مرض المئة عارض .. إعاقة خفية وحياة مضنية

مطالب بإدراجه ضمن لائحة الأمراض المزمنة والمكلفة والمفضية للعجز

 

يصادف تخليد اليوم العالمي للفيبروميالجيا اليوم العالمي للممرض، في الحقيقة ليس هناك أي صدفة في الأمر، لأنه احتفاء بشخص واحد وهي الممرضة مؤسسة التمريض الحديث فلورنس نايتينجيل التي أصيبت في عزّ شبابها بمرض الفيبروميالجيا وعاشت أكثر من خمسين سنة تقاوم الألم والتعب المزمن، مما جعل منها شخصية ملهمة لما قدمته للتمريض رغم معاناتها مع المرض. وعليه فليس من الغريب أن نجد عددا من المصابين بالفيبروميالجيا في صفوف الممرضين، وذلك راجع لظروف الاشتغال الموسومة بالضغط النفسي ولطبيعة العمل والتي تشكل أرضية خصبة لتفجير مجموعة من الأمراض.
يعتبر الفيبروميالجا أو الألم العضلي الليفي أو مرض المائة عرض «نظرا لكثرة أعراضه»، مرضا معترفا به من طرف منظمة الصحة العالمية كمرض روماتزمي منذ سنة 1992، وفي سنة 2006 أصبح مرضا قائما بذاته وأدرج في التصنيف الدولي للأمراض باسمه الخاص فيبروميالجيا. يصيب هذا الداء الفئة النشيطة من المجتمع، خاصة الأفراد المتراوحة أعمارهم مابين 30 و 40 سنة ويظهر عند النساء أكثر من الرجال، وتتعدد أعراضه وتتفاوت حدتها من مريض لآخر، بحيث يعتبر الألم المزمن والتعب المزمن أهم هاته الأعراض.
يتخذ الألم عدة أشكال من وخز، تنميل، حكة، إحساس حارق في مناطق من الجلد، وقد يأتي تلقائيا وبشكل مفاجئ أو كاستجابة مبالغ فيها لتنبيه معين، كما يمكن أن ينجم عن تنبيه غير مؤلم بالعادة كالضغط الخفيف على منطقة معينة أو القيام بحركة بسيطة. عموما يعاني المرضى من حساسية مفرطة للألم، الذي ينتشر بسائر الجسم بالعضلات والعظام والمفاصل بل حتى الأنسجة الرقيقة، وقد يتم يطال مناطق معينة من الجسم كالظهر، الكتفين، الرقبة، وأعلى الفخذين. ويعتبر التعب المستمر من أعراض الفيبروميالجيا المعيقة للحياة اليومية، حيث يستيقظ المريض متعبا ويستمر كذلك طيلة اليوم، تعب لا يختفي بالراحة ويضاعف بأقل مجهود جسدي أو نفسي. ويصاحب هذه الأعراض اضطراب في بعض الوظائف المعرفية العليا أو ما يعرف بالضباب الليفي، والذي يتمظهر بضعف في التركيز والذاكرة و اضطراب في الانتباه.
ويرتبط هذا المرض باضطرابات أخرى كالصداع النصفي، متلازمة التعب المزمن، متلازمة القولون العصبي، متلازمة ما قبل الحيض، ألم الصدر، متلازمة المثانة المؤلمة، اضطراب المفصل الصدغي الفكي … وتتجاوز معاناة مريض الفيبروميالجيا الجسد لتظهراضطرابات نفسية مصاحبة كالأرق واضطرابات النوم، قلق، اكتئاب، توتر، اضطراب المزاج، عزلة ، فتظهر عليه علامات الهشاشة النفسية من حساسية مفرطة سرعة الاستثارة سوء تقدير الذات صعوبة التكيف و التقبل …. كل هذا يجعل من الفيبروميالجا إعاقة أكثر منها مرض، إعاقة خفية، بالفعل هناك عجز ومعاناة تحدان من قدرة الفرد على القيام بوظائفه المعتادة، و تقللان من جودة حياته اليومية وتعرقلان تعاملاته وعلاقاته.
