ساهم نصر حامد أبو زيد في وضع واحد من أكثر المناهج الفكرية كفاءة وموضوعية لقراءة التراث الإسلامي، وقاد صراعا شرسا ضد المؤسسة الدينية التقليدية التي عملت على تكفيره..
ولعل هذه القراءات السريعة في بعض أعماله ترتقي إلى مصاف رد الجميل لمفكر شجاع حاول أن يقي الأجيال العربية من الامتثالية والتزييف في الوعي والثقافة.
يعتبر هذا الكتاب القشة التي قضمت ظهر البعير، فقد صبرت المؤسسة الدينية التقليدية على مضضٍ على د.أبو زيد وكتبه السابقة مثل الإمام الشافعي ومفهوم النص والاتجاه العقلي في التفسير وغيرها، ولكن، مع (نقد الخطاب الديني) بدأت هذه المؤسسة تفقد أعصابها بعد أن أحست بالماء قد صار في قمراتها، بل وإنها على وشك الغرق فتنادت عليه مكفّرة، متهمة، مطالبة رأسه.
والكتاب عبارة عن دراسة تقوم على تأمل فاحص، واع للتراث مع مناقشة كافة الاتجاهات الحديثة لتوجه الخطاب الديني، دون أن يتناسى المؤلف التركيز على (الاعتراف بالدين بصفته جوهرياً في أي مشروع للنهضة) ولكن بعد فهم سليم له وتأويله تأويلاً علمياً ينفي عنه ما علق به من خرافات، مستبقياً مضامينه العقلانية التي ستكون قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية.
والباحث في نقده للخطاب الديني المعاصر يفرق بين (الدين) و(الفكر الديني) الذي يراد له أن يكتسب من الدين قداسته و إطلاقه مع محاولة تعمية أنه ليس سوى اجتهادات بشرية لفهم النصوص الدينية وتأويلها.
وتتألف هذه الدراسة من مقدمة وثلاثة فصول:
في المقدمة يتحدث المؤلف عن موضوع الكتاب وهو ظاهرة المد الديني الإسلامي والاتجاهات أو المواقف الثلاثة إزاء هذه الظاهرة وأولها اتجاه المؤسسة الدينية المتمثلة في الأزهر وبعض رجال الدين المصنفين في صفوف (المعارضة الدينية)، والاتجاه الثاني هو اتجاه ما يسمى باليسار الإسلامي، والاتجاه الثالث هو الذي يمثله التنويرون أو العلمانيون.
ويرى المؤلف بأن لكل من هذه الاتجاهات طريقة خاصة في قراءة النصوص الدينية ما يقتضي طرح إشكاليات قراءة النصوص الدينية وانعكاس اختلاف القراءة على ما يدور الآن على الساحة من معارك شاملة على جميع المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ومنعاً للالتباس وتصيّد (الخبثاء) يحدد المؤلف منذ البداية (أن الدين يجب أن يكون عنصراً أساسياً في أي مشروع للنهضة) غير أن الخلاف يتركز حول المقصود من الدين: هل هو كما يطرح ويمارس بشكل ايدلوجي نفعي من جانب اليمين أو اليسار على حد سواء أو هو الدين بعد تحليله وفهمه وتأويله تأويلاً علمياً ينفي عنه ما علق به من خرافات ويستبقي ما فيه من قوة دافعة نحو التقدم والعدل والحرية، وهو- برأي أبو زيد- ما تمثله العلمانية في جوهرها التي هي ليست- كما يروج لها بعضهم من إنها الإلحاد الذي يفصل الدين عن الحياة والمجتمع.
ويدور الفصل الأول حول الخطاب الديني المعاصر: آلياته ومنطلقاته الفكرية، ومعه لا يجد أبو زيد اختلافا بين (المعتدلين) و (المتطرفين) في مجمل هذا الخطاب إذ أن كلا الجانبين يعتمد على عناصر أساسية غير قابلة للنقاش أهمها النص والحاكمية، كما أنهما يتطابقان من حيث الآليات التي يعتمد عليها كلاهما في طرح المفاهيم، ويجمل الباحث هذه الآليات في التوحيد بين الفكر والدين وإلغاء المسافة بين الذات والموضوع وتفسير الظواهر كلها بردها إلى مبدأ أول هو (الحاكمية) الإلهية بوصفها نقيضا لحاكمية البشر والاعتماد على سلطة السلف أو التراث وتحويل النصوص التراثية الثانوية إلى نصوص أولية لها من القداسة ما للنصوص الأصلية والحسم الفكري والقطعي وإهدار البعد التاريخي وتجاهله.
بعد ذلك يتناول المؤلف المنطلقات الفكرية للخطاب الديني وأهمها اثنان:
الأول مبدأ الحاكمية الذي قام عليه فكر أبي الأعلى المودودي وسيد قطب، وهو يعني تحكيم النص، أو بعبارة أصح تحكيم فهم خاص لفئة معينة للنص على حساب العقل ما ينتهي بالخطاب الديني إلى التعارض مع الإسلام حين يتعارض مع أهم أساسياته وهو العقل وإلى مد مفهوم (الجاهلية) في هذا الخطاب لكي يشمل كل اتجاهات التفكير العقلي في الثقافة الإسلامية وإلى رفض الخلاف والتعددية قديماً وحديثاً، ويترتب على طرح مفهوم الحاكمية على هذا النحو إهدار دور العقل ومصادرة الفكر على المستوى العلمي والثقافي وتكريس أشد الأنظمة الاجتماعية والسياسية رجعية وتخلقاً وحينئذ تتحول الحاكمية إلى غطاء ايديو لوجي للنظم السياسية والدكتاتورية والرجعية وإلى تحريم النقاش والمسائلة بحيث تضيع ثقة الإنسان في نفسه وفي قدراته فيركن إلى التوكل والسلبية.
