متاهة الكتابة وكتابة المتاهة في «كلمات شتى» للقاص محمد لغويبي

«كلمات شتى»مجموعة قصصية للكاتب المغربي محمد لغويبي، هي عشر كلمات لعشر قصص،و تأتي المجموعة بالغة التقتير وتقع في 61 صفحة من الحجم المتوسط، أشبه بكتاب الجيب لكن قصصها مختارة بدقة لتطرح رهاناتها الفنية والأدبية، الجمالية والفكرية بكثير من الحرص الإبداعي الذي يدخلك عوالمها وأنساقها وطرائقها لتتحول الدهشة إلى اكتشاف وإنتاج ينتهي بعلامات استفهام تجعل القصة المغربية تسعد بحمل الحقل الاشكالي الذي يفرزه مجتمع تليق به القصة القصيرة وتليق به»كلمات شتى.»

 

1 – المنطق القصي
في «كلمات شتى»

تكتب المجموعة نصوصها وفق منطقها الخاص، لا بمنطق التاريخ الذي يولد الوجع ويقتل روح الإنسان، ويشوه الحقائق، ويدمر ما بناه من خيال. فالنصوص تسير وفق هواها الخاص، تنسج خيوطها بمنطق اللعب الذكي والباني، مما يولد الدهشة و يمنح المتعة، ويولد السؤال. تبتعد إذن النصوص عن صرامة التاريخ ودكتاتورية الواقع فتعيد بناءهما وفق ترتيب جديد ومحكم، يسمح بالفهم، ويعمق المعرفة بهما. إن النصوص بمثابة ممحاة، تمحو السابق وتبني عليه، فيصنع الفعل طرسا شفافا، نرى من خلالها عناصره الأولية، لكننا لا نسهو عن مواده الجديدة والمرتبطة أساسا بالتخييل، إنها إعادة كتابة تنبني في جزء منها على منطق الدهشة والاحتمال والمصادفة، واللامتوقع.
إن عناوين النصوص جاءت جميعها مفردا نكرة، بخلاف التقديم الذي اعتمد كلمتين معرفتين، هذا التنكير الذي يذهب باتجاه التعميم، فالحالات المعروضة غير خاصة، بل تنطبق على العام.ومن الملاحظ أن تلك العناوين يمكن تصنيفها إلى: الخاص بالإنسان، والخاص بالطبيعة فمثلا:معرفة وفراسة تخصان الإنسان، وتنبنيان على التجربة والملاحظة، علما أن المعرفة عقلية أما الحدس فهو نفسي.في حين نجد عاصفة وغمامة ذات بعد طبيعي فهما يرتبطان بها ارتباطا كبيرا لكنهما يؤثران في مزاج الإنسان ونفسيته، أما خيط وكونطوار ونافذة فيمكن إدراجها ضمن المصنع المرتبط بحياة الإنسان وباستعمالاته لها، بخلاف طعنة فترتبط بحقل القتل والغدر.
المتتبع للنصوص يجد أنها لا تقول الواقعي إلا تلميحا، مع حضور بعض الإشارات المرتبطة به وبخاصة السياسية، كعيد العمال ..و من هنا يتأتى بعد الجمال في النصوص لكونها تتكئ على الخيال لبناء منطقها الخاص، ففي نص «رائحة «نجد الاعتماد على منطق الرواية البوليسية باعتمادها سؤال:من؟وإذ تتقاطع معها في هذه النقطة، إلا أنها تختلف عنها بسؤال: ماذا؟ فإذا كانت الرواية البوليسية تبحث عن الفاعل غير عابئة في كثير من الأحيان بالأسباب المؤدية لارتكاب الجريمة إلا إذا كانت ذات إضاءة، فإن القصة جاءت هنا لتسلط الضوء على سؤال السبب.
وبناء عليه، نجد القصة قد اعتمدت البنية الحجاجية، كما الرواية البوليسية، فرجل المباحث يجمع كافة الأدلة المدينة للجاني، ويقوم بتهديم حجج الفاعل ويؤسس عليها حججه الصارم والمقنعة،و التي تقود إلى إدانته، ومن ثم ،إلى محاكمته، محققة بذلك العدل المطلوب والمعتمد ، من أجل بناء المجتمع الآمن. هكذا نجد السارد في النص يدلي بمجموعة من الفرضيات، تنهدم لتقوم أخرى كلما سرنا متوغلين في أحداث النص.
وللعنوان في النص دور مهم، فهو غير منعزل عن بنية الرواية البوليسية، فالرائحة لغة الحواس، وبالأخص الشم وهي الحاسة التي يعتمد عليها كلب رجل المباحث لمعرفة الجاني، ونعثر في النص على ما يرتبط بهذه الحاسة، وأخص بالذكر:العطر.

