محمد عزيز الحصيني في ديوانه «كغيوم تحت القناطر» .. الجسد الشعري المنكتب كـ «رغبة»

 

كيف يمكن قراءة اللحظة الشعرية باعتبارها تعبيرا عن حالة من أحوال النفس .. أو ما يسميه ج .ب . ريشار ب « الروح الداخلي « ؟ 1 . وكيف يمكن تأبيد المطلق في محارة المجاز ؟ والإصغاء إلى هدير العالم في الهمس الداخلي العميق للعناصر والأشياء ، و الملامح الهاربة للوجوه والذوات ؟ ورعشات الصمت الجواني للغة والكلام المنطمس في سريرة الأبجدية ؟
أسئلة كثيرة ، لكنها سؤال واحد تجيب عنه محافل التعبير الشعري في ديوان «كغيوم تحت القناطر « للشاعر محمد عزيز الحصيني 2 ، من خلال تضاريسه الأربعة :

أجراس معلقة في سحابة / ص 5
الرخام تحت الوسادة / ص37
مواثيق خادعة / ص 79
ياعرافة المياه / ص99
وهي مسودات شعرية تأتلف فضاءاتها التخييلية من خلال استعارة صائد الفراشات ، حيث الفعل الشعري مطاردة واقتناص لألوان المعنى في التحليق الهارب لكل ماهو شفيف وضوئي في صورته الفيزيائية وتكوينه الألخيميائي الإكسيري .
يقتضي هذا، الذهاب إلى لغة شعرية تشتغل كـ [ قلب لنظام الواقع ]، لغة تختمر مادتها في حدوسات اللامحتمل واللامتوقع واللامتعين . تضوع بعطر «زهرة الغامض» مشاكلة للغة الحلم والاستيهام و حساسية التبصر الداخلي وإرباك الوعي بأحلام اليقظة التخييلية ، تلك التي من اشتباكاتها يرتسم شمال خرائط المعنى. نقرأ من قصيدة « لا منتهى الخسارة « :

أنا غريم
سارق النار من الخوابي
أجوب الساحات
وأناجي تماثيل العدم
..
برأس صياد أعمى
أتشمم
ما تبقى من عطر المجرات
على فساتين الخراب
..
أغمض عيني
وأحلم
بصحراء بعيدة
ببئر خمور سحيقة
كانت كلماتي
ترتوي منها
بما تشتهيه الغرائز والأفعال
ثم تنتهي إلى الخسارة
معلقة كالأجراس في سحابة .
ص : 31 – 33

يندس الوعي الميتاشعري في تلافيف الكلمة الشعرية التي هي دائما كلمة تضمين لا تعيين بمصطلح دلائلي، ذات طبيعة كنائية تنحل من قيد المواضعة لتتسربل بأثواب المجاز الشفيف ..
يقف الشاعر على مشهد العدم، العماء، الخراب ، الخسارة غريما لبرومثيوس (سارق النار ) وغريما لأوديب ( الصياد الأعمى ) وغريما لنرسيس، وهو يقف على (بحيرة السراب ) وغريما لدون كيشوت في مشهد سوريالي ( يعلق أجراس الخسارة في سحابة ) .
تنكتب الجملة الشعرية في الديوان من التشاكلات المترادفة و المتوازية و المتضادة التي تنحت إيقاع الصورة الشعرية .صور شعرية تأتي من جهة مخيال شعري يشذ عن الأقيسة البلاغية الأرسطية ، حيث مساحات التخييل الشعري مفتوحة على التقاطع المفارق للغيري و الاختلافي ، و اشتباكات الإحساس بالفكر ، و تواشجات المبنى الشعري ( الأليجوري ) الذي بلاغيته المجازية « تسكن الشعر في جسد النثر كما تنفث عقد السرد في الشعر « 3 .
تعكس المسودة الحاملة لعنوان « الرخام تحت الوسادة « اعتناء كبيرا ب [ شعرية التفاصيل ] بالصيغة التي أشرنا إليها في مبتدأ القراءة و التي بلغة باشلار تنهل من جماليات الإصغاء الشعري الرمزي للأثر المرئي و اللامرئي ، الظاهر و المحتجب ، همس الداخل و الخارج ، المعنى العابر كينونة الأمكنة و الأشياء مرفوقا بالأطياف و الظلال ، و انتحاءات الصوت الشعري من سيمياء المضاعف و تجاور المرايا و قلق المسافة بين الوعي و اللاوعي :