إن أهم ما يميز هذا المرض هو صعوبة وطول مدة التشخيص نظرا لغياب فحوصات مخبرية أو أشعة أو أي إجراء أخر يثبت المرض. لهذا يعتمد الطبيب المعالج على التشخيص الفارقي حيث يقوم بإقصاء أمراض ذات أعراض مماثلة للفيبروميالجيا، منها أمراض روماتيزمية، عصبية، نفسية، مناعاتية، أمراض الجهاز الهضمي، أمراض التهابية…، وفي حالة النتائج السلبية يقوم الطبيب بتشخيص الحالة من خلال تحديد نقط الإيلام ومعرفة تاريخ الأعراض ( معاناته مع الألم لمدة ثلاثة أشهر على الأقل في أربعة مواقع من الجسم). خلال مرحلة التشخيص، والتي قد تصل إلى سنوات، يعيش المريض حالة من التيه والضياع، ومما يضاعف معاناته الجسدية والنفسية ضغوطات المحيط حيث يكون مطالبا بتفسير و تعليل مرضه في وقت هو نفسه لا يدري ما به.
ترجع صعوبة التشخيص بالأساس إلى عدم توفر الأسباب المفجرة للمرض، فلحد الساعة تجهل أسباب الفيبروميالجيا، إذ أجريت دراسات و بحوث على حالات مرضية لكن كل النتائج المقدمة تبقى فرضيات مفسرة للمرض، منها ما يفسر بتغير استجابة الدماغ والحبل الشوكي بسبب تحفيز العصب المتكررحيث يؤدي الارتفاع غير الطبيعي في كميات جزيئات إشارات الألم في الدماغ إلى هذا التحول، بحيث يبدو أن مستقبلات الألم في الدماغ تنشئ نوعا من ذاكرة الألم وتصبح حساسة، مما يعني أنها قد تبالغ في رد فعلها تجاه الإشارات المؤلمة وغير المؤلمة. و منها ما يرجع أسباب المرض إلى خلل في المناعة، اضراب في الجهاز الهضمي، أو التهابات ساهمت في تطوير المرض، وأخرى تعتبر الفيبروميالجيا ناتجة عن إصابات جسدية كحادث سير، عملية جراحية، ولادة، أو عن اضطرابات نفسية حيث تدرجها ضمن الأمراض النفسجسمية. و من الشائع عند العامة بل حتى عند بعض مهنيي الصحة أن المريض يتوهم الألم « الألم في رأسك»، والحقيقة أن الألم موجود، فحسب الجمعية الدولية لدراسة للألم « الألم هو تجربة حسية أو عاطفية غير مرغوب فيها مرتبطة بالتلف الفعلي أو المحتمل للأنسجة».
وإذا كان التشخيص صعب بغياب أسباب مفسرة للمرض فالعلاج أصعب، إذ لا علاج لمرض الفيبروميالجيا، ودوامة البحث عن التشخيص هي نفسها دوامة البحث عن علاج، حيث ينصب التركيز على تقليل الأعراض مع زيادة تحسين الصحة العامة، وفي غياب علاج فعال لجميع الأعراض تقترح علاجات لها مفعول تراكمي، حيث تختلف الوصفات الطبية باختلاف التخصصات الطبية وباختلاف المرضى، منها مضادات الألم التي تصل إلى المورفين و مخدر الكيتامين، مضادات الصرع، مضادات الإكتئاب، مضادات الإلتهاب، مرخيات العضلات، مكملات غذائية…. وتنضاف للعلاج الدوائي علاجات نفسية، علاج طبيعي، طب بديل، رياضة مناسبة … مع الحرص على الابتعاد عن الوضعيات المجهدة نفسيا و جسديا، والحماية من التغيرات المفاجئة للطقس ( حساسية مفرطة للبرودة والحرارة) تجنبا لتفاقم الوضع الصحي.