2 – اللايقين في قصص «كلمات شتى»

وهو ما نجده في نص»معرفة»، فنحن أمام شخصية شاعر له خيال مجنح، فقد تكون تلك الفتاة التي طرقت بابه من وحي خياله، صنعها لإشباع فضوله وقتل وحدته. وكما في قصة «كونطوار «هذا العنوان الدال على الحاجز المانع للاتصال، لذا يمكن اعتباره شخصية فاعلة تقوم بفعل المعاكسة، إنه حاجز شفاف ولا مرئي، يسمح بالمشاهدة وفي الوقت نفسه يمنعها، يسمح بمرور ما يريد ويمنع ما يريد،و بالتالي فهو حاجز مخاتل، يضمر رغبة في ملاعبة خيال الشخصية الرائية، ومن خلالها المتلقي المنغمس في أحداث النص، والمتابع لها بأنفاس البطل الشغوف بتلك الحسناء، يتابعها وفي قلبه شيء من حتى يذهب إلى النهر ويعود عطشان، فهو ينظر إليها يتقرى تفاصيلها، لكنه لا يبلغها.
نحن إذن أمام نصوص متخلقة من رحم الرغبات، تحقق الاتصال بين الرجل والمرأة، وتقطعه في الآن ذاته…فهناك شخصيتان، الرجل والمرأة، و العلاقة بينهما،مرة متوترة، فقد تكون بفعل العبث المفضي إلى القتل أو تكون ضحية توهمات، وقد تكون العلاقة طيبة تنتشي بها الذات المتعطشة إلى الحب.
إذا كانت قصة «رائحة «قد اعتمدت على حدث بسيط يشكل مدماكها، حدث يقع كل يوم ألا وهو قتل رجل بسيط لامرأة، إلا أن السارد أسس عليه معماره الفني باعتماد التخييل …إننا أمام سارد محتال مخاتل، يدعو إلى متابعة الجريمة وتسلسل الأحداث، مع زرع بذور الشك ،كما أن الخاتمة هي الأخرى قد ألبسها السارد رداء الشك،إذ أن العنف هو الذي انتزع من الحارس اعترافه، وبالتالي يمكن أن يكون هذا الاعتراف مشكوكا فيه، فالقمع والعنف وسائل تعتمدها سلطات القمع لبلوغ نتائج تريدها مبعدة الأنظار عن الفاعل الحقيقي،بحصر البحث في جاني بسيط تحمله كل المسؤوليات،وبذلك تقفل الملف وترضي الأطراف المعنية، خاصة وأن الضحية ذات ملامح أوروبية، وينبغي، و الحالة هذه، طي الموضوع بأقل الخسائر. أما قصة»معرفة» فتبني منطقها الخاص المنفلت من قبضة واقعنا وصرامته، إذ تعتمد على شخصيتين، تعمل يد السرد على الجمع بينهما لتنبت في النفس فرحة تتوج برقصة بديعة تكون ضربة تولد المتعة السردية، فهي تنتهي بالانصهار بين شاعر متعطش للحب و فتاة قادمة من زمان سحيق كقصيدة شعر منفلتة من قيد الواقع، بديعة التي جعلت النفس، بعد طول معاناة، تتهيأ لملاقاتها:»وكانت شفتاه تحكيان القصة الأخيرة «. لقد عثرت الذات الشاعرة والتي عاشت الخيبات،على الموضوع المشتهى ،والنصف الآخر، فهل تتحقق القصص؟ يجيب منطوق التقديم الذي تصدر المجموعة:»تصلح الحكاية ما أفسده التاريخ بيننا، وتسير بنا إلى الجوهر فينا .»

على سبيل الختم:

يمكن اعتبار المجموعة مأدبة زاخرة بالطعام ، تدعونا للإقبال عليها ، لكن، دون إفراط في الأكل، لأنها لا تبغي تحقيق الشبع، بل تريد الحث على التفكير والتأمل، بعيدا عن الأجوبة الجاهزة المؤدية لكثرة إفراط حضورها إلى التخمة، إنها عمل يستحق الفكر ويحبه على التأمل والتفكير في أسئلة الوجود،عمل لا يركن إلى المهادنة والسكونية والرضا، بل يدفع القارئ إلى الفعل النقدي الباحث عن أجوبة محتملة، لأن النصوص حافلة بالقلق واللايقين، تبني عوالمها الشبيهة بمتاهة تطلب من القارئ البحث عن سبل ممكنة للخروج،لا تشير إليها ولا ترسمها، بل تترك له الإرادة والحرية..إننا أمام قصص مجموعة تدخل المتلقي عالم اللايقين والمحتمل.

■كلمات شتى»
مجموعة قصصية/المطبعة السريعة /القنيطرة 2016ط1/محمد لغويبي


الكاتب : عبد الرحيم التدلاوي

  

بتاريخ : 11/04/2022