«متلاشيات» أشعار باقية.. والباقيات سقط متاع : قراءة في قصيد وديع أزماو

 

«المتلاشيات».. كل شيء لدينا يتلاشى، وكذلك الأمر بالنسبة لكل ما هو موجود فينا وبيننا، لكن متى وكيف؟؟ ربما يحدث ذلك حينما نكون منهمكين في رص وترتيب ما ينضاف بين الفينة والأخرى أثناء سيرنا نحو التلاشي الأكبر ..
أشلاؤنا؛ متلاشيات ؟؟ من يأبه لها؟ وهذا التلاشي- الختم الأعظم المتجذر في السلالة الآدمية، من الذي يفهمه؟ من ذا الذي جربه وأدرك تفاصيله فيخبرنا عنه؟
وحدها دوافع الديمومة يهتم المرء بترتيبها وتصنيفها ليتمكن من القبض على أي منها يكون أشد صلابة فيرتكز عليه من أجل إشباع غريزة البقاء التي نتشظى كل الوقت وراءها. هذه الدوافع المتراصة خلف حاجات بيولوجية تتزاحم وتتدافع صوب تحويلها إلى رغبات ذات أهمية، ليست إلا سقط متاع سيغدو مع الشاعر المغربي وديع أزمانو مجرد «متلاشيات» في المقام السابع والعشرين حيث نقرأ:
أتلاشى مهددا بظفيرة الأم الطويلة
بأحزانها الطويلة
بحليبها ينْدفق فوق حلمتي
وأرضع وحش الغريزة
تلاشي البقاء.
تلك الدوافع التي قد نحقق بعضها دون البعض الآخر بما نمتلك من الجهد وما نقدر عليه من المثابرة، سرعان ما تتلاشى وتسير إلى حيث مكانها الأصلي؛ إلى المزبلة وحيث لا أحد يخطر على باله التفكير في ترتيب أو تصنيف ممكنين؛ بل وكيف التفكير في ترتيب المتلاشيات وفق مقامات تذكر. فالأشياء والأشلاء في المزبلة قاذورات صرفة فقدت قيمتها واختلافها جراء تينك التصنيف. المتلاشيات هي هي عينها؛ كسرة خبز، قطعة قماش، حبة فاكهة، يد مبتورة، قطعة نقدية قديمة، كراسة، أجزاء من رواية، مرهم ما طاب به جرح، قطعة أثاث، جنين لم تكتمل بين جوانحه حياة أو صرخة رضيع، والباقيات غير الصالحات التي تعد متلاشيات كثيرة ومتكثرة وأمر تصنيفها لم يثر قط قلقا فكريا على مر التاريخ؛ غير أن للشعر سحره الذي يجعل للعدم أبعادا، وقوته التي تكسر خطية الزمن واستقامته اللابشرية التي تقعر الوجود حول مركز وهامش فيقلب بذلك الجهات حتى أننا نرى يد الشاعر تمتد في مقام آخر؛ مقام ثامن من «متلاشيات» لتخلخل كل المعطى سلفا ولا بأس يُرى في ذلك:
لا بأس
ما زلت أشتغل في ورشة متلاشيات
أستبدل؛
الأعضاء بالكلمات
الأثرياء بالفقراء
الصالحين بالسكارى
المساجد بالحانات…
بهذا القول يخلخل الشاعر المغربي وديع أزمانو سلم التراتب ونياشين التفاوتات وصكوك الترقي، يستبدل هذا بذاك وذلك بهذا والأمر عنده سيان. فـ»الأنا» هاهنا بلغت في تلاشيها حدا يتجاوز الشك الديكارتي مع فارق بين الذاتين؛ ذات الفيلسوف وهي تشك، لم تخطئ التعرف على نفسها بما هي الذات التي إذ تشك فإنها تفكر في حين أن ذات الشاعر قد بلغت في التشظي وراء حياة تستحق صفة حياة، حدا في الخوف من عدم تعرفها على نفسها حتى يتعمق بؤسها فتعلن:
ثمة ما أسوأ
أن أعود إلى ذاتي
فلا تعرفني..
هذا المقطع من «متلاشيات» بشع، ومن فرط بشاعته فقد أفلت الشاعر مقامه ويظهر ذلك الأمر في العبارة («متلاشيات» المقام الثاني والأربعون أو أكثر، ومن يدري؟)….ومن تراه يدري؟ والحال أن اجتراح مقامات لما تلاشى فينا وبيننا ولدينا، هو في الأصل تعبير عن رفض جذري لمقولة المركز والهامش، وهو أيضا إعدام للبداهات المبتذلة والمزعومة التي يتم اعتمادها لتأصيل التفاوت وشرعنته. هذا الرفض واضح في المقام الثامن من «متلاشيات» وحيث نقرأ:
لا تعطني سمكة
ولا تعلمني
كيف أصطادها
دعها
تسبح في نهرها مرتين..
رفض واقع مرير فقد فيه الإنسان بوصلة التوجه صوب الكرامة باعتبارها الأصل في الكينونة الآدمية، وضدا على كل أشكال وصيغ التصنيف من قبيل الجنس، اللون، العرق، الدين، الطبقة الاجتماعية ..الخ. يتجذر هذا الرفض في علاقة الذات بواقعها من جهة معرفتها به لا من جهة انفعالها السلبي به، وبالضبط بالمعنى الذي يقصده ابن خلدون بالمعرفة بما هي علم بكيفيات الوقائع ومسبباتها، وهو الوعي الذي تجسده جميع أشعار وديع أزمانو الذي في «متلاشيات» أراه شاعرا يربي الأمل في قصيدة بحجم ثورة شعب، أليس تملك معرفة الماضي والحاضر هو ما ينشرط به مستقبل الناس ووعيهم، فيحكمون بالتالي قبضتهم على لاوعيهم المنفلت قسراً، ويطرزون للغد الأمل في عَلَم واحد بألوان قوس قزح؟؟
