محاكمة العقل الغربي أضواء على رواية «كلانديستينو على جسر باسانو»

 

«رباه! ما الذي جاء بي إلى هذا الشِّراك القاتل! ما هذا الحظ العاثر يا رب! عبرْتُ البحر أفتِّش بين صفحات بلاد الأغيار عن كسرة خبز أطعم بها فمي الجائع، فتحوَّل الحلْم البسيط إلى مأساة حقيقية أعيشها وحدي» (صص 154_155)

صدَرت رواية «كلانديستانو على جسر باسانو» لحسن المصلوحي عن دار أفريقيا الشرق سنة 2023، وتقع في 237 صفحة من القَطْعِ المتوسِّط؛ ويُخيَّل للقارئ، ولي على وجه الخصوص، أنها كُتِبَت جملة واحدة، وكأنِّي بها ماراطون أدبي، له بداية وله نهاية، وبينهما سُرعات مختلفة تمليها استراتيجيات العدْو، وهو ما تجلَّى في إيقاعات الكتابة التي تراوحت بين سرد ووصف وحوارات واقتباسات ومنتخبات شعرية وغنائية؛ ولعل ما يؤكِّد انطباعنا هذا أن الرواية لا تتضمن فصولا أو أجزاء، إنما هي جُماع أوراق بين دفَّتين: تتضمَّن الدَّفة الأولى عنوان الرواية بالبنط العريض وباللون الأحمر (كلانديستانو على جسر باسانو)، وأسفله صورة بالأبيض والأسود لعشيقين يذوبان في قبلة حب، وكأنِّي باللون الأحمر الذي يعلو عتبة الرواية هو آثار أحمر شفاه قان تركته امرأة على خدِّ حبيبها قبْلَ أن تجعله جثَّة شاحبة، أو ذكرى في خبر كان، أو مجرد نوستالجيا باللونين الأبيض والأسود؛ وقد تكُون هذه المرأة هي كريستينا، بطلة من أبطال الرواية التي قبَّلت سَعد، هذا المهاجر، أو كلانديستانو باللغة الإيطالية، الذي هاجر، بشكل غير قانوني، أحضان المغرب إلى إيطاليا، عساه يحقِّق أحلاما احترقت بين بني جلدته أمام البطالة، وانعدام العدالة الاجتماعية، وعدم تكافؤ توزيع الثروات، وانتشار الفساد والاستبداد، وبين الهنا والهناك، بين المغرب وإيطاليا، يحيا البطل ممزَّقا بين مشاعر الغربة وبين حُلم مرجأ، بين تربية الشرق وبين تربية الغرب، وهي ثنائية متجذرة في التراث العربي الحديث، سواء كان أدبا أو فكرا؛ ففي الأدب، لعل أشهر مثال على ذلك رواية «الحي اللاتيني» لسهيل إدريس التي صدرت سنة 1953، و»موسم الهجرة إلى الشمال» للطيب صالح التي صدرت سنة 1966؛ وفي الفكر نجد أعمال رواد الإصلاحية العربية والدولة الوطنية من قبيل عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبدة وجمال الأفغاني وغيرهم، الذين سعوا للجواب عن السؤال التاريخي: لماذا تقدَّم الغرب وتأخر المسلمون؟ وقد اختلفت الأجوبة عنه بين طروحات ليبرالية وأخرى اشتراكية وثالثة سلفية؛ وهو ما يدعونا للتساؤل: أيُّ الأجوبة التي يحمِلها حسن المصلوحي في رواية «كلانديستانو على جسر باسانو»؟ وهل يُقدِّم إضافة لثنائية الشرق والغرب التي استغرقت الرواية العربية أم أنَّ روايته لا تعدو استئنافا للبدء؟ وهل تشكِّل هذه الرواية تقليدًا للعقل الغربي أم محاكمة له؟
