«خذوا المناصب والمكاسب وخلوا لي الوطن»
«محمد منصور: الرجل ذو القبرين»، الصادر حديثا عن المركز الثقافي للكتاب ببيروت للكاتب والصحفي لحسن العسبي، كتاب لا يمكن أن ندرجه إلا ضمن كتابة الاعتراف والوفاء لتلك الطينة النادرة من رجالات المغرب الذين صنعوا تاريخه وذاكرته، وهو بهذا يحافظ لهذه الذاكرة على طزاجتها وطرواتها ، وامتدادها ضمن وعي الأجيال الجديدة التي ، للأسف، تجهل الكثير عن تاريخ بلادها ما يجعل علاقتها بالتاريخ كهوية بانية للانتماء، علاقة هشة ومضببة.
يقودنا لحسن العسبي في هذا العمل الذي تقاطع فيه الذاتي والجمعي، حيث من خلال شخصية المناضل محمد منصور، لنقرأ، بالتوازي، مرحلة تاريخية مهمة من تاريخ مغرب بداية القرن العشرين، مغرب وضمنه مجتمع، بكل التحولات السوسيو سياسية التي راكمها منذ الحماية إلى تاريخ اعتزال المناضل محمد منصور العمل السياسي بداية الألفية الثالثة.
يشكل العنوان عتبة أولى لقراءة أي عمل، لكن عنوان الكتاب الذي تروم هذه القراءة الإحاطة ببعض مضامينه، عنوان مفارق يحمل من الغرابة والدهشة ما قد لا يتبدد إلا للمُلّم بقصة هذا المقاوم/ الهرَم الذي حكم عليه بثلاثة إعدامات ومؤبدين في نفس الوقت، كما تعرض للتعذيب والاعتقال قبل وبعد الاستقلال في سبيل إعلاء قيم الكرامة والمواطنة وبناء دولة المؤسسات، وهو الغموض الذي يغري بقراءة العمل لفك طلاسم العنوان، أو قراءة شاهدة القبرين.
ولكي نبدد هذا الغموض، نشير إلى أن هذه الأحكام الثلاثة بالإعدام من طرف المحكمة العسكرية الفرنسية بالدار البيضاء والصادرة سنة 1954، قضت بحفر قبر له بسجن العادر ضواحي الجديدة في انتظار تنفيذ حكم الإعدام، وهو الحكم الذي لم ينفذ حتى تم تهريبه بعد الاستقلال بشهور من طرف صديقه بونعيلات رفقة كوماندو من المقاومين من بناية «الحجر الصحي» بعين الشق التي رُحّل إليها من الجديدة دون أن يطلق سراحه مثل باقي المقاومين المعتقلين بسجون القنيطرة والبيضاء والجديدة، ليظل هذا القبر مفتوحا حتى سنة 1997 وعليه سلاسل حديدية، قبل أن يوارى الراحل الثرى بمقبرة الشهداء في 2015 بقبره الثاني.
ورغم محاولة الكاتب الإحاطة بتفاصيل من سيرة هذا المناضل، إلا أنه يقر بصعوبة القبض على الكثير منها:أولا، لتعفف الرجل عن البوح بالكثير من التفاصيل الدقيقة عن أدواره الوطنية بما عرف عنه من نكران ذات، وثانيا لطابع السرية الذي حكم عمله النضالي ضد الاستعمار وحتى في فترة الاستقلال.
إلا أن الميزة التي لا يمكن أن يقفز عليها كل متمعن في سيرة هذا الرجل، تظل صفة الوفاء والإخلاص للفكرة الوطنية، ولنظافة اليد وصلابة المواقف المبدئية التي لم تنل منها المناصب والمسؤوليات التي تقلدها بعد الاستقلال (عامل على إقليم الحسيمة، رئيس أول غرفة للتجارة والصناعة بالدار البيضاء، برلماني لأربع ولايات).
درب السلطان:
وعي جديد يتشكل
لم يكن «درب السلطان» فترة انتقالية في المكان فقط بالنسبة للمقاوم محمد منصور الذي استقر به مع والدته بعد وفاة الوالد، قادمين من أولاد حريز، لقد شكل هذا الحي نافذة مشرعة على الآخر المختلف(الإيطالي، الإسباني، اليهودي، الفرنسي..)، وأيضا على المثقف والفنان والحرفي والسياسي…علاقات مكنته من اختراق هذا الفضاء المديني الكبير (الدار البيضاء) الذي كان وقتها – في الثلاثينات – بصدد تَخَلُّق جديد يولد من رحم الأسوار القديمة نحو هندسة وهيكلة عمرانية جديدة، لكن دائما مع وجود تراتبية اجتماعية، التقط محمد منصور، الشاب حينها، ملامحها وطبقاتها لتشكل بداية تفتق وعيه الجديد، وانخراطه من ثمة، في صفوف الحركة الوطنية، ولقائه بصديق عمره المقاوم سعيد بونعيلات الذي انخرط رفقته ضمن تيار «الفكرة الوطنية الإصلاحية» قبل أن ينخرطا في حزب الاستقلال (ص31) رفقة النخبة الجديدة التي استقرت بالدار البيضاء ، مكسرة سيطرة نخبة المدن العتيقة على دواليب التسيير داخل الحزب ( مراكش، فاس، تطوان، الرباط) والتي بلورت مشروع المطالب الإصلاحية لكتلة العمل الوطني في الثلاثينات.
