«لا نوجَدُ إلا إذا التُقِطت لنا صور فوتوغرافية»
خورخي لويس بورخيس
الصورة الأولى
لم يكن العم الوحيد يعرف، بكل تأكيد، المصور الفرنسي هنري كارتييه بريسون، وأول سليل للابن البكر للحاج «العبادي» يطلق صرخته الأولى في زنقة دوامون بدرب غلف بالجّْديدة. لكنه استعمل آلة تصوير من ماركة «لايكا»، ذات الماركة الألمانية التي كان يستخدمها منشئ التصوير الفوتوغرافي الحديث، لالتقاط الصورة الأولى هذه لـ «العود» المنضاف إلى «كانون» الجد، للوليد، الملفوف في إزار حريري أبيض، الذي كنتُه. ولم يفت الصورة، رغم قطيعة ملتقطها المبكرة مع التقاليد والعادات واعتناقه روح العصر، بل وتعاطفه مع خلية الحزب الشيوعي المغربي بالمدينة، أن تُبرز تفاصيل معصم «التيلاد» وسواره المنجز من حبل سرته الذي تتوسطه قطعة نقدية فضية تعود للعهد العزيزي، و»الصّْرَيْرَة» المحشوة بـ «الشَّبَّة والحَرمل والقُزبُر والكَبْريت» المحيطة بعنقه.
لم تطلق، أيها المتحول توا من «ماء فقيح، ثم هبرة من دم وعظم» الذي كنتُه، صرختك الأولى في رحم العالم وضده يوم «العيد لكبير»، ولذا لا تحمل اسم عبد الكبير مثل ابن مدينتك عبد الكبير الخطيبي. لم يكن اسمك الشخصي محسوما قبلا، أما الاسم العائلي، فـقد فرضه مكر الصدفة والإدارة الشريفة على «العطار» بعيد ولوج البلاد والعباد «الجهاد الأكبر».
سأل موظف الحالة المدنية الجد الفقيه المكنى «العبادي»، نسبة إلى «فخذة» العبابدة من أولاد بوعزيز «صباغين الحمير»، عن أي اسم عائلي يرتضيه لأسرته الوافدة من عمق دكالة «الوَكّالة» البدوي إلى حاضرتها مازاغان. تلعثم الحاج محمد الذي لم يكن قد زار بعد ديار الإسلام المقدسة، منتظرا أن تنقذه ذاكرته الإذاعية من ورطة السؤال ذاك. تسلل إليه صوت المذيع الرتيب وهو يفتتح نشرة أخبار الواحدة زوالا بسرد الأنشطة الملكية: «قام جلالة الملك محمد الخامس، عاهل المملكة المغربية، نصره الله وأيده، بكذا وكذا···»!. أجاب «بابا» (بالباء المخمة) الموظفَ دون كثير تفكير وهو يتغيا التيمن باللغة السلطانية والتبرك بسليل الدوحة النبوية، رمز قهر المستعمر الغاشم الذي كان يسعى دهاقنته، من بين ما كانوا يسعون إليه، لعنهم الله إلى يوم الحشر وأحرقهم إلى أخمص القدمين في جهنم وأنزل بهم بئس المصير، إلى تنصير أبناء هذا الوطن الآمن المتشبع بدينه الإسلامي وبرسالة خاتم الأنبياء: «عاهل»!؛ علاوة على كونه شاهد، بأم عينيه التي ستأكلهما الديدان، صورة السلطان بن يوسف على أديم القمر.
ربما كان موظف البلدية يشكو بعض الصمم، وربما كانت لديه تعليمات صارمة كي لا يسجل الاستعارات من اللغة المخزنية في كنانيش الحالة المدنية، أو ربما زل قلمه. الشيء الوحيد المؤكد أن الرجل خط حرف الدال بدل حرف اللام!
