يقول هيكل
«نحن نفكر داخل الكلمات»
هذه المقولة تجانب دونية النظرة إلى اللغة المحكية، لغة الخطاب اليومي في بعدها التواصلي فقط. لكن معجمها في قاموسه المتداول يمنح فرص تركيب ما نحتاج التعبير عنه من أغراض مباشرة، أو تحتاج إلى طريقة تفي بوصولها.. وفي هذا الصدد يلفت لفنسون «إلى أن التعبيرات الإشارية تذكير دائم.. بأن اللغات الطبيعية وضعت أساسا للتواصل المباشر بين الناس وجها لوجه وتظهر أهميتها البالغة حين يغيب عنا ما تشير إليه فيسود الغموض ويستغلق الفهم»
فالغموض أو الاستغلاق في قصديته هنا، بعيد المراد عن تفكيك التراكيب المستعملة، لأن الاستغلال عادة ما يكون براغماتيا من الناحية الإيديولوجية والسياسية والذاتية أيضا، باعتبار مادتها قوالب لامتناهية جاهزة لهذا الاستثمار.. وليست كركيزة من ركائز هويتنا الثقافية والقومية والإنسانية فهي كما «لِقطعة الشطرنج، التحقيق الاصطناعي ذاته لما تمثله .. في شكلها الطبيعي»
إن عدم الاهتمام بوظائفها المختلفة، يستوجب النظر إليها ككيان قائم بذاته وبإطلاقيته، وبما نسعى إلى ضبطه ضمن هذه الإطلاقية بتعبير دو سوسير.. في تجلياتها المادية، وحيويتها الفعلية خلقا وإبداعا. أي تجاوز المستهلك منها ما دام يدافع عن وجوده. بل يحتم هذا الوجود فينا حياة تشعرنا بطبيعة الإحساس به. هذا العُرْف/ المستهلك أصبح ملازما لها يغيّب التفاعل التام اللغوي/ اللسني أو الدلالي لكي لا يميز النظرة بين المركز والمحيط في اللغة/ بين اللغة واللغة المحكية، هذا الغياب كرس الاعتقاد السائد بتهميشها لكونها لغة العامة، لغة استهلاك الحياة اليومية لذلك «يعتبر فرجسون التخصص في الوظيفة.. معروف لجميع طبقات المجتمع.. وهذا الإدراك.. نستطيع تتبعه في الفعل لدى هؤلاء الأشخاص»
إن السياق الكرونولوجي لاستعمال اللغة المحكية، هو موقعه حين الاستعمال نفسه. فرغم التجريد الزمني في مستوياته الدنيا، لا يمنح إمكانية توظيفه في معرفتنا، مادام جوهره في المتناول بالتداول، ولا يحتاج تأويله تأويلا يرتبط بالخيالي، وإنما للمناسبة التي يعبَّر بها عن حاجة من حاجات الحياة اليومية.. لكن امتداداتها تتجاوز وظيفة الاستهلاك، إلى ما يمكن أن تنتجه من إبداع في الفن والأدب «المسرح، الزجل، الأمثال، الحكاية…»
هذه المنطلقات تلتفت إلى ما يمكن أن تحدثه اللغة المحكية من توالد معجمي مستمر، نابع من حركة دائبة تَرْكَبُ المجهول بلغة جبران، في سياقات ينتجها الواقع، وتتسع دائرة تداولها بسرعة فائقة دون إعارة اهتمام الحدود الضيقة جغرافيا لتعددها في المزج بين التقريري والانزياحي. أي «من خلال الحركة في الزمن تتغير اللغة بشكل حتمي وبلا توقف.».. حتى يصبح خرق المألوف في اللغة المحكية مألوف التعبير عن الحالات التي يستدعيها، ومدلوله أكثر وقعا في اختزاله وكثافته «ضْرَبْني البَرْدْ، قْتَلْني النّْعاسْ، تَنَجْري علْ الخبزْ، غْلَبْني الوقتْ، بْرَكْ فِيَّ الزمانْ..». إن هذه الصور التركيبية ضاربة في شعرية المنطوق اليومي، لكن تأويلها محدود نقاربه بما ذهب إليه إمبرتو إيكو «نحيطه بسلسلة من الحواجز والإرغامات نرى فيها دليلا على أننا فهمنا ما تود العلاقة قوله.. يستقر على حالة بعينها ويتحدد بحدود وينتهي عند غاية»
إذن فهو محاصر بالدلالة التي تنتهي بانتهاء تداولها، من صور مجردة إلى صور ملموسة بكل ميكانيزماتها البلاغية. تقوم هي نفسها بالعمليات التأويلية وظيفيا، كي تبعد الاستغراب عن هذا التعبير الجديد، الذي لا يُؤبه بالوقوف عند تمعنه، بل تَقَبُّله والارتياح إلى جدته يِؤهله إلى الاستهلاك اليومي لغرض ما. كما يساهم في تذويب التنافر بين التقريري والانزياحي بالاستعمال، وليس بالقراءة فهو يحافظ كما يشير ريتشاردز «.. على تراتبية صلبة للمعاني لأن المعنى المباشر لم يعد سوى وسيلة للآخر وليس فحوى في ذاته.»
