اختباراً لمعلوماتِكُم، أطرح عليكم هذا السؤالَ البسيط، مَنْ قائلُ : «نَعلَم أين أنتم، وأين كنتم، وأكثرَ مِنْ ذلك، نَعلَمُ الأمرَ الَّذي يَشْغَلُ بَالَكُم». أَهِيَ «جينا هاسبل/ Gina Haspel»، المديرةُ السَّابقة لوكالة الاستخبارات الأمريكيَّة ( La CIA )؟ أَهُوَ الإلهُ نفسُه؟ أَمْ «إيريك شميدت/ Eric Schmidt»، المديرُ السَّابق لمِنَصَّةِ «غوغل» ؟ بالطَّبع، يتعلَّقُ الأمر ب»إيريك شميدت» ، كان ذلك مُقْتَطَفاً من خطابٍ له أَلْقَاهُ بمناسبة محاضرةٍ في برلين سنة 2010.
المديرُ السَّابق لـ»غوغل»، لا يَقِلُّ اطِّلاعاً ولا حضوراً عن غيرِه، فهوَ يَحُوزُ سلطةَ مراقبةٍ تَغَارُ منها مصالحُ الاستخبارات الأمريكيَّة، وأبداً، لم تُخْفِ مُقَاوَلَتُهُ تطلُّعاتِها إلى سيَّادةٍ خَالِقَةٍ.
أَلَمْ يَكُنْ شِعَارُ»غوغل» مُقْتَرِناً بالدَّعوة إلى نَبْذِ الشَّر،» Don’t Be Evil «، « لاتكونوا خبثاء»؟ لقد سَعَتِ المقاولة منذ إنشائها إلى جَعْلِ العالَمَ أفضل.
شعار قَوَّضَهُ واقعُ الفضائحِ المُتتالية على نَحْوٍ متعاقبٍ : تواطُؤها مع الخَلِيَّة الصينيَّة وتعاوُنُها مع المؤسَّسة العسكريَّة الأمريكيَّة، وكذا تشويشُها على مبدأِ التَّنافسِ الحُر، ثُمَّ تَدْبِيرُهَا السَيِّئ والمريب لقضايا التحرُّش الجنسيّ الَّتي شهِدَتْها أوساطُها داخليّاً.
كُلُّ هذا يُسْعِفُ في فَهْمِ لماذا حَوَّلَ»غوغل» شِعَارَهُ/التَّعْوِيذَة، سَنَةَ 2017، إلى دعوةٍ لِفِعْلِ الخيْر:» قوموا بالأشياءِ الجَيِّدَة «، ولَعَلَّ هذا ما يَمْنَحَ محرِّكَ البحث»غوغل» المزيدَ من الامتدادِ والتَّأَلُّقِ.
*»آپل»،لماذا تُشْبِهُ سنةُ 2020 سنةَ 1984؟
لا تُلْزِمُ الوعود إِلاَّ مَنْ يَعْتَقِدُ فيها. أنجزَت شركةُ «آپل/ Apple» لِمَالِكِهَا «ستيف جوبز/ Steve Jobs»، خلال شهر يناير من سنة 1984، واحدةً مِنْ أروعِ الوَصَلاَتِ الإشهاريَّةِ على مَرِّ التَّاريخ.
إِبَّانَ سنواتي المهنيَّة الأولى كصحافي ضِمْنَ أعضاءِ هيئة تحرير برنامج « Cultur Pub»، وهو برنامجٌ تحليليّ يَعْنِي بعالمِ الوصلاتِ الإشهاريَّة، كانت العلامة التِّجارية « التفاحة «( رمز آپل ) مَرْجِعِيَّةً خَلاَّقَة، وضع فيها العديد من الصحافيِّين ثِقَتَهُم العمياء، مُقَدِّمِينَ لها وَلاَءَهُمُ الدَّائِم.
كان « ستيف جوبز « نَبِيَّ التِّكنولوجيَّاتِ الجديدة، فكان مِنَ العبثِ انتقادَه.
قَدَّمَ «جوبز» سنة 1984، أمام ستة وتسعين مليون مشاهد، أوَّلَ حملةٍ إشهاريَّة لحاسوب (Mac ) بمناسبة « السوپربال/ Super Bowl»، الَّذي اَحْتَضَنَ نهاية بطولة كرة القدم الأمريكيَّة.كان لهذا الإشهار دَوِيٌّ صَاعِق.
الوصلة عبارة عن شريط لا تتجاوز مدَّة عرضِه دقيقةً واحدة، أخرجه السينمائيّ « ريدلي سكوت /Ridly Scot»، كان إعلاناً مُنَمَّقًا لعلامة تجاريَّة تُقَدِّمُ نفسَها بِكُلِّ أَرْيَحِيَّة، بِوَصْفِهَا إِمْكَاناً مُحَرِّراً لِلضَّمَائِرِ.
