محمد بلال أشمل.. من أجل التأصيل لقواعد المناظرات الدينية وأساليب الحجاج

يشكل الحديث عن قواعد تأطيرالمناظرات الفكرية والحجاج العقلي، مدخلا علميا أصيلا لوضع منطلقات النقاش بين الآراء والأفكار والمواقف. لا نقصد -في هذا المقام- نزوعات التناظر ذي الخلفية الإيديولوجية المرتبطة بمختلف أشكال التدافع السياسي التي تحبل بها الساحة السياسية، سواء بالنسبة لفرقاء الداخل أم بالنسبة لمكونات المحيط الخارجي، العدائي أو المنافس أو المتآمر أو المهادن. والحقيقة، إن تاريخ الفكر الفلسفي العالمي عموما، والإسلامي خصوصا، قد عرف تيارات متعددة للتأسيس لقواعد الاختلاف، ولإنتاج سبل التعايش بين أنماط التضاد داخل الأنساق الفكرية والمواقفية المتضاربة. لم يكن الفكر الأحادي إلا رديف مراحل الانحطاط والتراجع، ولم يكن الاستبداد بالرأي إلا ظلا لأنماط الحكم القهري، ولم يكن القتل المادي أو الرمزي للآخر إلا تعبيرا عن طبيعة البنية الحاضنة لمظاهر الحكم السياسي الاستبدادي، بامتداداته المتداخلة على مختلف مجالات التفكير والخلق والإبداع.
      في سياق البحث عن التأصيل لشروط التناظر والمحاججة كسلاح لتدبير سبل العيش المشترك بين الملل والنحل والطوائف والعقائد والإيديولوجيات، يندرج صدور كتاب «محاضرات في المناظرات الدينية وأساليب الحجاج»، للأستاذ محمد بلال أشمل، سنة 2023، في ما مجموعه 214 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب، في الأصل، محاضرات أعدها المؤلف لضرورة علمية مرتبطة بوظيفته كأستاذ جامعي بكلية أصول الدين التابعة لجامعة عبد المالك السعدي بتطوان. فهي بذلك مادة علمية بأفق بيداغوجي يستثمر التجارب، ويستنبط الخلاصات، ويؤسس لقواعد عقلنة الرؤى تجاه الذات أولا، ثم تجاه الآخر ثانيا، هذا الآخر المتعدد بتعدد انتماءاته ومواقفه ومنطلقاته وخلفياته. ويحدد المؤلف القيمة العلمية لتواتر المناظرات ولتكريس أساليب الحجاج العقلية، في كلمته التقديمية، قائلا: «تُعد المناظرات وما يتصل بها من أساليب الحجاج ثمرة الممارسة العلمية في مختلف الثقافات. غير أنها حازت في الممارسة الدينية رتبة عليا جعلتها مدار عمل وبحث ونظر ومقارنة من لدن المناظرين في الدين الواحد بحسب الطوائف والمذاهب الموجودة فيه، أو بين المنتمين إلى أديان مختلفة بحسب القضايا المراد التناظر حولها، أو بين المنتمين إلى معتقدات غير دينية مع غيرهم ممن يعتقدون في أديان معينة… وكيفما كان الحال، فإن المشتغل بالفكر الإسلامي والفلسفة وعلوم الأديان، يحتاج التعرف على حقيقة المناظرات الدينية، ويقف على أسرارها، ويتحقق بآدابها، ويكون على علم بمنطق الحجاج الذي يسندها، ويكون بصيرا بالغايات والمقاصد التي تتجوهر بها. فلا معنى لمن يدرس الفكر الإسلامي، ولا يقف على إحدى ثماره اليانعة، متمثلة في المناظرات الدينية، ولا جدوى من الاشتغال بالفلسفة لمن لم يتحقق بمنطق المناظرة، من حيث كونه آلتها إلى بناء تصوراتها، ولا فائدة من التعاطي لعلوم الدين إن لم يعتد الدارس لها معرفة بطبيعتها وغاياتها، فالمناظرات الدينية ليست ممارسة نظرية ينهض بها المناظر الديني إشباعا لحاجة علمية وغرض معرفي، بل هي ممارسة علمية له يستقوي بها على الاستزادة من التصديق لمعتقده الديني، ويستهدي بها في أساليب الدفاع عنه، ويستطلع أسباب القوة في معتقد غيره الديني، وربما طلبا لأسباب التعايش مع معتقد غيره، أو تعاقدا للبحث عن مقومات التسامح معه…» (ص ص.9-11).
ولتأطير معالم هذه الرؤية علميا ومنهجيا، اهتم المؤلف بتوزيع محاضراته بين سلسلة من القضايا المركبة والمتداخلة في شروط عقلنة فعل التناظر وميزة المحاججة. في هذا الإطار، اهتم بتوضيح دلالة لفظة «المناظرات» على مستوى المصطلح والوظيفة، مع التركيز على المناظرات الدينية بامتداداتها داخل الحقول والعقائد الأخرى. وفي نفس السياق، كانت للمؤلف وقفة مع الحجاج كفعل حاضن للمناظرات بطرقه وبأخلاقياته المؤطرة للنظر الجماعي. ولإضفاء طابع إجرائي على بحثه، خصص المؤلف إحدى المحاضرات لتحليل إحدى النماذج من المناظرات الدينية، يتعلق الأمر بالرد على النصارى للفخر الرازي كنموذج يمكن استثمار مضامينه للبرهنة على القواعد النظرية لفعل التناظر والمحاججة.
وبتواضع أهل العلم الكبار، حرص المؤلف على وضع «خاتمة مؤقتة» لتنقيباته المسترسلة حول الموضوع. وقد اعتبرها «مؤقتة» من منطلق علمي أصيل يجعل من إنتاج المعرفة فعلا موصولا لا يمكن قول الكلمة الأخيرة فيه مادام يغتني -بشكل متواصل- بتعاقب الأسماء والتجارب والاجتهادات. يقول المؤلف بهذا الخصوص: «تُعد هذه المحاضرات متنا مفتوحا على المراجعة، أو الرؤية المنهجية، أو المادة البيبليوغرافية، وهو متن نسأل الله تعالى أن يجد فيه طلبتنا وطالباتنا ما يعينهم على إدراك حقائق المناظرات الدينية خاصة، ويقدرهم على الخوض في غمار البحثي العلمي عامة» (ص ص.5-6).
يقينا إن هذا العمل قد نحا نحو المنزع التلقيني التعليمي، من دون إغفال القواعد الإجرائية في تنظيم وظيفة الإنصات للآخر، وفي ترشيد ميزة القبول بالآخر، وفي تيسير جسور الارتقاء الحضاري المنتج لقيم العيش المشترك والتسامح المثمر والسمو الأخلاقي. ستظل المناظرات الدينية سلاحا في وجه زحف الأصوليات المتطرفة، والأحكام المطلقة، والتنميطات الجاهزة، والإيديولوجيات الإسمنتية. وسيظل الحجاج مدخلا لتطويع الذات في سعيها لتجاوز يقينياتها ومسلماتها، من أجل التحليق عاليا في رحابة واقع الفطرة وفي مآل التعايش وفي قيمة الاختلاف.

الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 05/02/2025