تطريز لا صنو له في ما تتقاذفه علينا هذي السنون من قصائد عجاف فارغات إلا من كلام ثم كلام؛ وهاك بعض مما تطرزه يد محترفة شقية بوعيها طوعا، وبانتمائها للمهمشين حبا؛ في المقام التاسع ضمن «متلاشيات» :
حين تنطفئ بطارية روحي
أشحذ الأعضاء بالعواء
وأصير ذئبا
لا شريك له في الجرح..
ويأتي الأمل صريحا واضحا لا شيء يحجبه في مقام آخر:
أتلاشى؛ في مطامير
في دهاليز
في أنفاق
في قبو
في حفرة
بينما،
وطن هناك، غير هالك
وطن
مباح
لا تحرسه تعاويذ
وعمالقة..
(المقام الثالث والأربعون)
لكن مم يتغذى الرفض الكائن في أشعار وديع أزمانو؟ بالتأكيد، من جوف تلك العلاقة المعقدة بين الذات وواقعها وحيثما صيرورة الإنسان مجرد فرد، وصيرورة الفرد محض كائن بيولوجي ثم استحالة الواقع سوقا صرفة. بهذا يتحول الشعر وعيا شقيا يعري الخفي ويكسر صنمية المألوف والغيبي ويعبث بقدسية الأيديولوجيات، فيكشف بالتالي عن تعدد واختلاف سراديبها التي تتوحد حول مسألة الدفاع عن ديمومة الانسان في بعده التاريخي الاجتماعي، ويبين أن الأمر ليس إلا ادعاء وزيفا تصاغ تبريراته في شعارات ظاهرها الدفاع عن البعد الكوني للإنسان، وعين الحال تجليه في كامل التشوه والمسخ اللذين هما عينه حقيقة حتى باتت بشاعته تلوح من غده سخافة بكامل التقزز، وذاك ما نقرأه في (المقام التاسع والثلاثون، ربما) على حد إقرار الشاعر أزمانو:
اوه،
ما زلت أتلاشى
في رمادي
والغد
سخافة أخرى..
أظن، من صلب تصديق مؤمن، أن كتابة «متلاشيات» على شكل مقامات، وهو أمر ملحوظ في الكثير من أشعار وديع أزمانو، تشي بتشكل رؤية فلسفية عميقة وصلبة لدى هذا الشاعر المنفلت للنمطية واللاجدوىالثاوية في شعر بانفصاله عن واقع الناس أضحى تصنيفه كذلك؛ أي شعرا فقط لمبناه. رؤية تجذر الحرية وسيلة وغاية بها يرسم اختلافه الذي لا يتوانى عن التصريح به عبر تدويناته في العالم الافتراضي- فيسبوك الرافضة لكل صيغ التنميط والتدجين، كأنني هنا في حضرة الثوري هيجل معلنا أن الشخص الحر هو الذي يبقى ويظل وهو وسط الآخرين مع نفسه، ولعلها نقطة التقاء بين الرواقيين وهيجل تعيد الظهور في الشاعر المغربي وديع أزمانو الذي احترف تعليم التفلسف حتى أضحى الحداد فيه يجترح مفاهيمه ورؤاه حد الحلول في الكون هيولى ثم مادة:
لكَ أن تنهض في تلاشيك
أن ترتجف من كف ممدودة
وتفزع من يدك
أن يحتضرَ وجهك في مرآة صباح
ويتخبط رأسك
على وسادة
لكَ أن تتلاشى
إلى آخر ذرة
في الكون..
(«متلاشيات» المقام الحادي عشر)
بهذه «المتلاشيات» التي ليست إلا بعضا من فيض توثيق لقيم ومثل إنسانية تجوهلت في عالم فتقت فيه الحقيقة، وصارت مجرد خيالات ينغمس فيها الفرد مداريا عزلته البئيسة في كلمات لا تمت للواقع الحقيقي للأفراد بصلة تذكر إلا من باب الاستعارات والكنايات المتكثرة في زمننا من قبيل «استقلالية» «عولمة» «موضة» أو»ماركة عالمية»، يخاصر الشاعر أزمانو العالم بأكمله في تزمنه الناقص بترياق الشعر والنبيذ؛ فالشعر جسر عبور جهة الآخر المتعدد، والنبيذ أنخابه المتكسرة على ضفاف الأطلسي تفضح كامل إنسانيته وحساسيته المرهفة جدا وكثيرا.. وذاك ما نقرأه في نص شهادة الشاعر الكوني آدم ابراهيم غداة ذات اعتراف- تتويج :
«إلى الوديع جدا، وحده وهو يخاصر العالم من شط الأطلسي ليلة بعد ليلة، يطلق العنان لروحه ويداوي جراحاته بترياق الشعر والنبيذ في آن …»
ومع الوديع جدا.. جدا وهو يتألق في رتق صيغ تملك وعي حقيقي يصير معه فعل البناء فعلا تلقائيا لكل أنا في خصوصيتها أفق منفتح للمغايرة والتعايش لا للابتذال، باتت وراثة التاريخ من حق الشاعر متى كان الشاعر لا الشبيه، ومتى كانت القصيدة كما الحياة في المقام الرابع ضمن «متلاشيات» وديع أزمانو:
الحياة بسيطة
لولا الضجر
سهلة
لولا الكلام..


الكاتب : فاطمة حلمي

  

بتاريخ : 23/11/2021