داخل سيناريو الشَّريط، حَيْثُ الجَوّ مُرَوِّعٌ ومخيف، يُطَالِعُنَا المئاتُ مِنَ الأشخاص بِرُؤوسٍ حليقةٍ أَشْبَه بالجماجم، مَفْتُونِينَ بِشَاشَةٍ عملاقة، هُنَاكْ، حَيْثُ يُجَاهِرُ أَخٌ أَكْبَرجديد بتوجيهاته حَوْلَ تَمْحِيصِ المعلومة.
تُصَاحِبُ المَشْهَد موسيقى صامتة، تَقْذِفُ بِالمُشَاهِد داخل عالمٍ خانقٍ. لَكِنْ فَجْأَةً، تَظْهَرُ لِلْعَيَان امرأةٌ بسروال أحمر وقميصٍ عليه رَسْم «ماكنتوش/ Macintosh»، تَرْكُضُ صَوْبَ الشَّاشَة العملاقة وَفِي يَدِهَا مِطْرَقَةٌ ضخمة، ( أَدَّتْ دَوْرَ الشَّخْصِيَّة «آنيا ماجور/ Anya Major»، العَدَّاءَة البريطانيَّة).
مُنْفَلِتَةً مِنْ مَطَارَدَةِ أربعةِ حًرَّاسٍ غِلاَظْ، تهَشّمُ المرأة الشَّاشَةَ بِرَمْيَة مِطْرَقَة على الطَّريقة الأولمبيَّة، مُحَرِّرَةً بِذَلِكَ الإنسانيَّة، وَمُخْرِجَةً إِيَّاهَا من جناح الجراحة الدِّماغيَّة.
في نهاية الشَّرِيط، نُعَايِنُ النّصَّ التَّالي : «سَتُقَدِّمُ « آپل» في 24 يناير»ماكينتوش»، وسَتَرَوْنَ كيف أنَّ 1984، لن تشبه 1984»، ( في إشارةٍ إلى الرِّوايَة المُسْتَقْبَلِيَّةَ، الطَّلِيعِيَة، لجورج أورويل ).
على هذا النَّحْوِ، سَعَتْ «آپل» – لاَعِبَةً دَوْرَ المُتَمَرِّدِ المُحَرِّرِ– إلى كَسْرِ شوكة باقي حواسيب «ميكروسوفت»، الشَّرِكَة المنافسة لها.
كان الوَعْدُ جَذَّابَاً، لَكِنْ أَيْنَ نحن منه، مُنْذُ هذه الحملة الإشهاريَّة المُتَأَلِّقَة؟ لَدَيْنَا انطباعٌ أَنَّ الأخَ الأكبر»Big Brother»، قَدْ غَيَّرَ مَوْقِعَهَ، مُنْذُ أَنِ اقتحم جيوبَنا.
بالفعل، «آيفون»، الهاتف الَّذي ابْتَكَرَتْهُ»آپل» سنة 2017، جَاسَوسٌ هَائِلٌ يُحَدِّدُ مَوْقِعَنَا في كُلِّ آن. مَنْتُوجٌ خَالٍ مِنْ كُلِّ حِسٍّ مُنْفَتحٍ، لا يَشْتَغِلُ إِيجَابَاً إِلاَّ بِأَدَوَاتٍ مناسبة، أَدَوَاتَ «آپل» تحديداً، عَامِلاً بذلك على تركيز حياتنا بالكامل.
ثَمَّةَ تجربة أَقْترِحُهَا على مَنْ بحَوْزَتِهِمْ هاتف «آيفون» : بَعْدَ الْتِقَاطِ الهاتف، تَوَجَّهُوا إلى خِدْمَة «تحديد المَوْقعْ»، الموجودة في خانة «الخصوصيَّة / Confidentialité» داخل» التَّصْوِيبَات / Reglages». عَقِبَ ذلك، عِنْدَ أَسْفَلِ الشَّاشة، انْتَقُوا»خَدَمَاتِ النِّظَام»، ثُمَّ اضْغَطَوا «أَمَاكِن مهمَّة «، في هذه اللَّحْظَةِ بِالذَّات، ستكونون أمام طَلَبٍ يدعوكُم لِلْإِدْلَاءِ بِقِنِّكُم السِرِّيّ، وَحِينَهَا، سَتَكْتَشِفُون ( رُبَّمَا بِذُهُولٍ ) أَنَّ مَجْمُوعَ تَنَقُّلاَتِكُم تَمَّ تَسْجِيلُهَا، دقيقةً إِثْرَ دقيقةٍ، مع الإشارة إلى الوسيلة التي اعتمدْتموها في تنقُّلاتِكُم.
إليكم هذا المثال الذي يخصُّني أنا شخصيّاً : «بتاريخ 5 فبراير، ما بين السَّاعة الواحدةِ ظُهراً و 23 دقيقة، والثَّانيةِ زوالاً و47 دقيقة، على متن سيَّارةٍ، وبعد رحلة استغرقت 28 دقيقة، وصَلْتُمْ زُقاقَ Benjamin-Franklin « بباريس. رسمٌ خرائطيٌّ شاملٌ لتنقُّلاتي.