إن صعوبة التشخيص و صعوبة التكفل بالمرضى بالإضافة إلى عدم الاعتراف بالمرض مؤسساتيا و مجتمعيا مكلّف جدا للمريض نفسيا اجتماعيا واقتصاديا، فكم من مريض فقد وظيفته وكم من أسرة انهارت نتيجة عدم قدرة المريض على القيام بأعماله المهنية وواجباته الأسرية، ناهيك عن المعاناة النفسية جراء وصم مريض الفيبروميالجيا بالكسول، المتهاون، عديم الفائدة، وكذا سوء تقدير مجهوده (إن كان في الظاهر مجهود بسيط فقط استنزف طاقة يومه). حيث تنضاف معاناة المريض النفسية الى معاناته الجسدية فيعيش داخل حلقة مفرغة، المعاناة النفسية تؤجج الآلام الجسدية والعكس صحيح، وهذا ما يفسر ميل المريض إلى العزلة كي لا يجد نفسه مضطرا الى الدفاع عن ألم وعجز لا يحسه إلا هو.
لا يتعاطف ولا يحس بمريض الفيبروميالجيا إلا شخص مثله يتقاسم معه إعاقة خفية ألقت بثقلها على حياته الشخصية والمهنية، ومن هنا جاءت فكرة تأسيس الجمعية المغربية للفيبروميالجيا التي سهر على تأسيسها مرضى وعدد من الفاعلين من مختلف المجالات وذلك يوم 14 دجنبر سنة 2014، التي عمل على محاولة فكّ العزلة والتواصل مع المصابين بالمرض وتمكينهم من المعرفة اللازمة للتعامل معه، وتحسيسهم وذويهم بالمرض وكيفية التعايش معه وطرق التخفيف من تبعاته، وتيسير التواصل بين الفرق الطبية المعالجة والمرضى وعائلاتهم. كما تعمل الجمعية على التحسيس بصعوبة المرض وأثره على الأسرة والمحيط، والعمل على التعبئة وكذا دعوة الجهات المسؤولة لتوفير تكفل طبي ملائم للفئة المصابة.. وفي إطار الترافع من أجل الاعتراف بالفيبروميالجيا كمرض مزمن، تمت مراسلة الوزارة الوصية وكل الجهات المعنية من أجل إدراج المرض ضمن لائحة الأمراض المزمنة.
واليوم، هو مناسبة لتجديد المطالبة بإدراج المرض ضمن الأمراض المزمنة والمكلفة وضمن الأمراض المفضية للعجز على غرار مجموعة من الدول، ولدعوة للجهات الوصية للاشتغال يدا في يد مع الجمعية للتوعية والتحسيس بالمرض بغية فهم وتدبير جيد له، وذلك لن يتم إلا من خلال تشجيع البحث العلمي حول الفيبروميالجيا وعلاج الألم المزمن، وكذا تكوين الأطباء ومهنيي الصحة عموما لفهم جيد لهذا المرض من أجل تشخيص مبكر وتكفل علاجي مناسب، وعبر خلق مراكز خاصة بالألم لمرضى الفيبروميالجيا داخل المستشفيات.
وكما جاء في بداية المقال فقصة فلورنس نايتينجيل أو» سيدة المصباح»، تعتبر قصة ملهمة وباعثة على الأمل. واليوم هو مناسبة لإيقاد مصباح الأمل والعمل. الأمل في حياة ذات جودة عالية لمرض ىالفيبروميالجيا، والعمل على ذلك عبر التشخيص والتكفل المبكرين و تكييف المحيط مع احتياجات وإمكانيات ومؤهلات المريض ليكون فاعلا في محيطه العائلي والمهني. إن الأصل في الإنسان هو الإختلاف و التفرد، لذا فالحل في التكامل وليس التشابه، في الإنصاف أكثر من المساواة.

* ممرضة تخدير وإنعاش


الكاتب : القطيبي مريم*

  

بتاريخ : 15/05/2024