وحين التداول حول الاسم الشخصي الذي سيحمله غير الفطيم بعد جنب «عاهد» في بطاقة تعريفه الوطنية، اقترح العم اسم «أيوب» ونال موافقة العمتين «العصريتين»، مؤازرتين ببنت عميدتهما؛ بينما لم يورط لا الجد ولا الجدة نفسهما في الجدل الذي حدسا مسبقا منحاه الخلافي، ولم تعترض الوالدة على اقتراح «السي التَّجاني»، وأومأت إليه برأسها لأنها تعلم علم اليقين أن مقترح التسمية هو من سيتولى رعاية الطفل في ظل الغياب شبه الدائم لأبيه البيولوجي. أما الوالد، فترك الأمر بين يدي مجلس العائلة لأنه راح يحتفي بخلفه كما يليق بدكالي أنيق يضع بذلة «النّْصاري» ويحتسي ما يحتسونه من محرمات.
انتفضت عميدة العمات، هي التي لم ترفع صوتها يوما في حضرة عراب الأسرة ولا في وجه العم الأصغر منها سنا: «كيف تريدون أن يحمل الطفل، أول حفدة الفقيه محمد من سلالته الذكورية، المريد المداوم للزاوية التيجانية، والمؤمن حتى النخاع بدينه ووطنه وملكه، اسما سيمسخه شياطين الحي إلى «كَيوم» اللعين (نسبة إلى المقيم العام غيوم)؟ هل تكرهون هذا الغصن الجديد في شجرة العبابدة المؤمنة والصالحة، إلى درجة وسمه باسم سيتحول إلى سبة؟ اتقوا الله في الابن البكر للسي بوشعيب الذي لم نره سعيدا مثل اليوم!»
اقتنع مجلس العائلة بالاعتراض، فذبحوا البهيمة يوم العقيقة منتقين للطفل اسم «سعيد»، بدل «أيوب»، لأن صرخته جعلت والده سعيدا كما لم ينعم بالسعادة من قبل!
الصورة الثانية
هي الأولى للطفل الذي كُنتَه بعدسة «صوار» محترف، تهيمن على تفاصيلها نظرتك الفزعة، المتطلعة بتوجس إلى طقس الدم الذي سيُخضع بدنك لإحدى سنن الفطرة، ويهبك تأشيرة الانتماء النهائي لـ «خير أمة أخرجت للناس…» و»ضحكت من جهلها الأمم».
في خلفية الصورة: جواد أصيل أدهم «ما يركْبو غير لَمْقدّم» بسرج أخضر مطرز، تزين جبهته «نشاشة» «مهدبة « وغرته مطلية بالحناء، والفارس في أبهى حلة تقليدية بيضاء، تجعله «المكحلة» و»الكمية» و»الشكارة» الجلدية الحافظة لآيات قرآنية يبدو كعضو «سربة» تتأهب للتبوريدة في حضرة شخصية سامية وافدة من الرباط لحضور افتتاح موسم مولاي عبد الله.
في مقدمتها: الطفل الذي سيعي سويعة بعد التقاط الصورة أن جسده ليس ملكيته بمفرده، بملبس سَيّدُه البياض لأن المدعو سعيد في يوم سيَبيَضّ فيه وجهه: السروال «القندريسي» و»التشامير» والجلباب. لكن، وبما أن ثياب أهل الجنة «عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ»، فسلهامك خضير، هو وطربوشك ذو النجمة الخماسية المذهبة. وحيث إن التقاليد المرعية لمناسبات الفرح والابتهاج تقضي بوضع بلغ صفراء، سيرا على نهج السلطان مولاي إسماعيل الذي أمر رعاياه بانتعال الأصفر بدل الأسود احتفالا بتحرير العرائش من يد الإسبانيين، فبلغتك من الفاتح من هذا اللون هي.
تحمل طفولتكَ المقبلة على «لَخثانة» إحدى العمات بين ذراعيها، راجلة استلمتها من الفارس الذي طاف بك حول ضريح «سِيدْ الضاوي» كي تأخذها إلى الداخل قصد نيلك بركة الولي الصالح، قريبا جدا من المأوى الأخير لدفين القبة المقدسة.
ذهابا وإيابا رافقك «الطبالة» و»الغياطة»، لكن الصورة أغفلتهم، مثلما أغفلت من مكث في المنزل من أقرب الأقارب: الجد والجدة والأم، ومعهم ضيوف الأول (طُلْبة)، وضيفات الثانية (جارات ولعَّابات).
