شغلتني ردحا من الزمن عبارات حفظتها ذاكرتي منذ الصغر، بل تم نحتها في ذاكرة اللاوعي في باب الحافلة حين نزولنا منها نجد يافطة معدنية ملصقة أعلى الباب كتبت عليها العبارة التالية : ” النهائي والهبوط قبل الوقوف”، ولم أدرك أولا المقصود اللغوي منها إلا بعد قراءة عبارة باللغة الفرنسية أعلاها تؤكد مدلول عدم النزول من باب الحافلة إلا بعد التوقف الكامل للحافلة وهي : (Ne pas descendre avant l’arrêt complet ) ؛ تلك العبارة التي كتبت بالحروف العربية ، هي من مخلفات فترة الحماية وأوائل الاستقلال. عدا غيرها من العبارات المكتوبة في العديد من الأماكن والشوارع التي نجتازها من البيت إلى المدرسة ؛ لقد كانت الشركات المكلفة بطبع هذه اليافطات تمتلكها مؤسسات غير عربية مغربية، تستند في كتابتها على ترجـمان لغــوي عنيد مـع اللغة العربية لنقـل الترجمة الميكانيكية من معـاجم غـير مـوثوقة لا صـلة لها بالهوية العربيـة . وقد اختـفت تلك العبارات بعد تغيير شركة الحافلات العمومية من (TAC) إلى (RATC ) بمدينة الدار البيضاء فأصبحت في خبر كان .
وكنا نستمتع صغارا بالأفلام الهندية بقصصها المثيرة : الأم الهندية / الصداقة ” دوستي ” / ” مانجالا ” / ساحر جهنم … وغيرها . وبقدر ما شدتنا قصصها وأغانيها باللغة الهندية فقد حفظها بعضنا عن ظهر قلب . لكن ما زادنا شوقا لارتياد هذه الأفلام الهندية حواراتها المترجمة إلى اللغة العربية الدارجة بالجهد الكبير الذي قام به المترجم القائم بالدبلجة السيد إبراهيم السايح رحمه الله . وما أثارنا من مثل ما وقفنا عليه من ” دبلجة ” في بعض الأفـلام باللغة العربية الدارجة وهو ما كان يقوله البطل ( أعتقد أنه الممثل الهندي الشهير “راج كابور” ) بعد استيقاظه وخروجه من منزله وإلقاء نظرة على الحشد من الجماهير أمام الساحة قوله مستغربا : ” هاي هاي شحال ديال المروك ” . فقلت مع نفسي : هل المغرب قطعة جغرافية وسط الهند أم الهنود يعيشون في المغرب ؟؟؟ .
فاختلطت علينا اللغة الدارجة بمواقع الخرائط، ولا نبالي باللغة بقدر ما تؤثر في مساراتنا الحياتية قصص الهند وأغانيها وجمال رقصاتها وراقصاتها … وكان الأمر عاديا بالنسبة للغة الدارجة ؛ لأن السليم لغويا هو ما كنا ندرس في الأقسام والكتب والمراجع باللغة العربية الفصحى . واعتبرنا تلك العبارات منطلق نكتنا وضحكاتنا وفرحنا وحواراتنا … لأن أساتذتنا الأفاضل علمونا اللغة العربية في دروسنا بمختلف المواد الدراسية دون كلل أو تشويه، وتشربنا لغتنا العربية معهم من المحفوظات والقصائد؛ بل بعضنا كان يُـعيد فقرات من نصوص الكتب المدرسية النثرية في كتب المطالعة والقراءة والتلاوة المفسرة المقررة ؛ سواء بالتعليم الابتدائي أو الثانوي . فحفظنا نصوصا من أمثال نصوص : ” الحيوانات المرضى بالطاعون ” وغيرها . وهو ما أقدرنا على التمييز بين اللغة السليمة واللغة الدارجة المندسة في حياتنا ، فكبرنا مع لغتنا العربية الفصحى و هويتنا .
