مروكية حارة تعري أعطاب الواقع

ليلة عيد الأضحى، شاهدت فيلم “مروكية حارة” من تأليف وإخراج هشام العسري وبطولة فدوى طالب، وهو عبارة عن قصة أو بالأحرى حوار البطلة مع الكاميرا/المتفرج، قبل البدء في المشاهدة نبهني ابني إلى ضرورة نقص الصوت وإغلاق الباب على بسبب وجود كلام “خايب” وقلة العرض في الفيلم، مؤكدا كلامه بتذكيري “راك عارف هشام”، ابتسمت وقلت له “لا عليك، أعرفه جيدا، مبدع عنيد متمرد لا يخضع للتواطؤات الخبيثة وتعامله مع الأحداث والشخوص والكاميرا يروق لي، الإبداع الحق لا يُمَكْيِج الواقع بالأكاذيب والادعاءات الحقيرة !”
ينطلق الفيلم بتذكير المتفرج بأحداث الخميس الأسود وتاريخ أخطر أزمة اقتصادية أرغمت الكثيرين والكثيرات على فعل أي شيء بما فيها البيع والشراء في البشر واستغلال الانحرافات الممكنة للحصول على بعض المال، وعلى هذا الأساس، تتحرك البطلة المسماة خديجة داخل البيت والهاربة خارجه عند معطلي الدرب وناسه، بالطبع هي بطلة مع وقف التنفيذ، في فضاء هامشي يجسد أعلى درجات الفقر والتهميش، وبالنسبة للذي يعرف جيدا متاهات البيضاء الحبيبة هو حي لوسيور المخبأ خلف الأسوار بين حي كوزيمار وحي السككيين، هناك.. تشخيص صادق لكل أحياء الهوامش المنبوذة حيث لا وجود سوى للتطاحن الرخيص والاقتتال الغبي والمخدرات تحت عيون نماذج من الأمن الوطني منشغلة ظاهريا برقابة مجانية.
ينطلق الفيلم باستيقاظ الهاربة من النوم بتعبير امتعاض من الواقع المعاش يصير لازمة تتكرر طيلة المساحة الزمنية في معظم الظروف والأمكنة، “تفو” على بلاد وعلى عائلة وعلى شغل وعلى كل شيء، بعد اليقظة نتعرف على عائلة تزدحم في حلقة تفترس “قسرية” دون توقف، الأب الشيخ والزوجة والجدة والأخ يتدافعون للفوز بلقمة كسكس وانتزاعها من الآخر بعنف لإشباع جوع يبدو أنه لا يوصف، بالخارج كهل كلوشار شمكار يتوعد ناس الدرب بسلاحه الأبيض مستثنيا الهاربة الموجهة للعمل، وفي طريق الابتعاد عن سور الحي البشع بأوساخه وطلاء واجهاته وأقواسه بصباغة مشوهة، تعبر زنقة مهجورة بمحاذاة سور مرعب يحرس خواء رهيبا يختفي بظهور جماعة من الشباب المعطلين يرتدون ملابس بألوان فاضحة ذات إيحاءات إفريقية جامايكية ويقتعدون مكانا سرياليا يعرضون فيه أعاجيب وسلعا للبيع بتخفيض مكتوب على يافطة قد تكون مسروقة من محل بعيد ووسط مغاير.
ويمضي مسار السرد الخطي لأحداث الفيلم في عوالم ومحطات يحكمها التذمر من حالات الفشل وسلسلة خيبات لا مفر منها في وجوه من ولدوا بدروب فقيرة لا وجود لها بخريطة أحياء تحترم آدمية الإنسان وتصون كرامته.. هنا تواصل الهاربة بوحها المحكوم بتفاصيل مأساة حياة لا أمل فيها بالتغيير، وتفجر غضبها المبرر اتجاه واقع بئيس لا يوفر حتى مخرج الفيلم نفسه.
يتواصل صوت الفضح والإدانة بتعرية أعطاب علاقات اجتماعية غير سليمة، أمراض تتمثل في تناقضات صارخة يضيع معها الإحساس بهوية اليوم المعاش، متوالية من الخيبات لا نهاية لها، علل وأمراض لا تستطيع البطلة الشفاء منها، طرد من العمل، أسرة مفككة تقبل بشغل البنت وترغمها على الخروج بحثا عن عمل لا تهم طبيعته الحلال أو الحرام فالأمر سيان، أم جاهلة تعنف البنت العاملة وتحمي الولد الذكر العاطل، وبطالة مقنعة غارقة في المخدرات وهلوسات خدر يفقد القدرة على ضبط الزمان وبين الحين والآخر يتضمن الحوار إشارات دائمة تتوجس من البوليس والمخبرين.
بالتأكيد، بوح الهاربة وحكيها الموسوم بالقسوة ومرارة الروتين اليومي يتمظهر في الإدانة المقدمة في قالب كوميديا سوداء تضغط على مكامن الداء، تسخر من التوافقات المجتمعية البليدة وانحرافها عن التعامل العقلاني الفعال مع الإبداع الفني السينمائي تمثيلا لا حصرا ،حيث تصير قاعة السينما مكانا للهروب من الرقابة وفضاء لإشباع جوع جنسي بسلوكات يحكمها الكبت بعيدا عن الاهتمام بالمنتوج الفني المعروض.
مع مروكية حارة ،ظل المخرج هشام العسري وفيا لأسلوبه في الإخراج، يؤثث فضاء شخوصه بأشياء عادية مهملة تتحرك في أمكنة واقعية لها خاصية الخواء الرمزي المرعب بدلالاته العجائبية، تعطيها حركة الكاميرا المنفعلة والمتوترة بعدا غرائبيا يسمح بتأويلات كثيرة تتجمع كلها في التقاط الواقعي المثير للتساؤل والاستنكار، لتصير الكاميرا عينا ماكرة تخضع لرؤية معينة للعالم ووسيلة غير محايدة بتعاملها مع ما يتحرك أمامها بذكاء يفضح ولا يكذب، يدين ولا يهادن، يستفز المتفرج ولا يدغدغ ذائقة المتلقي الكسلان، والحصيلة عمل فني جاد يحتاج لقراءات متعددة.


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 21/06/2024