مساهمة الأزمات المائية في الفوارق الإجتماعية بمغرب القرنين 17 و 18

إن سبر أغوار الإسطوغرافيا التاريخية واستنطاق متونها يؤكد أن الأزمات المائية الكبرى لطالما تركت نتوءات واضحة على البنيات الإجتماعية، وذلك بفعل ما كان يتمخض عنها من نزيف ديمغرافي، يهم في الغالب الأعم الفئات الاجتماعية البسيطة والمُهَمشة، التي تفتقد آليات ووسائل مقاومة هذه الكوارث فتتسع دائرة الفوارق الاجتماعية، وتزيد بذلك ثروة الأغنياء وأهل الحل والعقد .
وفي بعض الحالات يقع أن تتغير خريطة توزيع الثروة في البلاد، فيحدث العكس تماما، حيث تتسلق بعض شرائح المجتمع المتوسطة وحتى الدنيا سلم الهرم الاجتماعي عن طريق الترامي على ممتلكات صرعى هذه الأزمات الديمغرافية، أو بانتقال الأصول عن طريق الوراثة ؛ وذلك عندما يصعب التحكم في تداعيات هذه الجوائح السلبية على الإنسان والمجال، بالتالي عدم تمييزها ومفاضلتها بين شريحة أو أخرى بغض النظر عن خلفيتها الاجتماعية.