هذه الحركية الإنتاجية السريعة للغة، التي جعلت لها قابلية الرفع من وتيرة التعابير الانزياحية نتاج الانفتاح على العالم الخارجي، وما أتاحته التكنولوجيا ووسائل الاتصال والإعلام.. جعلت وقفتنا لا تركز على تقبل قواميس متنوعة ومتعددة، ولا على وظائفها بصيغ أخرى. بل تماهيها معجميا من جهة، وخضوعها لقواعد منطوقنا اليومي من جهة ثانية، يساهمان في الخرق أيضا.
إن التأمل في هذا الخرق الذي يبيح اللغة الشعرية المحكية مساحة شاسعة كي تصير في متناول الجميع على أساس المعاني التي تكتسبها، يمنحها فرص أكثر للانتشار والتعميم.. فنذهب مع شلاير ماخر في احتفاظ «.. الكلمات المأخوذة بمعنى مجازي بدلالتها الحرفية والدقيقة، ولا تمارس تأثيرها إلا من خلال تداعي الأفكار..»
هذا الفرش السابق لشعرية اللغة المحكية، يقودنا إلى الحديث عن صياغة شعرية ليست من خلق العامة، وإنما صياغة شعرية بمفهومها الأدبي، حين يطالعنا جنس «الزجل»..جنس يعانق آفاق التخييل في إطلاقيتها «ففي الخيال عندما يجابه عالَم النفس الداخلي، ويناقش الحقيقة الخارجية بشكلها العاري الخام. فإن هذا العالم الداخلي هو الذي يمارس سلطة التأويل وإعادة الخلق».. للتطلع إلى مكامن، وتجليات التجربة الزجلية في حدودها الدنيا كقول عزيز غالي:
وحيت عرفتني زجال
عرات القلب لاحت اللثام
بلا نڴاطي بلا هموز
مشعكة…. ما ماشطة
ما ضاحكة…. ما ساخطة
عليها حق الحرف
فهي لا تستنسخ بعضها البعض، كي تقدم مفهوما قارا للزجل. بل تحتم معطاه بتباين تداعياته في الجمع بين تصوره والموهبة الإبداعية.. هي عملية بحث مضنٍ للقبض على ماهيته. لكن انفلاته الدائم يحميه من المحاصرة والانغلاق كقول عبد الرحيم لقلع:
يا حروف الكتبة
جيني ف سيفة خيول حرانة
ما يحكمها
غير هل السروت العلامة..
