محمد عابد الجابري بين الورد والرصاص 18 : محمد عابد الجابري… ومسألة العلمانية

نال مشروع محمد عابد الجابري حول قراءة التراث، وحول «نقد العقل العربي»، من منطلق إبستمولوجي، حظا وافرا من السجال الفكري، الذي جر إلى معمعانه قامات فكرية أمثال جورج طرابيشي وطه عبد الرحمن وحسن حنفي ومحمد أركون ومحمود أمين العالم.. وغيرهم.
وقد ساهم الجابري في إشعال الحركة الفكرية العربية والإسلامية، والدفع بها إلى إعادة قراءة التراث العربي، ومحاولة إخراج العقل العربي من «استقالته»، وذلك انطلاقا من تحصيل آلة إنتاج النهضة، أي «العقل الناهض».
وقد انبرى العديد من المفكرين لمناقشة نظرية الجابري، وشهدت الساحة الفكرية العربية سجالات حامية الوطيس، بلغت أحيانا حد التجريح والتخوين والتغليط والتزوير والنزعة العرقية. غير أن الجابري يبقى في المحصلة حتى بالنسبة لألد خصومه أحد أهم قارئي التراث والمتبحرين في درره وامتداداته. وهذا يدل على مدى فرادة مشروعه وأهميته، إذ ما زال إلى حدود الآن، يُسيل حبرا كثيرا ما بين مؤيد ومعارض، وما زال يستيقظ في الدرس الجامعي بالمساءلة والنقاش ومحاولة الاكتشاف..
في ما يلي مقالات بأقلام أساتذة وباحثين حول المشروع الفكري للجابري نقترحها عليكم خلال هذه الفسحة الرمضانية..

 

لعله من إحدى المفارقات التي تسم مسار الراحل محمد عابد الجابري، كأحد أبرز منظري المشروع النهضوي العربي، هو موقفه من أحد الأسس و الدعائم التي لابد لكل مشروع نهضوي من أن يتأسس عليها، ويتخذها كمدخل من المداخل الضرورية ليتحقق كمشروع، ونعني بذلك موقفه من العلمانية. إذ يبدوا للوهلة الأولى أن الجابري لا يبدي حماسا للعلمانية، ولا يدخلها ضمن الأسس التي يقوم عليها المشروع النهضوي العربي كما تصوره وبلوره في العديد من مؤلفاته وأطروحاته. بل إنه في سجاله ونقاشه مع العديد من المفكرين اعتبر العلمانية لا تخص المجال الذي ساد فيه الإسلام كديانة توحيدية، لأنه لم يعرف مؤسسة شبيهة بالكنيسة التي عرفها الغرب مع المسيحية، وفرضت عليه أن يتبنى العلمانية كإحدى الإواليات الضرورية لتحقيق نهضته وتقدمه، لأن الكنيسة كممثلة ومحتكرة للمجال الديني، كانت تشكل عائقا أمام حرية الفكر وإبداع العقل في الغرب. بخلاف الإسلام الذي لم يعرف مؤسسة مماثلة، وبالتالي فإن العالم العربي والإسلامي ليس في حاجة إلى العلمانية لتحقيق تطوره وتقدمه. وكانت هذه هي حجته الرئيسية في رفض العلمانية، أو على الأقل عدم تحمسه لها وإدراجها ضمن مجال انشغالاته واهتماماته الفكرية.
والواقع أن موقفه هذا، يبدو غير مقنع وغير منسجم مع مجمل صرحه النظري، بل إنه يجعله في تناقض مع هذا الصرح، ويجعله يبدو كمن يناقض ذاته، ويعارض منطلقاته، ويناهض غاياته وأهدافه. وقد كان موقفه هذا من العلمانية، من بين الأسباب التي أدت بالمفكر المعروف جورج طرابيشي إلى أن ينتفض ضد هذا التناقض الصارخ في مشروعه، ويتصدى لنقد أطروحته من خلال كتابه « نقد نقد العقل العربي». والحقيقة أن كل من اطلع على مشروع الجابري، لا يستسيغ موقفه هذا، ويجد حجته في رفض العلمانية لا تستند إلى مرتكزات قوية، وذلك لأن الدافع إلى هذا الموقف لا يجد مبرره في المعطيات المفاهيمية والتاريخية، وإنما في غايات أخرى هي التي أدت إليه وحكمته كخلفية ثاوية وراءه .
ولكن ما الذي يجعل الجابري يبدو كمناهض للعلمانية مع العلم أنه ارتبط على المستوى الوطني والعربي بالتيار السياسي التقدمي المتحمس مبدئيا لهذه العلمانية، ولأحد شروطها ومستلزماتها وهي الديمقراطية ؟ كيف يستقيم كون الجابري كرس جهده الفكري والنظري دفاعا عن العقل والعقلانية وفي نفس الآن يعارض العلمانية كفضاء ومناخ فكري وسياسي يشكل شرط لزوم لكل نهضة للعقل والعقلانية ؟ كيف نفسر هذا النشاز غير المفهوم في موقف الجابري ؟
لا بد أن نسجل في البداية أن أغلب مواقف الجابري من العلمانية، أعلن عنها في سياق نقاشات وسجالات، أو حوارات مع جرائد ومجلات. ولم يبلور موقفا بهذا الخصوص من خلال مؤلف أو دراسة مستقلة. وإذا لم يطلع المرء على هذه السجالات والحوارات، فإنه قد لا يستخلص ذلك الموقف الذي لا يتحمس فيه الجابري للعلمانية، بل على العكس، فإن العديد من دراساته تساعد على استنتاج موقف إيجابي من هذه المسالة، بحكم خلاصات تلك الدراسات وطبيعة القضايا التي عالجتها، والمرتبطة بهموم الديمقراطية والتقدم والحرية وحقوق الإنسان، وهي قضايا لا شك تتقاطع بهذا القدر أو ذاك مع العلمانية، وتشترك معها في الخلفية والإطار التاريخي الواحد. فإذا أخدنا مثلا إحدى الخلاصات التي انتهى إليها في مؤلفه « العقل السياسي العربي « ، نجده يؤكد بأن إحدى الشروط لانتقال هذا العقل إلى الحداثة السياسية، ترتبط بضرورة تحويل العقيدة إلى مجرد رأي. وهو ما يعني انتزاع طابع القداسة عن هذه العقيدة، وفتح المجال لوضعها على محك النقد والسؤال، تماما كما حصل في الغرب مع المسيحية. وهذا يعني أن الجابري يشترط كمدخل إلى الحداثة السياسية نقد الدين وإبداع مفهوم جديد له، بعد إخضاعه لأسئلة العقل المحرجة. ولاشك أنه هنا يستحضر ما قام به سبينوزا بالنسبة لليهودية عندما وضع أسسها الميتافيزيقية موضع تحليل عقلاني في كتابه « رسالة في اللاهوت والسياسة « الذي يعتبر إحدى المراجع المؤسسة للعلمانية كموقف ورؤية للعالم ككل. و يضاف إلى ذلك، أن الجابري في مؤلفه المذكور « العقل السياسي العربي « يتعرض بالدراسة لفترة حرجة من تاريخ الإسلام، هي فترة الفتنة الكبرى التي اقتتل فيها المسلمون، وتوزعوا إلى فريقين أساسيين، أنصار علي وأنصار معاوية.
(يتبع)


الكاتب : عبد الإله إصباح

  

بتاريخ : 27/05/2019