حتَّى وإن كنتُ لا أستخدم تطبيق «التَّحديد المَوْقِعيّ»،»GPS «، فإنَّ هاتفي « آيفون « يفي بالغرض وزيَّادة.
مبدئيّاً، تتولَّى «آپل» تجميعَ هذه البيانات وتستخدمُها من أجل، و أقتبسُ هنا، «تحسين مساراتِنا التلقائيَّة»، وخلق» ذكريات جميلة « على تطبيقات الصور.
في شهرِ ينايرمن سنة 2019، أثناء انعقادِ معرضٍ الالكترونيَّات الاستهلاكيَّة، (Consumer Electronics Show ) «بلاس ڨيغاس»، مرَّة أُخْرى، اعْتَقَدَتْ «آپل» أنَّه من الألْيَقِ استخدامُ العملِ الإشهاريِّ لِطَمْأَنَةِ جمهورِها الوفيّ.
لوحةٌ إشهاريَّةٌ كبيرةٌ تَمَّ تنْصيبها وسط المدينة، تُعلنُ في لهجةٍ حاسمةٍ، «بياناتُكُم الشَّخصية، داخل هاتفكم «آيفون»، تَظَلُّ داخله ولا تبْرحُهُ «. وعدٌ جديدٌ بحماية حياتنا الشَّخصية.
تتباهى العلامةُ التِّجاريَّةُ «آپل» بمقاومتها لضغوط العدالة الأمريكيَّة، عبر رفضها الإدلاءَ بمحتوى الهواتف، حتَّى وإنْ تعلَّقَ الأمر بأشخاصٍ يُشْتَبَهُ في ارتكابِهم لجرائم ما. على الرُّغم من ذلك، تُتَاجر العديد من المقاولات يوميّاً في البيانات المُخْتَلَسَة في رمشة عينٍ، من جاسوسِ الجيب هذا.
استطاع صحافيُّونَ من «نيويورك تايمز»، بواسطة هواتفِ «آيفون» وهواتفَ أُخرى»ذكيَّة»، مراقبةَ تنقُّلات 12 مليون مواطن أمريكيّ. تحقيقٌ صحفيٌّ مذهلٌ حوْل خطرهاته الهواتف الَّتي تُبَلِّغُ عن موقعك عشراتِ المرَّات في اليوم الواحد. كل تطبيقٍ يتمُّ تحميله من «آپل ستور»، «Apple Store» يضع حياتك الشخصيَّة موْضع خطرٍ.
أنتم مثلي تماماً، أبداً لاتقرؤونَ عشراتِ الصَّفحات، الَّتي تُحْصي مُحَدِّدَةً شروطَ الاستخدام.
بسببٍ من الكسل الفكريّ، وفي مايُشْبِهُ الإنكار، نَقْبَلُ أن نكون موْضع تعقُّبٍ، كما لو كُنَّا نضع أساورَ إلكترونيَّة، كتلك الَّتي تُصَفِّدً أيدي المعتقلين.
هكذا تمكَّن الصحافيُّون، بواسطة رسم ٍبيانيٍّ للمعلومات، من تصويرِ مساراتِ ملايين الهواتف داخل مُدُنٍ أمريكيَّة عديدة.
يُفترضُ أنْ تَكُونَ هذه المسارات مجهولةً، من حيثُ المبدأ، لكن تحديد هوِّيةُ المالك، يبقى اليوم، كما لو كان مجرَّد لعبٍ طفوليٍّ، يكفي مثلاً تحديدُ العنوان وكذا مقرُّالعمل، وسيتَولَّى البحثُ على محرِّك «غوغل» القيَّامَ بالباقي !تفضَحُ هذه المسارات المغامرات خارج المؤسَّسة الزوجيَّة، مثلما تكشِفُ المواعيد الطبيَّة والمهنيَّة.
لقدْ تَمَّ التعرُّف على رجالِ شرطةٍ ومحامين وشخصيَّات سيَّاسيَّة من قِبَلَ الصحافيين المُسْتَطْلِعين.
تغذِّي هذه المعلوماتُ الجهاتَ الفاعلةَ في الظّل، «وُسَطَاءُ البيانات/Data Brokers»، الَّذين يُنْجِزونَ بروفايْلاتٍ مُسْتَهْدَفَة بدقَّةٍ متناهيَّة، مع الإشارة إلى عاداتِ الاستهلاك وأنماطِ الحياةِ والعاداتِ الشَّخصيَّة.رسمٌ خرائطيٌّ مرعبٌ، من أجل المراقبة.
فماذا لو سَقَطَتْ هذه البيانات بين أَيْدٍ خبيثةٍ، غير أمينة؟ ذاك كابوسٌ قيْدَ التحقُّقِ.