المنطلق الثاني: (هو النص) وفي مناقشته لهذا المنطلق يبدأ المؤلف بتحديد مصطلح النص عند القدماء وتطور مفهومه حتى عصرنا الحاضر ليّبين أن الخطاب الديني حينما يرفع في وجه العقل والاجتهاد مبدأ (لا اجتهاد فيما فيه نص) إنما يقوم بعملية خداع ايديولوجي لأن ما كان يعنيه القدماء بالنص هو الواضح القاطع الذي لا يحتمل إلا معنى واحداً، والنص بهذا المفهوم في القرآن الكريم نادر، وأما سائر الآيات فهي تحتمل التأويل والاجتهاد، وأما في الحديث النبوي فهو أندر لأن معظم الأحاديث النبوية نقلت بمعانيها لا بألفاظها بالإضافة إلى ما دخل بعضها من تزييف.
في الفصل الثاني يتناول المؤلف موضوع التراث بين التأويل والتلوين، وهو دراسة نقدية لمشروع ما يسمى باليسار الإسلامي الذي يمثله اليوم د.حسن حنفي والمؤلف يمزج في هذا الفصل بين عرض آراء حسن حنفي ونقدها وذلك بعد تقديم يوضح فيه الفرق بين مفهوم التأويل والتكوين، ويعني بالتكوين القراءة المغرضة للنصوص على نحو تتخفى فيه التوجهات الأيدلوجية تحت شعار الموضوعية العلمية والحياد المعرفي.
ويستعرض المؤلف بعد ذلك عناصر الخطاب الديني لدى هذا التيار الإسلامي، الذي لم يظهر بوصفه اتجاهاً فكرياً إلا في أوائل الثمانينات، ويرى أن هذه العناصر تمثل بمجملها لوناً من التوفيقية بين السلفية الدينية والاتجاه العلماني ما أوقع هذا التيار (اليسار الإسلامي)- بنظر أبو زيد- في كثير من المتناقضات منها إهدار الدلالة التاريخية في قراءته للنص التراثي والنظرة إلى التراث على أنه (بناء شعوري) مع رفض منهج التحليل التاريخي، وبهذا يصبح ما طمح إليه اليسار الإسلامي من إعادة بناء التراث مجرد عملية إعادة طلاء وذلك بوضع لافتات جديدة للموضوعات الخمسة التي يتضمنها علم الكلام الإسلامي بحسب التصور الأشعري بحيث تتجاور المصطلحات القديمة والمفاهيم العصرية في علاقة لا تتجاوز المشابهة، مع وضوح الانحياز في كثير من الأحيان إلى الآراء الأشعرية المتسمة بالجمود على حساب الآراء الاعتزالية التي تمثل في نظر المؤلف سلطة العقل ومناهضة الاستبداد والدعوة إلى العدل.
في الفصل الثالث يتناول المؤلف (قراءة النصوص الدينية) في دراسة استكشافية لأنماط الدلالة وهو يبدأ بالتفرقة بين (الدين) و (الفكر الديني) الذي، وكما تم التنويه عنه قبل قليل، لا يكتسب من الدين قداسته، بل هو الاجتهادات البشرية لفهم النصوص الدينية وتأويلها، فهو بذلك ليس بمعزل عن القوانين العامة التي تحكم حركة الفكر البشري عموماً، ومن هنا يشرع في نقد عدد من الأحكام التي تصدرها بعض المؤسسات أو الجهات من منطلق خطاب ديني يفرض تفسيره للنصوص منحرفاً بها عن سياقها التاريخي ومضفياً عليها لباساً متافيزيقياً سرمدياً، هذا مع أن النصوص الدينية لا تنفك عن النظام اللغوي العام للثقافة التي ينتمي إليها وهي مرتبطة بواقعها اللغوي والثقافي، فالنص القرآني نص لغوي لا تمنع طبيعته الإلهية من دراسته وتحليله بمنهج بشري وإلا تحول إلى نص مستغلق على فهم الإنسان العادي، مقصد الوحي وغايته.
والمؤلف يتفق مع رأي المعتزلة في مسألة خلق القرآن وفي تأويلهم المجازي للآيات الموحية بالتجسيم مثل آيات العرش والكرسي وأمثالها، ففي هذا التأويل المجازي نفي للصورة الأسطورية وتأسيس لمفاهيم عقلية تسعى لواقع إنساني أفضل على عكس التأويلات الحرفية التي تكشف عن توجهات إيديولوجية تعادي التقدم الحضاري.
وبعد ضرب عدد من الأمثلة على التأويل الحرفي للآيات ينبه المؤلف إلى تجاهل الخطاب الديني المعاصر المرتبط- بالسلطة والمدافع عن ايديوجيتها- للحكمة أو المغزى الكامن في نصوص القرآن الكريم الخاصة بالأحكام الساعية دائماً إلى تحكيم العقل والرقي بالمجتمع الإنساني.
إن (نقد الخطاب الديني) دراسة تدل في مجملها على فكر تقدمي مستنير يستند إلى قراءة التراث قراءة واعية يربط فيها الباحث بين الماضي والحاضر، ويجتهد لكي يستخلص من تراثنا ما يعين على تحرر الفكر بحيث يصبح عاملاً على تقدم الأمة ومواكبة الرقي الحضاري.
انتهى