وحدها مصاحبتك لـ «الحاج العبادي» كانت تبيح لك ولوج «الملاح» حيث مقر الزاوية التيجانية، فالقلعة البرتغالية محظورة عليك حينها يا صغيري. كان عقلك المُتخلّق يبحث، بدون جدوى، عن معنى أوراد وأذكار الطريقة، ودلالات «جوهرة الكمال في مدح سيد الرجال» التي يتلوها المقدم والمريدون، وعن حكمة وجود ثلاثة من بيوت الله في مثلث صغير في عين الفضاء (مسجد وكنيسة وبيعة). ومع ذلك، كنتَ تحدس تعدد أسماء الرب داخل الأسوار، وتعايش العادات والمعتقدات والألسنة خارجها كما داخلها.
بوشومها على الذقن والحنجرة والجيد، وقفطانها الأزموري المتلألئ كأشعة شمس الغروب على مياه أم الربيع، وبياض بشرتها المماثل لبياض قبب الأولياء الكثر المنتشرين في «الحاضرة» التي سَمّت فاس «قرية» ذات مراسلة مخزنية، كانت «حْبيبتي» ترسم خريطة البيت، كأنها جنرال حرب، حتى لا يختلط الرجال بالنساء، وحتى لا تتزامن تلاوة آيات القرآن والأدعية مع إنشاد «العونيات»، بل تتوالى الواحدة بعد الأخرى بعد هنيهة صمت صاخب، وحتى تفيض الموائد بما لذ وطاب ويَفضُل للحاضرات ما يأخذنه معهن إلى ذريتهن الصالحة والطالحة. فتحت «لالة عايشة»، هذه المرة وعلى غير عادتها، صندوق كنوزها أمام الجميع واستلت منه أغطية الموائد المخصصة للمناسبات الاستثنائية فحسب، وهي من مكونات «لَبْتات» الذي جلبته معها ليلة «الدّخلة» إلى «حَطّة» السلف: أثواب بيضاء مطرزة بالسباع كما حسبتَ الزركشات آنذاك، لكنها لم تكن سباعا بل تنينات موشاة بالأحمر والأسود.
اختطفها، مجازا، العطار «لعروبي»، الورع الذي يعرف الله ونبيه وقيمة «المرأة الصالحة» والذي تعهد بعدم الزواج من «ضرة» لها، من أحد أعيان مدينتها، وهكذا لم تُمسخ إلى أَمَة من بين ثلاث أخريات في حريم. وما أن انتقلت تحت سقفه، حتى فرضت، تدريجيا، شروطها عليه للعيش المشترك: الرحيل من «الگوْر» ذي الحيطان السميكة، القليل العرض والطويل إلى ما لانهاية في اتجاه «عَيْن الشَّمش»، والاستقرار بـ «لَمْدينة» وترك «لَبْلاد» لعناية «خمّاس»؛ القطيعة مع عادة كون المرأة «الراضية المَرْضية» لا تخرج من الدار إلا مرتين، الأولى في الحياة من دار أهلها للالتحاق بسكن «راجَلْها»، والثانية بعد أن يزورها ملاك الموت من بيت الأخير في اتجاه المقبرة؛ ارتداء الجلباب بدل «الحايك»، مع وضع النقاب المغربي أو نزعه وفق ما يمليه تقديرها الشخصي هي للمقام؛ تدريس بنتيها الثانية والثالثة واقتناء أزيائهن «الرومية» من أفخر متجر ملابس بالمدينة؛ السماح لهن بالذهاب إلى السينما (قاعة مرحبا وليس غيرها) والمسرح البلدي؛ إجازة انتماء أصغرهن إلى فرقة «الماجوريت» واقتناء «سولكس» للأخرى بعد نيلها «لَبْروفي»… وتنصيبي «قونصو» ضمن مملكة النساء التي كانت تديرها بيد من حديد يكسوها قفاز من حرير.
ثالثة المرابطين في السكن ذي الطابقين كانت الوالدة. لا أشغال منزلية آلت إليها اليوم، فهي في مكانة من تضع مولودها ثانية المرموقة والمبجلة، «تفَششها» حماتها كما لم يسبق إلا يوم وضعها إياه. مرتدية «التحتية» و»الدفينة» و»الشربيل»، ومزينة بأنفس ما تملكه من «دْبالج» وقلادات «لْويز»، تضع «الزمرانية» رجلها اليمنى في «گصعة» من العرعار بها سوار فضي و»الدَّاد والحَنّا»، منتظرة أن يطلب «الحجام» منكَ رفع بصرك لرؤية «فْرَيّخ».