شخصيتا سعيد وكريستينا هما بطلا الرواية؛ فلا شك أنهما يختلفان في الاسم وفي المسمَّى، في التاريخ وفي الجغرافيا، في ما هو كائن وفي ما ينبغي أن يكون؛ لكنهما يشكِّلان اسمين لإشكالية واحدة استغرقت الفكر والأدب العربيين، ألا وهي إشكالية الشرق والغرب، أو التَّقدم والتأخر، أو التُّراث والحداثة؛ ولعل الإضافة التي تقدِّمها الرواية هو النَّفس الطويل للسارد الذي لمْ يُرِحْ نفسه، ولا جعل القارئ يأخذ نفسا في فصل أو جزء من الرواية، وإنما استرسل دون توقُّف إلى أن أتى على كتابة آخر كلمة منها وهي «انتهى» (ص 236)؛ وهو ما قد يشكِّل عبئًا نفسيًّا على القارئ والمتابع للأحداث، لولا ما يكسِّر رتابة السرد من طرائف ولطائف، وقصار الجُمل، واقتباسات من تاريخ الفلسفة تارة ومن الثقافة الشعبية تارة أخرى، فضلا عن ترجمات لمأثورات باللغة الإيطالية إلى لغة الضاد.
تجري أحداث الرواية في مدينة بادوفا الإيطالية، هذه المدينة التي تكاد تلخِّص ثقافة الغرب، بين شعارات الإعلام الدَّاعية إلى حقوق الإنسان، والقائلة بالكونية والحرية، وبين واقع مرّ، سِمته إهانة الأجانب، والحض من كراهيتهم، ولعل سعد ورفاقه من جنسيات أخرى من دول الجنوب يمثِّلون موضوعا للاضطهاد، خصوصا أمام تنامي النزعات الشعبوية، وانتصار اليمين المتطرِّف.
لم تتوتَّر أحداث الرواية إلا بعد منتصفها بثلاثين صفحة على وجه التحديد، عندئذ، وعندئذ فحسب، اتضحت حبكة الرواية بجلاء، حيث إن بطل الرواية (سعد) يستيقظ من حُلمه والأوهام التي كانت تراوده رفقة بطلة الرواية (كريستينا) التي لم يكن ما تدرُّه على سعد المهاجر غير الشرعي من عطف تمثَّل في إيوائه من التَّشرد، وجعله في منأى من مطاردات الشرطة الإيطالية التي لم تكن متسامحة مع المهاجرين السريين، فضلا عن منحه الحب والحضن الدافئ والتخفيف من وطأة غربته في مكان مختلف جذريا عن موطنه، مختلف جغرافيا وتاريخيا وقيميا؛ لم تكن كل هذه الأفضال التي كان يعتبرها سعد معجزة إلهية أنقذته من التشرد والبؤس، إلا مجرد كابوس وفخاخ عندما اكتشفت كريستينا أن سعد يتجسَّس على مذكراتها، الأمر الذي جعلها تتذكر ما عاشته من عذابات تمثَّلت في قتل والديها أمام أعينها لحسابات إيدلوجية من طرف مافيا مسخرة لخدمة اليمين المتطرف، وهي التي كانت تعتقد أنها جماعة إسلامية، وما زاد الطين بلة هو اغتصابها في بيت الأيتام وهي لازالت قاصرة من طرف شخص آخر تدَّعي أنه عربي؛ عمَّق كل ذلك جراحها وتسبَّب لها في أزمات نفسية من سكيزوفرينيا وبارانويا وسادية…إلخ؛ وهو ما جعل سعد كبش فداء من ماضيها المدرَّج بدماء الغدر، وفراغ اليُتم، وألمِ الاغتصاب؛ ففي ليلة من الليالي تقرر أن تضع لرفيق دربها قرصًا من الأقراص المنومة في كأس نبيذه، لتشرب وإياه نخب الانتقام وليس أنخاب الرومانسية التي جمعتهما لليالي طوال حتى اطمأن لها سعد، بل بات يفكر في الزواج بها، ويحلم أن ينجب شقراء من صلبها، ضاربا عرض الحائط