ما يدركها غير طويرات البوح
النظرة فيها تفاجي خاطر المڭروح
هكذا هو الزجل ـــ والشعر بصفة عامة ـــ بعيدا عن اعتبار شعبيته بالخطابة والإلقاء، وتصنيفه ضمن الثقافة الشعبية المستهلكة.. فاهتمامنا لم يأتِ عبثا، بل الإيمان بجنسيته الأدبية، حين تطالعنا أعمال زجلية عملت على خلق مساحات شاسعة بينها وبين النَّظْم الشائع في اللغة المحكية، الذي يوهم العامة بشعريته.. هكذا رَسا اعتمادنا على تجربتين زجليتين متميزتين (تجربة عزيز غالي وتجربة عبد الرحيم لقلع) نستقي منهما ما يبرر هذا الاهتمام من حيث مقاربة شعرية/ أدبية الزجل، الذي لا يبتعد عن مفهوم الأدبية، أو الشعرية عند المهتمين بالإبداع ككل.. لنتأمل النصين التاليين لهما :
غالي:
طواتني الكلمة بين الضراس
خباتني بين الضلوع
فرشات لي تسريح
وعطاتني تصريح
باش نكتبها بدمي
لقلع:
وطاح يكتب
هو والكتبة
فرك حمام
هو والكتبة
صربة وعلام
وف لحظة.. زڴى التيلاد بين لوراق
نلاحظ أن مفهوم الكتابة الزجلية يخترق المألوف لالتقاط ما هو بارز، وما هو دقيق في العالم الخارجي. وأيضا لمعانقة عوالم متآلفة، متنافرة لا تستقيم إلا بإعادة ترتيبها في الإبداع. فيبدو النص الزجلي/ الشعري «..محاولة لتحقيق الانسجام عبر الانسجام الحاصل في الواقع المعيش. ولما كان الواقع لا ينتمي إلى النص إلا من خلال شرطه اللغوي، فإن الشاعر يعيد صياغة هذا الواقع بالواقع، انطلاقا من التمرد عليه، لإعادة بنائه بشكل جديد تبدو معه اللغة غريبة عن واقعها الأول، واقع القول المؤتلف، وفي غرابتها تتجلى معانقتها للواقع الثاني واقع القول المختلف».. لنلاحظ غالي:
نحرڴ ليك ومنك
نخرج حلمة نخرج حكمة
ليها خطاوي الخيل السرابة
هذا التمفصل يستمد كيان وجوده من الذات الشاعرة بالهدم والبناء، يرى جاكبسون «أن الشعر يتسم بالتشديد على شكل الرسالة حيث تتمتع الدلائل في حد ذاتها بثقل خاص.. ينقلها من وضع الإحالة الشفافة.. إلى وضع التميز الذاتي»، أي باعتبار قوته الخيالية كتفكير داخل الصورة الشعرية.. / لنقرأ لغالي:
سهرت الليل
ندوي مع الليل
لبسته ونصلني
تلونت معاه وعرفني
جيتو ف صفة لحمام
ذبحني..
هي حالات لسياقات هذا الكيان في أبعاده الواقعية، والإنسانية، والكونية. متى سما بها رؤىً إلى بلاغة المعنى لتوليد الدلالات والمعاني من خصائص جمالية بمرجعياتها المعرفية، والثقافية، والاجتماعية وغيرها.. سعيا إلى بناء شكل زجلي يربط الأسباب بالمسببات لأخيلة وصور تغوص عمق الشاعرية إن «الفعل التخييلي يقود الواقعي إلى الخيالي والخيالي إلى الواقعي.. الذي ينبغي فيه للعالَم المعطى أن يترجم إلى سَنَن والعالم غير المعطى إلى شيء يمكن إدراكه». لنتأمل قولهما
غالي: آه
ڴاعتنا شوكات
وڴلة الطين
ب لوكح تشقات
وبڴرتنا الوحيدة
علات كتاف الجوع
لقلع:
أيا جناح خبرني
على قصة البعاد
ولوصية المكتوبة
بلامداد
إن التحول من شعرية اللغة المحكية في أنماطها المستحدثة، إلى شعرية الزجل كتشكيل جديد، بتعبير جديد، لابد له من اختراق قواميس هذه اللغة، سواء أكانت أصلية بكل بنياتها الجغرافية دون حدود معينة تجعل منها مسكوكا متجاوزا. أو دخيلة عندما تتخذ إمكانية توظيفها لوحات زجلية/ شعرية. لذلك فإن «الشعر من حيث الكلمة تتجاوز نفسها مفلتة من حدود حروفها، وحيث الشيء يأخذ صورة جديدة، ومعنى آخر».
يقول لقلع: يا هاد لعمر
آرى المڴدي
آرى رزامة حديد
وبدا تريب سواري
هاذ الكسدة المنسوجة حزان..
فتشكيل النص بالدخول في علاقات بنائية جديدة يطرح معه صعوبة الفهم، إلا بما يتطلبه هذا الفهم من توفير إمكانيات مسبقة لهذه البنى باختلاف سياقاتها المرجعية بعد أن تماهت شعرية جمالية في ما بينها.. ف «الشعرية تتجسد في النص من اكتناه العلاقات التي تتنامى بين مكونات النص على الأصعدة الدلالية والتركيبية والصوتية والإيقاعية، وعلى محوري النص النسقي paradigmatic والتراصفي syntagmatic.. لدخول عالم البعد الخفي للنص». ما ندركه عند لقلع:
لصيحات طالعة تصريح
من دواخل لحشا
حاملة غيوم
جايبة حموم
وعوافي زاهرة جمر ..