وكانت كل واحدة من سيدتيّ بهية بوشاحها النفيس من طرز «الزّين والبْها» المميز لحاضرة الجدة، وقد انتقت هي لنفسها، من بين حوالي الثلاثين طرازا المكون لذاك الطرز الأصيل، واحدا به سنبلة، ووشحت»زهرة» بآخر به زخرفات زهرة «بلعمان» الوضاحة. أما الحناء، فلم تكن تفارق قدمين ويدي سيدتيكَ، ولا الكحل عينيهما، ولا كان أثر»السواك» المانح للشفتين الضياء يختفي يوما من ثغريهما.
أما «سي بوشعيب»، فلا ظل له لا في ضريح الولي ولا جنب والده؛ كان في الحجاز، أو بهذا برر غيابه لاحقا… ألأداء مناسك الحج أو العمرة، أم لقضاء حاجة دنيوية مدنسة؟ المهم ألا أحد احتج ضده، فحقيبته المحملة بالهدايا للجميع وحافظة نقوده المليئة تفرضان على كل من تأويهم دار «العطار» قسطا لا يقاس من الاحترام وعدم مجاراة إبليس في النبش عن التفاصيل الشيطانية المزعجة!
الصورة الثالثة
المكان: ساحة مدرسة «مدام ميلي» حيث الطاولات موضوعة أعلى درج خفيض؛ بعضنا يجلس فوق الدرج، والبعض واقف خلفه، والآخرون اعتلوا طاولات الدرس بعد تنظيف أحذيتهم جيدا تحت مراقبة حارس «السّكويلة» ذي الطباع الخشنة.
الزمان: التقاط صور تلاميذ المدرسة مع معلميهم، كل فصل على حدة، وكل صورة تتوسطها لوحة سوداء مكتوب عليها بالطباشير اسم المؤسسة ومستوى القسم والسنة الدراسية.
نحن أكثر من ثلاثين، والطفل الذي كنتُه جالس وسط قصار القامة مثله، ونظرات الصغار مركزة جميعها على آلة التصوير المثبتة فوق حامل فولاذي، والمصور يُصدر آخر تعليماته لنا في انتظار التحاق المدرس، «سي طه»، بالجوقة كي تكون الصورة كاملة، غير مبتورة ممن «كاد أن يكون رسولا».
شيخ وقور هو معلم قسم التحضيري، فقيه من مريدي الزاوية التيجانية وصديق للجد، يفضل سور القرآن على نصوص تلاوة «اقرأ» لبوكماخ، والأناشيد الدينية على محفوظات مقرر «بيت اللّول»، وشكل التقاط الصورة تلك المناسبة الفريدة، الأولى والأخيرة، التي تخلى خلالها عن «لالة زهرة»، العصا المطاطية المُنزّلة من الجنة « اللّي ما تْخلي من يعصى».
بين المسيد والمدرسة الابتدائية، تغير الديكور، بينما لم يطل هيئة الملقن أي تغيير: معلم المؤسسة العصرية بنفس لباس فقيه «الجامع» العتيق، تفصيل وحيد كان يميز بينهما: الثاني يضع عمامة، بينما الأول يفضل الطربوش الوطني.
كسولا كنتُ في المسيد، أواجه صعوبات جمة في حفظ سور قرآنية عديدة لأنها كانت تتراءى لإدراكي الطفولي مكتوبة بالخط «الزناتي»، ولأن عجزي عن فك طلاسم معانيها كان مستشريا؛ ضلال سينقذني منه «سي طه» رغم أنني لم أذق إطلاقا طعم «لالة زهرة». فكان أن انضافت إلى عربية «الجامع» والزاوية المقدسة لغةُ الضاد المدرسية، عربية «بَ، بُ، بِ» التي كان الشياطين منا يربطونها بتقية بـ «بَّاك عْروبي»، و»يا إخوتي، جاء المطر…» و»أقبل البدر علينا…»، مُثرية بقية اللسان المازاغاني المؤثث للمحيط اللغوي للطفل أنا، المفهوم منه والعصي على الفهم: دارجة دكالة الجافة كأيام القحط، والأمازيغية ولكنة «الشّلوح» المعربين، و»عرنسية» أبناء الأعيان وحوارييهم، و»قاف» أهل فاس المنطوقة «ألفا»، وعبرية البيعة البائدة وعربية يهود الملاح العبرية، وفرنسية الأكاديمية الفرنسية التي تلوكها الراهبات، وفرنسية مجاورة للأصل، يدمن عليها من تبقى من «نْصارى» والطبيبة «مدام شابو»، و»غَوْص «خوروطو»، ومعجم البحارة، والإسبانية والإيطالية والبرتغالية المستعملة من قبل ورثتها لحظات الغضب للسب والشتم.