وصيَّة أمه التي أوصته بعدم الزواج من الشقراوات غير المسلمات؛ وإذا بكريستينا تنوِّمه، وتصلبه على حائط، وتدقُّ له مسامير في يديه وقدميه، وتطفئ أعقاب سجائرها على شتى أنحاء جسده، وتجعله مثقَّبا كغربال، وينزف دما، ويعتصر ألما، ولا حول له ولا قوة، إلا ما اكتسبه من معرفة حول التحليل النفسي، حيث هدَّأ من مخاوفها، ونوَّمها مغناطيسيا، وجعلها تبُوح بما تكبِتُه في لاوعيها من أحقاد وألمٍ وخيبات، وسجَّل ذلك خلسة عنها، واتصل بالشرطة، بعدما استدرجت صديقه حسن لحبالها أيضًا، ونالت منه برصاصة نفذَت مباشرة إلى أعماق قلبه، بعدما أبرحته سوطًا وتنكيلا وسبابا، لا لشيء، إلا لأنه لمْ يبقَ وفيًّا لعلاقة غرامية مع فتاة تدعى أمل، وهي القصَّة التي رواها سعد لكريستينا دون أن تكُون هذه على بيِّنة من هذه العلاقة لا من قريب ولا من بعيد!
تنتهي الرواية باقتياد كريستينا إلى مصحة عقلية، وهي التي فقدت عقلها وصارت تقضي وقتها في الصمت ردحا من الزمن، وفجأة تدخُل في هيستيريا من الضحك، وقهقهات تجعل البول يتسرَّب من بين فخذيها على حدِّ وصف السارد؛ لكن مع ذلك، مع كل ذلك، يخفِضُ لها سعد جناح الرَّحمة، ويبقى مخلِصًا في حبّها، إلى درجة أنه التمس لها البراءة أمام المحكمة رِفْقًا لحالتها العقلية، ملقيًا باللائمة على السياسة اليمينيَّة والفاشية وما يترتب عنها من أزمات نفسية وأحقاد مرضية تجاه الأجانب، وما يميزهم من اختلاف ثقافي وديني وفكري، بل إنه زارها في المشفى بعد ذلك، وكأنَّه ضحيَّة أحبَّت جلَّادها، تماما كما تفعل اليوم دول الجنوب التي لا زالت تُخلصُ الطَّاعة لمستعمريها ومستنزفي ثرواتها وقاتلي أجدادها، لكن المعاناة التي لاقاها سعد، وخيبة الأمل التي اعتصرت قلبه، وأدمعت عينه، أيقظته من سباته المرضي، وجعلته يفكّ قفلًا كان قد قفلَه وكريستينا عربونا لدوام الحب بينهما، ولسان حاله يقول: «آه كم كنتُ ساذجا يا أيها القفل حين كنت أضع يدي في يد حتفي وأخطّ على صدركَ اسمها وأرسم على ظهرك قلبا!أمَا كان عليك أن تخبرني بأني كنتُ أوقِّع صكَّ إعدامي!» (ص 235).
يتضح إذًا أن دولة إيطاليا في الرواية تحضُر بوصفها اسما آخر لدول الشمال، مثلما يحضر سعد المغربي وغيره من المهاجرين السريين من مختلف الجنسيات بوصفهم دولا للجنوب؛ وبين الشمال والجنوب تاريخ من الظُّلم والعنصرية والاستعمار، وهو ما تجلى في الحوارات (ص: 68-69-70-71) التي تتخلل الرواية بين الشرطة الإيطالية وبين المهاجرين السريين، والتي كان السارد يستغلُّها لمحاكمة شِعارات التنوير والحداثة والتقدُّم والحضارة وحقوق الإنسان؛ ذلك أن التنوير لم يكن في الواقع إلا ذرا للرماد في العيون من أجل تبرير الإبادات الامبريالية في حق دول الجنوب واستنزاف ثرواتها، واستعباد شعوبها، وتكسير شوكتها واغتصاب أحلامها.


الكاتب : عبد الرحيم رجراحي

  

بتاريخ : 04/04/2024