مساهمة الجوائح المائية في مزيد من الفوارق الاجتماعية

لقد بات من المعلوم أن الأزمات الديمغرافية الناجمة عن الجوائح المائية كانت تسفر عن إدخال تعديلات جوهرية في البنية المجتمعية؛ فإذا كان المستوى السوسيو اقتصادي متفاوتا بين الأفراد، وحيث أن الشرائح الكادحة كانت أكبر مُتضرر من ظروف الأزمة نظرا لهشاشة وسائل مقاومة الجوع، فإن طبقة الأغنياء كانت في معظم الحالات أكثر استفادة من الظروف، فيسارع أفرادها إلى مراكمة الثروة. وبالتالي فرز جديد لمراكز النفوذ، وتزكية واقع اجتماعي قائم على التعارض والصراع، مما يزيد في توسيع هوة الفوارق على الصعيد الاجتماعي، خاصة وأن هذه النكبات كانت تخلق أمام الأثرياء فرصا سانحة لاستغلال الفئات الكادحة في أسوأ المشاهد كما حدث أثناء قحط سنة 1680 م، فبينما كان الفئات الدنيا تعاني من الجوع، لم يشعر الأغنياء والمترفون «بصوت الجوع « لأن بيوتهم مملوءة بكل الطيبات، وخزائنهم مملوءة خاصة بالقطاني «مما لا عد له وأوعية مملوءة بالزيت والعسل والزبدة «( كتاب « التواريخ أو تاريخ فاس «، تأليف أخبار عائلة ابن دنان الغرناطية الفاسية، 2007، صص 58 – 59، ص 62 ).
وشكلت تجارة الحبوب وسيلة من وسائل احتجان مزيد من الموارد والثروة من طرف التجار الكبار والوجهاء وأصحاب النفوذ الذين يدورون في فلك البيت الحاكم، وذلك عن طريق احتكار المواد الاستهلاكية الأساسية والرفع من أسعارها، فماريا تير متلن Meteleen أشارت إلى قيام جيش عبيد البخاري باحتكار المواد الغذائية عندما أطل القحط برأسه سنة 1738، وتزايد تدخلاته في أمور الاقتصاد، ودعوته الناس إلى شراء القمح من مستودعاته ومخازنه، بــــ 60 مثقالا بعد أن كان سعره بمثقالين.
( تير متلن ماريا، «قصة الهولندية ماريا تير متلن Maria Ter Meetelen الأسيرة التي عاشت بمكناس العاصمة في النصف الأول من القرن 18 «، 1996، ص 64 ).
ويقدم لنا أحد الإخباريين تخريجا يفيدنا في معرفة بعض الوسطاء والمضاربين والمحتكرين للأقوات، فصاحب الإتحاف يذكر أنه «لما نزلت بالناس مسغبة عام خمسين [ 1150 هـ ] احترف رؤساء الرماة ببيع الزرع من البادية يمنعون المساكين من شرائه ويشترونه بما شاؤوا، ويبخسون الناس أشياءهم، وإذا باعوا يبيعونه بما شاؤوا، وكان من جملتهم رجل يقال له العماري». ( ابن زيدان عبد الرحمان، إتحاف أعلام الناس «، 2008، ص 480 ).
وبالمثل أشار أكنسوس محمد إلى أن المولى المستضيء العلوي لما خُلع من كرسي السلطة، انتقل للاستقرار بمدينة أصيلا عام 1748م، «فاجتمع عليه بعض سماسرة الفتن ممن كانوا معه، فأشاروا عليه بوسق الزرع… وكان يشتري الزرع وبدأ يبيعه، وعمرت المرسى ( أصيلا ) وجاء الأعراب بالزرع وهو يشتري ويخزنه حتى تجيء المراكب فيبيع بالربح الكبير». ( أكنسوس محمد، الجيش العرمرم الخماسي ، ج 1، ص 204 ).
إلى جانب الاحتكار والمضاربات، استغل الأثرياء إملاق المُعسرين بإغراقهم في الرهون المجحفة والقروض، مما يفرض على كل واحد منهم التخلي لدائنه عما بحوزته، من محلات أو أراض زراعية تتجاوز قيمة الديْن في بعض الحالات، حيث تزخر كتب الأدب الفقهي بإشارات تاريخية بخصوص هذا الشأن، فقد سُئِل « عمن باع ملكا في أنصاف باطل بإكراه في سنة المجاعة وكتبوا أنهم قبضوا الثمن معاينة ( عينا ) هل يلزم أم لا « ( السكتاني، « أجوبة سيدي عيسى السكتاني «، مخطوط الخزانة العامة بالرباط، رقم 2814 د، ص 27 ). كما سُئل « عن رجل أضره الجوع فلم يجد من يبيع له الزرع إلا بأكثر من ثمنه المعتاد ويبيع حقله في ذلك الثمن هل يلزمه البيع بذلك الثمن أو لا يلزمه وعليه فهل يلزمه عن الزرع أو عن ثمنه المعتاد». السكتاني ( ن.م، ص 143).
هذه الإشارات النوازلية توضح بأن الميسورين كانوا يبيعون الأقوات للمنكوبين بقيمة مرتفعة مُقابل الاستيلاء على أملاكهم بسعر زهيد، وهي صورة توضح استخدام أساليب غير شرعية، وتبْرُز في أَحطِّ الصور، عندما نعلم بأن هذه العملية كان يُصاحبها الإدلاء بشهادة الزور، وهو ما يفهم من قول أبي مهدي عيسى السكتاني، أنه «وقع لبعض الناس في سنين المجاعة الماضية على ما حكي بأنه تبايع رجلان ملكا بثمن معلوم المقدار ويشترط المشتري على البائع له بقبض أكثر مما قبض فيقبل البائع ..» ( م.س، ص 1 ).
وقد أثارت هذه السلوكيات حفيظة الفقهاء والعلماء، فقد نهى الفقيه أحمد بن سليمان الرسموكي بقوة عن شراء ورهن الأراضي والأصول، عقب الجفاف الذي مسَّ المغرب عام 1748 م، يقول الضعيف بخصوص هذا الشأن أنه «سنة إحدى وستين توفي سيدي أحمد بن سليمان الرسموكي مؤلف الفرائض في الميراث.. وكان ينهى ( كذا ) الناس عن اشتراء الأراضي والأصول ويقول لهم حتى يفوت عام واحد وستين ومائة وألف، وينهي عن رهنها أيضا «. ( الضعيف الرباطي، ص 154 ).