في قسم المتوسط الأول فقط سأكتشف أن المعلمات يُدرسن الأولاد كذلك، ولا يشتغلن في مدارس الفتيات بمفردها، على غرار إحدى العمات وبنت الأخرى. أنيقة وجميلة كانت معلمة الفرنسية في ذلك الفصل، بشعرها المقصوص وفق موضة «كوبْ گارسون» وحذائها العالي المتناسق لونه باستمرار مع لون بنطالها أو تنورتها. لا عصا كانت لديها لضبط القسم، بل مجرد قبعة بأذني حمار للمشاغبين من التلاميذ، وفرض الانزواء عليهم في إحدى زوايا حجرة الدرس واقفين على رجل واحدة.
خلال السنة الدراسية تلك انتقلتُ إلى مدرسة المنصور الذهبي، مثلي مثل جميع زملائي في الفصل، لأن سقف الدراسة في «مدام ميلي» كان الابتدائي الثاني. وعلى مرمى حجر أصبحت «سكويلة لِيهُود» التي كان مديرها يعير بعض حجرها لأقسام بعينها من مؤسستنا. وقد توالت مباريات كرة القدم ضد تلاميذها برهان مالي قدره خمسة سنتيمات لكل لاعب، أي قيمة «جُوج شْفنْجات»، وأحيانا كانت المواجهات «السلمية» تنتهي بحرب ضروس أسلحتها الحجارة، مع تبادل الشتائم بسبب عدم تقبل الهزيمة: «آليهودي قَاقا، آمُّو …»، نتصايح نحن، فيرد أرماند وموشي وباروخ ومن معهم: «آولاد المْگمّلين…»! ومع ذلك، كان الفريقان يتركان سبل جريان المياه مفتوحة بينهما، فالمقابلة القادمة «آتية لا ريب فيها». أما الجلوس جوار فتاة في نفس مقعد الفصل، فامتياز لن يحصل عليه المراهق الذي صرتُه إلا في السنة الأولى باكالوريا تحت سقف «ابن خلدون»، الثانوية الوحيدة المختلطة حقبتها في عاصمة دكالة.
وفي الصورة، كما في الحياة المدرسية الابتدائية وعلى هامشها، مكث «الشورط» و»صندالة ميكا» ملازمين للطفل الذي كنتُه، باستثناء أيام الجمعة وأيام مرافقة الجد إلى الزاوية وصباحات صلوات الأعياد الدينية وليلة القدر، حيث يفرض علي جلباب يجعلني أتعثر في «جْلايْلي». لم يكن يتوفر لدي بديل عنهما حتى حين أرافق العم لحضور مباراة للدفاع الحسني أو للرشاد أيام الأحد، أو إلى الشاطئ و»المون» للسباحة أو إلى حديقة «سْبيني» للتفرج على جولات مقابلات التنس وسيقان لاعباتها الفرنسيات العارية، الفتيات الصغيرات السن منهن واليافعات الرشيقات و»مَدَامات» المكتظة أجسامهن باللحم والشحم؛ أو تأخذني العمات معهن (حارسا شخصيا رغم نحافتي) إلى السينما أو المسرح البلدي بين سبت وآخر؛ أو ينعم علي الوالد بنزهة حين يشرفنا بطلعته؛ أو أروح مع الجدة إلى مولاي بوشعيب السارية، الولي الصالح الوحيد المسموح لها بزيارته من طرف المريد التيجاني الذي تُحَرم طريقته بتاتا التبرك بالأضرحة «الوثنية».
