«متاهات فريد زمانه».. رحلة المعاناة مع الأمكنة وسؤال الهوية

تحكي رواية «متاهات فريد زمانه» لصاحبها خالد ملاحظ رحلة حياة تمتد زمنيا من أربعينيات القرن العشرين إلى العقد الأول من القرن الواحد العشرين، وتنطلق جغرافيا من إحدى قرى الريف المغربي في عز الاستعمار الإسباني وتمر بالجزائر شمالا وجنوبا، قبل أن تصل إلى شمال فرنسا.
إن رحلة فريد، الشخصية الرئيسية التي يقوم عليها عماد النص الصادر عن دار «السليكي إخوان» هذا العام، يجد نفسه وهو فتى في بداية المراهقة تائها في طرقات الريف الوعرة رفقة أسرته الفقيرة بعدما اضطر والده إلى الفرار من قريتهم، «طاحونة الروابي» في عمق الريف، لأنه قتل «الحاج موحند»، الذي استولى على أرضه البسيطة. ليصلوا جميعا في آخر المطاف إلى قرية بئيسة في ضواحي وهران الجزائرية التي كانت آنذاك ترزح تحت الاستعمار الفرنسي. في حي صفيحي بئيس يدعى «دوار اعويوة» كان البؤس والموت يتبرصان بهذه الأسرة. إذ سيموت الابن الصغير والأب ليترك فريد ووالدته وأخته الصغيرة في مواجهة شظف العيش. وبما أن المآسي لا تأتي فردى فسيتم اعتقال هذا الشاب بغتة ودون علم أهله، والزج به في السجن لمدة عشر سنوات كاملة بتهمة الانتماء للمقاومة الجزائرية رغم أنه لم تكن له أي علاقة بالنشاطات السياسية، ولن يخرج من المعتقل البعيد هناك في عمق الصحراء سوى بعد استقلال البلاد.
عند العودة إلى الدوار البئيس حيث ترك والدته وأخته سيكتشف أنهم أحالوه على الموتى، فقرر فريد البقاء طي هذا الموت وانتقل إلى وهران لبدء حياة جديدة مينائها حيث صار يعمل حمالا يساعد الفرنسيين والأجانب الذي كانوا يغادرون الجزائر بكثرة بعد الاستقلال. ومن شدة التعب غفا فريد مرة داخل إحدى السفن ولما استيقظ كانت قد غادرت الميناء وتوغلت في البحر في اتجاه مرسيليا الفرنسية. في ميناء هذه المدينة سيدعي أحد الفرنسيين أمام الجمارك أنه هذا الشاب العربي مساعده، بل وسيمنحه هوية جديدة. ليموت فريد الريفي المغربي بشكل فعليا ورمزيا، ويولد محمد الهواري الجزائري الذي سيقوده قطار الحظ إلى مدينة ليل الفرنسية حيث سيجد نفسه بلا عمل ولا ماوى ولا زاد. في مدينة قريبة سيجد عملا في منجم للفحم حيث سيقضى جزء مهما من عمره.
عند إغلاق هذا المنجم في بداية الثمانينيات يجد نفسه محالا على التقاعد ليعيش وسط المهاجرين وهمومهم قبل أن ينتقل إلى دار للعجزة حيث سيقضي ما تبقى له من صفحات حياة كانت مليئة بالأحزان والأشجان.
من خلال متاهات هذه الشخصية الرئيسية المهيمنة حاول النص إثارة العديد من القضايا المتعلقة بالهوية والهجرة والعلاقة بين الأنا والآخر، والاستغلال الذي يتعرض له البسطاء فقط لأن قدرهم أرادهم أن يولدوا بسطاء. فمأساة فريد وأفراد أسرته البسيطة الفقيرة ستتعمق أكثر يوم سلبت منهم أرضه المتواضعة التي كانوا بالكاد يقتاتون منها. لتبدأ رحلة التيه والاستغلال من طرف وسطاء الطريق وبعدها وسطاء الشغل، والمسؤولين القساة في أماكن العمل. إذ سيضطر فريد وهو في بداية مراهقته إلى العمل في ضيعة أحد المعمرين الفرنسيين مثل عبد. وسيعتقل ويعذب فقط لأن الشرطة اشتبهت في كونه عضوا في تنظيمات المقاومة الجزائرية التي أخذت تنشط بقوة في بداية الخمسينيات، وسينسى في السجن لعشر سنوات فقط لأنه بسيط وليس لديه من يدافع عنه أو يسأل عنه، ولعله كان سيظل في السجن لولا استقلال الجزائر في صيف 1962. وسيتواصل الاستعباد حتى في مناجم فرنسا، هذه الدولة التي تدعي مؤسساتها أنها منبع حقوق الإنسان في العصر الحديث. وبما أن البسطاء لا خيار لهم حتى بخصوص هويتهم، فإن فريد لن يكون له رأي في اسمه الجديد، بل عليه القبول بذلك الذي اختاره له فرنسي في ميناء مارسيليا: محمد الهواري.
من القضايا التي تسري في ثنايا نص «متاهات فريد زمانه»، قضية الذاكرة التي تنفت في فريد الحياة وتجعله يتمسك بخيط الأمل مهما كان دقيقا وهشا، وفي الوقت ذات تميته في كل حين لأنه يستحيل استعادة تلك الحياة العذبة المسالمة التي كان يعيش في كنفها بقريته رغم الفقر.
ويتناول الكاتب في نصه كذلك تلك القضية المنفلتة دوما: الهوية. فطيلة النص هناك صدى لذلك السؤال الذي الضمني بخصوص فريد / محمد الهواري: فمن يكون حقا: مغربي ريفي ام جزائري من ضواحي وهران؟ أم أن هويته تتحدد في موقعه الاجتماعي المتواضع؟ فهو الريفي المولد والطفولة الذي سيصير جزائريا بالنسبة للشرطة التي اعتقلته في شبابه، وسيعيش باسم محمد الهواري في فرنسا ووسط المهاجرين المغاربة والريفيين بالخصوص دون ان تكون لديه الجرأة على البوح بأصوله.
لا شك أن المؤلف خالد ملاحظ اجتهد ما أمكنه ذلك في تناول كل هذه القضايا المنفلتة بحماس البداية وعفويتها ولكن كذلك بدهشة البداية وارتباكاتها التي سيتداركها الكاتب بلا شك في نصوص المقبلة. وقادنا في متاهة حقيقية من المعاناة مع الأمكنة والهوية والأسئلة الحميمية، بلغة جميلة وسلسة عموما لعل توظيفها سيكون بشكل أفضل وأكثر ذكاء في الكتابات المقبلة.


الكاتب : مبارك مرابط

  

بتاريخ : 28/07/2023