إن «الزجل» انتقال حتمي تفرضه الخصوصية الشعرية: من وظائف اللغة التواصلية التي أشرنا إلى قوالبها الجديدة، أو ما نعتناه بشعرية اللغة المحكية في انزياحاتها، ورمزيتها، وسهولة التقاطها بالشيوع، إلى وظيفتها الشاعرية كي تجعل منها محطة وقوف القارئ / الناقد والقارئ العاشق للزجل، للشعر ــ وما اللغة إلا كيانه بتعددها واختلافها ــ دون فارق بين الزجال والشاعر في الموهبة باعتبار الإبداع وليس اللغة يقول رسكين «الشاعر أو الخلاق .. رجل يجمع بين الأشياء، لا كما يجمع الساعاتي الفولاذ، أو الإسكافي الجلد، بل هو رجل ينفخ فيها الحياة»منه عند لقلع
ملڴايا مع لبحر والريح
ولا ملڴايا مع صحبة ناس
سمنها ب الخف يريح..
لكن ما يلفت الانتباه هو رغم قرب حركية اللغة المحكية من هذا القارئ أو المتلقي بكل أصنافه. يبقى استفزاز بنياتها التصويرية، وتشكيلاتها التخييلية مطروحا، ترافقه دهشة وانشداد لتمثلها دلاليا من خلال تداعيات تخطر وقت استلهام هذه الصور، فتجره إلى مقاربات يستحسنها آليا بالتمعن، والإحساس أو بهذا الأخير. أو الاستمالة والتأثر بالتركيب التخييلي للغة في قالب شعري بكل مكوناته التي تفرض ذاتها عليه ولو إيقاعيا، فالبحث عن شعرية الزجل/ الشعر يحتاج عملية الكشف عن «الخصائص المجردة التي تصنع فرادة الحدث الأدبي أي الأدبية». عند غالي مثلا:
هذي صرخة الروح
بغات ذبيحة
هذي حضرة البوح
خليوني نكتبها بالڴطران
لياليها جريحة..
إذن فالزجل حمل عالق بالذات كموهبة وإبداع فطرةً وصقلا من زاوية النظر إلى الشعر. هو تحريك صور المجهول فينا أغنيات على مسامع العالم والكون بكل رجاته، وهتافاته التي لا تنتهي إلا بإنتاج هذا العالم ليس كما هو. بل كما نحلمه آمالا من خلال آلامنا. من خلال خرق كل صوت لا ينطق نفسه كما يحلو له، لا كما نحركه بإرادتنا.. إنه سبق الإحساس بعمق الرؤى من خلال شعريته إنه «أسلوب خاص في بناء اللغة وتشكيلها وهي لا تسعى إلى تسمية المعنى بل إلى معرفة القوانين العامة التي تنظم ولادة كل عمل».
لقلع: سرقو مني
ورد وزهر
ولا واحد فكر
شي يوم
وقت الڴايلة والشوم
ب ميهة نقية يسقيه..
إن الوعي بالزجل هو إيمان بهذا النوع من الإبداع الشعري. إيمان بكينونته الشعرية، وعالمه الفني، والجمالي بعيدا عن أي نظرة أو تصنيف مقصود. إن الاستعمال الشاعري للغة هو الذي يمنحها هذه الصفة، دون الالتفات إلى استعمالها العادي في انزياحاتها داخل الحياة المستمرة، وتفاصيلها اليومية. فتصبح قائمة في تفكيرنا، وقيمنا ممارسة من حيث مستجدات هذه الحياة، لأنها لا تخضع لمعيارية التعامل الرسمي كجزء من القراءة والتعليم.. أي أنها مستقلة عن المرسِل/ المتكلم وعن الأشكال التي تتخذها من ناحية التداول لكن بعدها الخيالي يمنحها طابع استعاري يميزها عن المألوف لذلك «لن تكون الاستعارة مظهرا لغويا صرفا، بل تكون مظهرا ثقافيا عاما تتأثر به اللغة.. على أن ظاهرة الاستعارة يمكن أن تفسر بشكل جيد عن طريق افتراض ترابطات تصورية بين مجال تصوري وآخر»
يقول غالي: طلع مني شيطاني
خليه.. يڴر
وڴف بسلسولي
حمّار
ف وجه الريح
يوڴف لخيام..
إذن فشعرية الزجل توالف بين علاقات مركبة رامزة تحتاج منا أن نستوعب كيف يجب أن يتم تناظر ها وثقافة القراءة بعدما تفاعلا إبداعا في ذات الزجال / الشاعر قبل أن تجد طريقها إلى المتلقي باختلاف أدواته أي « .. يكون هناك دائما وعي باللغة في أساس كل موقف أدبي»