وبفضل السلك الابتدائي في المدرسة العمومية، ستكتشف يا أيها الصبي متعة القراءة، روايات محمد عطية الإبراشي والآخرين، و»المكتبة الخضراء» والقصص المصورة بلغة الآخر، تقايض الواحدة منها بأخرى عند الصحراوي «مول الزريعة» مقابل عشرين سنتيما. ليكون أول كتاب «جدي» تلتهمه هو «الذاكرة الموشومة» لابن بلدتك، عبد الكبير الخطيبي، الذي أهدتك إياه أستاذة الفرنسية الذميمة، الوافدة من إحدى ضواحي مارسيليا الرثة، وأنت في الأولى إعدادي بمؤسسة «بوشعيب الدكالي»، بعد أن اقترفتَ إحدى الكبائر وأنت تصف مدينتك في مادة الإنشاء بـ «مشروع الدوار الحضري»، محتجة:
مسيو أحيد (هكذا كانت تنطق عاهد، وهو التحوير الذي سيشكل لعنة طوال أيام الكائن الذي سأغدوه لاحقا)، هل مدينة تنجب كاتبا من هذا العيار، يتلاعب بالفرنسية أفضل من أبنائها، يهب كلماتها الحياة، أهذه المدينة مجرد مشروع دوار حضري؟»
الصورة الرابعة
ها أنت، يا ذلك الطفل الذي اشتد عوده، تضع «الكوستيم» لأول مرة، وخصلات شعرك مسواة ما تزال بطريقة مماثلة تماما لشعر بطل القصص المصورة «تَانْ تَانْ»، وتصعد إلى خشبة المسرح البلدي لتسلم دزينة كتب، جوائز التفوق في امتحان عبور الإعدادي للالتحاق بالثانوي؛ عبور سيحررك من عين العم الساهرة على سلامتك خارج البيت والمدرسة، والمنتقية لأصدقائك في الدرب بعناية فائقة. وكيف له غير الحرص عليك من «رفاق السوء» وصورة جسد «عبد الإله» المتآكل تسكن منامه ويقظته؟
بأسى لا حدود له وأثر مفجع لم ينضب أبدا، ظل «التجاني» يتذكر ابن أخته الكبرى الذي كان يكبركَ بأشهر قليلة. يستحضر هيئته وألمه وهو يتقيأ الدم بسبب تجرع كأس من «الما القاطع». «خوروطو» من أبناء الجيران أعطاه له موهما إياه أنه كوب من «مونادا سيم»، وحثه على تناوله جرعة واحدة بعد سد الأنف بقوة بالإبهام (قَتّال القمل) والسبابة (لَحّاس القُدور). هكذا قضى «عبد الإله» وهو على وشك التسجيل في المدرسة الابتدائية. قضى في رحم معاناة «ما تَبْغيها حتى لَعْدوك» أدمت قلبكَ بعض لحظاتها المأساوية. ولذا صرتَ مراقَبا من طرف العم بشكل مرَضي، حتى لا تُختطف أنت الآخر.
وقبلها، كنتَ شاهد عيان على موت عنيف آخر: أختك الكبرى «نجية» التي رحلت إلى السماء عقب حادثة سير ارتكبها الوالد العائد من غياب طويل، وهو يريد التكفير عن «خسوفه» غير المطاق عبر أخذكم إلى رحلة لمراكش، متباهيا بسيارته من ماركة «مرسيدس».