لماذا نتشابه
بهذا الشكل الغريب
ننظر إلى المرآة
فتهطل بقايا شعرك
على كتفي
و يتناثر ظلانا القريبان
و وجهانا المتشابهان كقطرتي ماء
من بحيرة
يسبح فيها بجع واثق
يدي و يدك
طيفان يتقاسمان الزرقة و الزوارق
و ينامان
ثم يرحلان فجأة
بين الجدران و الظل الهادىء .

ص : 39 – 40

في شعرية التفاصيل يتقمص الشاعر دور الرسام لصوغ [ ديكور شعري ] على خلفية سند منشد إلى سيمياءات الأهواء و الرغبة . ذلك أن مجمل قصائد الديوان موثوقة الصلة بمتخيل رغبوي حاشد بطقس شهوي جسداني ، تتغلغل محسوساته في صلب التخييل الشعري أبنيته و رمزياته .
في هذا السياق بالذات يمكن للقارىء الفطن الإصغاء إلى ذلك النسغ المتجذر لتصادي فعل الكتابة مع الذاكرة الشعرية الكونية . محمد عزيز الحصيني هو شاعر عميق القراءة للشعر العالمي يتفاعل بإنصات سحري لترحلات المعنى في خرائطية النص الكوني ، متبصر لالتماعات و إرباكات النشيد البودليري / كواحد من أبرز الأصوات الشعرية الذي له حفريات في طرس الجسد و طقفس الرغبة جعل منهما منعقدا استطيقيا لتجربته الشعرية .
تؤكد هيلين سكسو في تجربتها الأدبية و الفكرية على أن حلول الشبقي في جسد الكتابة هو سعي لموضعة اللغة و المعنى خارج قيود الثنائيات الزوجية التي تجعل « حالة انفصامية « 4 ، و هو ذاته التفكيك الشعري الذي تنطوي عليه الرمزية الشذرية لادمونذ جابس حين يصاهر بين فعل الكتابة و طقس الرغبة .
حين نذهب إلى المسودة الرابعة من الديوان الحاملة لعنوان « يا عرافة المياه « مع عنوان فرعي [ طرديات إيروتيكية ] سريعا نتبصر من خلال أقنعة المجاز و مراياه أنه ما من ماء يسري تحت لسان الرغبة سوى ماء الكتابة التي تعمل على إخصاب الفكر و الوجود من طقوس وأوحام و استيهامات طقس الرغبة:
بعينين
مدججتين بالطير
والأسلحة
ترتمين على عريي
كالنهر.

– من أنت أيها الأعمى ؟
تقولين لي
حين أشم وداعة فخديك
وأخر إلى هاويتي
التي تنمو ببطء
بين الأحراش .