في هذه الأجواء، سيلتقي محمد منصور خيرة المناضلين المغاربة: الشهيد المهدي بنبركة، الراحل عبد الرحمن اليوسفي، عبد اللطيف بنجلون.. لتستمر رفقة السلاح والنضال والحياة.
الحداثي المنتصر للعقل
يتطرق الكتاب إلى مسألة بغاية الأهمية في سياق التحولات التي شهدها المجتمع المغربي آنذاك، والمتمثلة في أن الوعي السياسي الذي تشكل عند محمد منصور لم يكن لينفصل عن إدراك لتحولات العميقة التي مست بنى المجتمع، تحتيا وفوقيا، ومست بالتالي أدوار الفئات داخله، خاصة بعد احتكاكه بالثقافة الأوربية وما تحبل به من قيم الحداثة وأولها الانتصار للحرية والعقل، وهذا ما سيلمسه قارئ العمل من خلال العلاقة التي ربطته بزوجته فريدة تيريزا، الإيطالية التي أسلمت قبل لقائها به، علاقة انبت على الاحترام والإيمان بمبادئ التكافؤ والمساواة.
هذه العلاقة هي ترجمان حقيقي وبليغ لوعي جديد بدأ بالتشكل، مغربيا، منتصف الأربعينات، وميز العديد من علائق رجال المقاومة والنضال بزوجاتهم أنذاك… وعي انتصر لفلسفة الإنسان المديني وعلاقته بذاته وبالآخر، واشتباكه مع أسئلة الحداثة بمختلف مستوياتها، اجتماعيا، فكريا واقتصاديا.
يعتبر العسبي أن محمد منصور» من خلال تفاصيل حياته يقدم لنا مادة غنية للتحليل حول معنى التحول الجيلي الذي وقع بالمغرب خلال النصف الأول من القرن العشرين «ص 72.
هذا التحول ستكون قاطرته هي «المقاومة» من أجل حياة كريمة يقودها وعي سياسي مؤطر بخلفية اجتماعية ،وطامح في نهاية المطاف إلى تحقيق مشروعين: تحرير الأرض وتحرير الإنسان المغربي.
يسهب الكتاب في تفاصيل الانتماء السياسي لمحمد منصور وحركيته الدؤوبة في جل لجان حزب الاستقلال ثم انخراطه في خلايا جيش التحرير، وفي صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، في الاتحاد الاشتراكي، متطرقا إلى علاقاته بالعديد من رموز المقاومة المغربية: العربي الشتوكي، عبد الرحمان اليوسفي، الشهيد محمد الزرقطوني، عبد الله الصنهاجي، الفقيه البصري و.. ثم ينتقل إلى سرد تفاصيل العمليات الفدائية التي أشرف على إعدادها أو شارك فيها ( مثل عملية مارشي سانترال الشهيرة، عملية القطار السريع الدار البيضاء-الجزائر العاصمة..) ليخلص إلى أنه « لا يمكن فهم الخلفية المؤطرة لجيل محمد منصور، في مدينة عمالية مثل الدار البيضاء، بدون استحضار معطى هذه التطورات المغربية المخصوصة، بل إن سيرة الرجل، حتى وفاته رحمه الله سنة 2015، تقدم نموذجا مثاليا لمعنى تلك الصيرورة المغربية، سياسيا واجتماعيا وقيميا، التي ولدت في الأربعينات، بأجنحتها الثلاثة (السياسية، المقاومة، النقابية) وبقي فعلها مؤثرا في طريق حفر «ماء السياسة المغربي» لطريقه في تربة واقع المغاربة لعقود، لا تزال آثار خرائطه متواصلة إلى اليوم « ص115.
خذوا المناصب والمكاسب وخلوا لي الوطن
لم تنل المناصب التي تقلدها محمد منصور بعد الاستقلال، من صلابته المبدئية وسلامة طويته، فحتى وهو عضو بجيش التحرير ما بين 1956 و 1957، حين اقترح عليه ولي العهد آنذاك مولاي الحسن تحمل مسؤولية إدارية قيادية بالدولة كان جوابه الرفض، وأن دوره انتهى باستقلال المغرب. وعند استدعائه للقصر الملكي من طرف الملك محمد الخامس لتنصيبه عاملا على الحسيمة كان وقع المفاجأة صادما له لأن كان يرفض أية مسؤولية رسمية، بل قبل بها على مضض لكن أحداث الريف لسنة 1958 التي اندلعت بسبب تهميش الكفاءات من أبناء المنطقة من مناصب المغرب الجديد، والتي قوبلت برد دموي عنيف من طرف الجنرال أوفقير جعلته يرفض الاستمرار في منصبه ليعود بعائلته إلى الدار البيضاء، ثم قرار رفضه العودة إلى البرلمان بعد اعتقال قيادة الحزب والتعويض المادي عن مهامه كبرلمان وتلك إشارة لا تصدر إلا عن رجل جعل النزاهة ديدنه والحق يعلو فوق كل اعتبار مادي.