التشطيب ذاك على الأقحوانة، التي لم تخلف ولو صورة فوتوغرافية واحدة، من الصفحة الرابعة من كناش الحالة المدنية، لن يغيب عن صفحات ذاكرتك يوما، وعنه ستخط في «قصة حب دكالية»: «حدث ذلك خلال ليلة من ليالي دكالة ذات المنعرجات السالبة لحلاوة العيش… ولهذا، ربما، ترتبط الطفولة لدي بالموت… الموت المجاني في ندوب «العگبة الحمرَا» الشمطاء… الموت الصامت وسط رجات الفولاذ العنيفة… الموت العادي الذي تنشر الجرائد صداه الفظيع أسفل صفحة الحوادث… الموت الذي أهدى الطفل الذي كنتُه غرفة فردية بعد سفر «نجية» إلى السماء… الموت الذي أردى الطفل ذاته صريعا لأنه دفعه إلى العلم مبكرا بمدى جهل وعجز الكبار…»
الكبار! أولئك الذين عجزوا عن الجواب على علامة استفهام بدت بسيطة للطفل الذي أنقذه تل رمال من مصير أخته: أين يستقر الموتى، وهل الكبار والصغار يرحلون إلى ذات المكان، أم إلى أمكنة مختلفة؟ ومنذ ذاك أصبحت طفولتكَ تهاب الموت العنيف، وصرتَ تتمنى أن تأتيك سكراته رحيمة بعد أن تكون حللتَ بسريرك ذات ليلة في صحة وعافية: يحل الصباح، صباح ما، لا تستيقظ من النوم وسط إشراقته… «وكفى المؤمنين (شر) القتال»!
تخلصتَ إذن من رقابة العم، لكن في حدود معينة فقط، فاستحالت «زنقة فرنسا» التي انتقلت العائلة إلى السكن بها ملكا مشاعا حتى الدجى، و»رَاسْ الدرب» موقعا لتبادل الكتب والحكايات وللتندر، ودار الشباب القريبة موطنا لأندية المسرح والقراءة والرياضات؛ وانفتحت في وجهكَ فضاءات «الجّْديدة»، الموصدة والمفتوحة، ومجال اشتهاء بنات الجيران في سرية يفرضها «عار الجار على الجار». ومن وضعك كشبه «حاجَبْ» انعتقتَ، لتعانق أفق الأفق في صخب البحر حين ينصهر بسكونه، وفي دفء أنواره وانعكاسها على أديمه، وفي نَفَس المد والجزر، وفي أريج الطحالب والأسماك.
ومنذ ذاك، لازم طفولة الطفل الذي كنتُه رصيف مازاغان البحري وهدب «البريجة» المائي. ولو كان اسم الطفل ذاك إدريس الشرايبي، لاعترف، رغم المسخ الذي شوه مشهد مدينة صباه:
«من الأفق المزرورق مثل عيون أفروديت، إلهة الحب القديمة تلك، تتسامى موجة متبخترة وقوية ثم تتدفق. تعلو موجة ثانية الأولى فتغطيها. تنضاف أخرى. كل واحدة من هذه الأمواج تضيف حياتها للحياة. كلها تمتلك نفس الصوت وتردد ذات الكلمة: السلام، السلام، السلام. أشعر وكأن كل هذه الأصوات، المتعددة والمتكررة، أصوات لرجال الأزمنة الغابرة، رجال الأجيال التي سبقت جيلي، والتي أودعت كل أحزانها وأفراحها وآمالها في دمي، قطرة بعد الأخرى.
«الجديدة. إنني أعشق أكثر مسقط رأسي في الصباح الباكر، حين لا يسكن فضاءاته لبعض الوقت سوى العاملين الذين تفرض عليهم الحاجة الاستيقاظ باكرا: عمال النظافة، رجال البحر، الصيادون، باعة الإسفنج، المصلون الورعون، زارعو البقول، حراس الأفران العمومية. إنهم يتمنون لي، الواحد تلو الآخر، صباح النور وأنا أتسكع في الدروب والأزقة.»
الصورة الخامسة
الطفل الذي كنتَه جالس القرفصاء تحت ظلال أشجار «حديقة محمد الخامس» (المارشال ليوطي سابقا)، جنب نصب تذكاري مجسم يحمل صورة للملك الراحل منحوتة في البرونز أو النحاس، وأمامك مستلزمات السباحة لأنك عائد توا من شاطئ «الجْديدة» في أحد أنهر الصيف، الفصل الذي كانت المدينة تتحول خلاله إلى «شاطئ مراكش».
وحين ازداد ابنك البكر، ارتأيتَ التقاط صورة فوتوغرافية له في نفس وضع الطفل ذاك، ووسط نفس الديكور… لكنك وجدتَ صورة محمد الخامس تبخرت مع رياح «الزفزافي والنفنافي»، انتشلت… كما سُرقت المدينة التي تنفست طفولتك نسائم بحرها وبرها، «دوفيل المغرب»!