ص 116 – 117

تجترح اللذة من نزف الألم ، و من عمق هذا الاجتراح تشتغل لغة الرغبة شعريا على محو المشهد الفصامي ، مناهضة سلطة اللوغوس الحامل لمبدإ الإسم بمحيال الرغبة ، حين يستعيد الجسد نسياناته ، غيابه و صمته ، و كلمته المطمورة في إلغاءات اللاوعي و إرجاءات الحلم و الاستيهام . ذلك هو المعنى الذي تبطنه الدلالات الاستعارية في السياق الشعري السابق ، الذي يعيد الكتابة إلى شبق عريها الأول ، و من خلال رمزية العماء يعيد اللغة إلى « حلمها الأصلي « بتعبير يونغ 5 ، إلى دائرة الكمون البدئي و منوال النمط العلوي الذي يختزن قوة مواجهة سلطة الموت .
في الجسد الشعري المنكتب ك [ رغبة ] تتحول الكلمة الشعرية إلى علامة سيميائية تترحل في محيط إشاري رمزيات الارتقاء و التسامي . كل نزول إلى أعماق الجسد هو المعادل الرمزي للخروج من رحمه من وجع صرخة الميلاد . و في هذا المتخيل الرغبوي الطقسي نلاحظ أن رمزيات السقوط و الأفول و منحدرات الهاويات الوجودية تغدو في النهاية نزولا مدارجيا إلى عمق اليانيع التي تترقرق بمياء أنطولوجية جديدة ، كما نلاحظ الصورة الشعرية و سجلاتها الرمزية تحتشد فيها بتقالب المحتجب الليلي و الإشراق النهاري و تبادلهما الأدواركما تشهد بذلك دلالات الرمز لدى جلبير دوران في كتابة « البنيات الأنتروبولوجية للمتخيل « 6 .
في المسودة الشعرية التي بعنوان « أجراس معلقة في سحابة « تنكتب النصوص مثل لوحات سوريالية كأنها خارجة للتو من أحد أعمال سالفادور دالي أو من البصمة السوريالية الرمزية لماغريت. تتساوق قراءة اللغة الشعرية للديوان بضورة مصاحبتها لإحاطة بالمنجز التشكيلي العالمي، و خصوصا تلك الرؤى الجمالية التي شهدت في الغرب و في الشرق أشكال الحوار الإبداعي بين جماليات الشعر و جماليات التشكيل. ففي هذه اللغة التخييلية يتمظهر وعي إبداعي يمكن أن نسميه مجازيا كتابة الشعر بالعين .حيث الجملة الشعرية تصاهر بين الشعري و المرئي و تزج بهما في سيرورة بناء المعنى الشعري بذائقة تتحرر من الوصف النثري الجاهز .

نضرب مثالا لذلك بنص « تفاح و صولجان «و هو عنوان سوريالي في الظاهر لكأنه يلتقط رسومه الجمالية من عمق بصرية انطباعية لأنه عنوان أشبه بمجاز طبيعة ميتة . و هو عنوان بأصل بلاغي كنائي قائم على جو المفارقة بين نظامين : الرغبة – تفاح الخطيئة و الصولجان – رمز السلطة .

ليث لي شباكا
من ذهب
لأصيد بيوض الحيتان
أعلقها على الجدران
لاستقبال العائدين من حروب أمس
من فرط ما أحببتك
ظلت المجرات تبكي
تحت وسادتي
كل ليلة
بينما الأشباح ترقص في سحابة
بين التفاح و الصولجان .

ص : 13 – 14

بلاغة المجاز مفرطة في الكثافة و الانزياحات الاستعارية حيث البعد التجريدي للغة يأخذ شكل [ كولاج سوريالي ] لنثرية تشكيلية بصرية توهم بتشخيصية لا عقلانية لأن الإسنادات الاستعارية ذات طبيعة مفارقة .
هذا من حيث ظاهر النص ، لكن بإمكان القارىء استدعاء [ نص غائب ] و هو نص الأوديسية لهوميروس لأن هناك مضاعفة لصوت الأنا الشعري بالصوت الهوميري و رمزية البطل عوليس و إيحات مناخات الرحلة الأوديسية و و حروب الموج و الملح و الدم و الغبار التي تطاحنت فيها متخيلات نص الرغبة / الأيطال الملحميون و نص السلطة / صوت الآلهة في الأساطير اليونانية . 8

يستنتج مما سبق أن هذا العمل الشعري هو موئل تقاطع سجلات تعبيرية متعددة، عمل شعري ينسج هويته الخاصة من تشابكات مخيال ينفتح على علائقيات الشعري والبصري، الشعري و الرغبوي، التخييل من داخل شعرية التفاصيل. وهو منحى في الكتابة الشعرية متحرر من النمطية المعيارية لأي جاهز قبلي، يستكشف مجاز كينونته في انفتاح الصوت الشعري على الذاكرة الشعرية الكونية .


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 06/12/2024