دور الأزمات المائية والأوبئة في تعديل سلم الهرم الإجتماعي

على النقيض مما أشرنا إليه سابقا، فإننا نسجل في بعض الحالات ملاحظة مهمة، تكمن في الدور الذي تقوم به الكوارث الديمغرافية في إحداث نوع من التعديل على مستوى التوازن الاجتماعي؛ وخاصة في فترات الطواعين والأوبئة، حين لا ينفع ادخار مال أو طعام، بما تُخلفه من وفيات مرتفعة كانت تُحدث تعديلا في خريطة التوازنات الاجتماعية، وكثيرا ما استفاد بعض الأفراد والفئات الدنيا من ظرفية الأزمة عن طريق الإرث؛ حيث تنتقل إليهم ملكية بعض الأراضي أو الأموال والامتيازات، بعد وفاة أصحابها نتيجة الوباء، كما هو الشأن بالنسبة لقحط ووباء عامي 1661 – 1663م، فقد» كان من سر قدر الله وصنعه ان سوى فيها بين الغني والفقير فكل من مات فيها [ فاس ] من الكبراء والاغنياء وهم عدد كبير انما مات جوعا… على أصح ما بلغنا اثني عشر ألفا وكلهم له وراث هناك في المدينة يرثه ..وذلك أن الله تبارك وتعالى يبعث على الاغنياء منهم داء في صدورهم وخلوقهم فلا يقدرون منه ان يسيغوا طعاما ولا شرابا حتى يموتوا جوعا.. قد صبغت والله الأحرار بلون العبيد. والعبيد بلون الأحرار «. ( العياشي عبد الله، « الإحياء والإنتعاش «، م.خ.ع. الرباط، رقم 1433د، صص 133 – 134 ).
وفي نفس المعنى أشار المختار السوسي إلى أن أحد أعيان سوس، محمد ابن عبد المؤمن الدياني، استحوذ على كثير من متاع أخواله الذين قضوا في وباء 1799 ( المعسول، ج 3، 1961، صص 117 – 118 ) ويضيف عن نفس الأزمة أن ثلاثة فروع – من بين أربعة – من أسرة سوسية مشهورة بالعلم والتدريس في الأطلس الصغير، وهي الأسرة الإيديكيلية، انقرضت من جراء نفس الطاعون، مما مكن الفرقة الباقية من إرث زاوية إيديكيل ومدرستها ( ن.م، ج 17، صص 6 – 7 ) بعدما كانت لا تلعب أي دور في إدارتهما، كما أنها أصبحت تستفيد من أعطيات وإنعامات المخزن، أي من الإمتيازات المعنوية والضريبية.
Rosenberger et Triki, « Famines et épidémies au Maroc aux XVIe siècles », p : 62.
هذا التراجع الديمغرافي يؤدي إلى نقص حاد في اليد العاملة، وزيادة في قيمتها، فيضطر حتى المُترفون إلى قضاء أشغالهم اليومية بأنفسهم، بما في ذلك المهام الشاقة، كالعمل في الأراضي الزراعية .وقد أشار الرحالة البريطاني جاكسون كريJackson Grey – زار المغرب في نهاية القرن 18م- إلى هذه المسألة بوضوح شديد، متحدثا عن المجاعات والأوبئة التي عرفتها هذه الحقبة، وما عرفته من «ارتفاع لثمن اليد العاملة بنسب هائلة إلى درجة حدوث مساواة غير مسبوقة بين الناس. كل ما يمكن أن يقوم به الفرد بنفسه يقوم به حتى الأغنياء الذين أًصبحوا يشتغلون بأيديهم، لأن عدد الفقراء الذي نجوا من الوباء صار قليلا ولا يكفي لخدمة الأغنياء «. Ben Ali Driss ,« Le Maroc Précapitaliste », 1983, p : 44.
يظهر بشكل واضح أن هذا التعديل الجلي الذي يمس المجتمع من خلال إعادة تنظيمه، خلق توزيعا جديدا للثروة صعد عبر مدارجه حتى المُعدمون، فــ»الوباء؛ بقضائه على فروع ثرية من بعض الأسر، يتيح ترقية اجتماعية مفاجئة لبعض الفقراء الذين يجهلون امتطاء الخيول الرائعة التي أصبحوا فجأة مالكين لها «.
Rosenberger Bernard, « Société, pouvoir et alimentation », 2001, p : 13 .
على أن هذه الملكيات كانت تتعرض للتفكك بعد العودة الدورية للكوارث الديمغرافية، وبالتالي الإبقاء على حالة الخصاص، والإجهاز على كل المحاولات الرامية إلى تحقيق تراكم دائم للثروة.
التوفيق أحمد،» المجتمع المغربي في القرن التاسع عشر (اينولتان 1850 – 1912)»، 2011 م، صص 84 – 85 .
ونافلة القول أن الجوائح المائية الكبرى التي عرفها المغرب خلال القرنين 17 و 18 م كانت إما سببا في إبراز مزيد من التفاوتات الاجتماعية زمن ندرة الأقوات، بين أقلية غنية أكثر استفادة تستغل فئات عريضة من الكادحين أكثر فاقة في أشد الصور انحطاطا.
وإما شكلت عاملا حاسما في إدخال نوع من التعديل على التوازن الاجتماعي، وخاصة زمن الأوبئة والطواعين، فيطفو على سطح المشهد فرز جديد للثروة، فيرتقي بعض الأفراد والجماعات في سلم الهرم الاجتماعي.

*أستاذ باحث في سلك الدكتواره / كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمراكش


الكاتب : سعيد إدحمان*

  

بتاريخ : 15/07/2022