل مسلسل الإنفاق السخي على تجهيزات مكتبية وسيارات فارهة ومقرات “فرعونية”، وكأن الأولوية ليست لبرامج التعليم والصحة والبنيات الاجتماعية، بل لمظاهر الرفاهية الإدارية.
الأرقام تؤكد أن “بذخ الإدارة” لم يعد مجرد انطباع، بل واقع يتكرس عاما بعد آخر. فقد قفزت النفقات الخاصة بالمعدات والخدمات المدرجة في خانة Biens et Services من 33 مليار درهم سنة 2015 إلى 70 مليار درهم سنة 2022، ثم إلى 87 مليار درهم سنة 2023، لتتجاوز 91 مليار درهم في السنة الموالية 2024، قبل أن تصل إلى حوالي 113.8 مليار درهم برسم ميزانية 2025. وهو ما يعكس نموا صاروخيا غير متحكم فيه، يناقض تماما توصيات الحكامة المالية والتدبير الرشيد.
ولا يقتصر الأمر على الأرقام التاريخية فحسب، بل إن الاحصائيات الصادرة حديثا عن الخزينة العامة تزيد الصورة وضوحا: ففي يوليوز 2025 ارتفعت نفقات تسيير الإدارة بـ 25 في المائة مقارنة مع مستواها في يوليوز 2024، لتنتقل من 58.7 مليار درهم في يوليوز 2024 إلى 73.5 مليار درهم في يوليوز الماضي . النتيجة المباشرة أن الخزينة العمومية ستنفق على معدات الادارة 114 مليار درهم هذا العام.
والمفارقة الأعجب أن طلب العروض الذي أطلقته وزارة الاقتصاد والمالية لم يكن محليا، بل اتخذ طابعا دوليا، بما يعني أن الوزارة تبحث عن كراسٍ وكنبات و”فوطويات” ومعدات مكتبية أجنبية الصنع، في تجاهل صارخ لما تنتجه شركات مغربية كثيرة في مجال الأثاث المكتبي. وهي مفارقة ليست معزولة، إذ غالبا ما تلجأ معظم الإدارات العمومية لإطلاق طلبات عروض لاقتناء أو كراء سيارات الخدمة مع التركيز دائما على العلامات الألمانية واليابانية والفرنسية، وكأن المسؤولين لا يرضون بركوب سيارات داسيا المصنعة في طنجة، والتي صارت رمزا لصناعة السيارات الوطنية وواجهة لتصدير المغرب نحو الأسواق الأوروبية والإفريقية. والمثير أن حكومات الدول التي نقتدي بها، مثل فرنسا، ظلت تاريخيا حريصة على استعمال سياراتها الوطنية من رونو وستروين وبوجو، كرسالة رمزية لدعم الصناعة المحلية وتعزيز ثقة المواطن في منتوجه. أما في المغرب، فإن شعار “صنع في المغرب” يظل يتكرر في الخطب الرسمية والبرامج الإعلامية، لكنه لا يجد ترجمة عملية في سلوك الإدارة العمومية، التي تواصل التباهي بالمكاتب الباذخة والمعدات الأجنبية بدل تشجيع المنتوج الوطني على الأقل رمزيا.
هذا الانفلات في مصاريف التسيير يعكس ثقافة إدارية ترسخت داخل جزء من الجيل الحالي من المسؤولين والمدراء، حيث غلبت النزعة إلى التباهي بمظاهر البذخ والرفاهية على قيم النجاعة والمردودية. الكراسي الوثيرة، والكنبات الفاخرة، وقاعات الاجتماعات المجهزة بتجهيزات “خمس نجوم”، تحولت إلى معيار ضمني لمكانة كل إدارة، بدل أن تكون مؤشرات موضوعية للنجاعة ولقدرتها على خدمة المواطن بكفاءة.
ويذكر أن وزارة الاقتصاد والمالية التي أطلقت الصفقة الجديدة لاقتناء الأثاث المكتبي الفاخر، هي نفسها الجهة التي تصدر المذكرات الداعية إلى تقليص هذه النفقات، ما يجعل تلك التوصيات أقرب إلى فقرات شكلية يتم تضمينها للزينة في الرسائل التأطيرية لقوانين المالية الأخيرة، دون أن تجد طريقها إلى التنفيذ. إذ كيف يمكن إقناع الرأي العام بجدية الخطاب الرسمي حول التقشف، في الوقت الذي تخصص فيه ملايين الدراهم لشراء كراس وطاولات في ظرفية مالية دقيقة تعاني فيها الدولة من محدودية الموارد، ويعيش جزء كبير من المغاربة في القرى والجهات الفقيرة خصاصا حادا في أبسط الضروريات من ماء شروب ومدارس ومستشفيات؟