وحين كبرنا وأتيحت لنا فرص التنقل والسفر خارج الوطن صدمتني عبارات كُتبت في شاشات عرض البيانات والخرائط للمدن التي تعبرها طائرة للخطوط الملكية المغربية فوق سماء بلدنا الحبيب، وقد جلس بجانبي طفل مغربي ننظر إلى ما هو مكتوب في تلك الشاشات من أسماء المدن المغربية ؛ كتب ما يلي بالحروف العربية هكذا : ” ميكنيس” /” رابات “/ ” كازابلانكا ” / “صافي “، فسألني هذا الطفل ببراءة : أين تقع هذه المدن ؟ ، فقلت له وشرحت بلغة بسيطة : ” ميكنيس ” هي مدينة مكناس التي أسسها السلطان مولاي إسماعيل وكانت عاصمة للدولة العلوية ، وأن ” رابات ” هي مدينة الرباط التي أسسها الموحدون واتخذوها عاصمة لهم أولا ، وهي الآن العاصمة الإدارية للمغرب ، وأن ” كازابلانكا ” هي الدار البيضاء العاصمة الاقتصادية ، وأن ” صافي ” هي مدينة آسفي و” صافي “، فضحكنا . ولقد قامت شركة الخطوط الملكية المغربية بتدارك هذه الأخطاء اللغوية التي خفت أن تنحت في ذاكرة هذا الطفل كما نحتت أخطاء أخرى في ذاكرتنا جميعا منذ الصغر لأن ” التعلم في الصغر كالنقش على الحجر ” كما يقول المثل ، وألفيت في أسفار أخرى أن هذه العبارات صُححت بعد أن عمرت ردحا من الزمن .
لكن كما قال الشاعر :
” إذا رأيت لرب البيت بالدف ضاربا *** فشيمة أهل البيت كلهم الرقص ”
وفي صيغة المثل : ” فلا تلم الصبيان في الرقص ” .
لكن ؛ استدراكا مرة أخرى ؛ حين نسمع في مرات عديدة ، ويشهد على ذلك علية القوم على مرأى ومسمع منهم ، قول المسؤول الأول على التعليم بالمغرب يرد عن أسئلة شفهية في البرلمان كتابة ؛ من ورقة أمامه ؛ كُتبت باللغة العربية الدارجة ، ويـتـلعـثم في قراءتهـا و “يُـحَـنْـززُ ” فيها وكأنهـا طلاسم أمامه ، نحس أننا فقدنا السفينة والمجذاف، وكانت وجهـتـنا ضبابية وسط عباب أمواج عاتية نفقد معها البوصلة وعِـلم النجوم، آنذاك نبكي على حالنا وحال اللغة العربية مع الشاعر حافظ إبراهيم :
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي *** وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَني *** عَقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِــــــداتي
وَلَدتُ ولمَّا لم أجِــدْ لعرائسي *** رِجــالاً وأَكــــفـــاءً وَأَدْتُ بنــــــاتِي …
فلا تَكِلُــــوني للزّمانِ فإنّني *** أخـــافُ عليكم أن تَحيـــنَ وَفــــاتي …
إلى مَعشَرِ الكُتّابِ والجَمعُ حافِلٌ *** بَسَطْتُ رجائِي بَعدَ بَسْطِ شَكاتِي
فإمّا حَياة ٌ تبعثُ المَيْتَ في البِلى *** وتُنبِتُ في تلك الرُّمُـوسِ رُفاتي
وإمّــــا مَـمــاتٌ لا قيامَــة َ بَعدَهُ *** مَـــمـــاتٌ لَعَمْرِي لمْ يُــقــَسْ بمماتِ .
يا سادة يا كرام إن اللغة العربية لغة رسمية وهي هويتنا، لقد نص دستور المملكة المغربية 2011 في الفصل 5 : ” تظل العربية اللغة الرسمية للدولة . وتعمل الدولة على حمايتها وتطويرها ، وتنمية استعمالها … ”
أستسمحكم سيداتي / سادتي الكرام علينا أن نؤكد هويتنا اللغوية العربية ، بعيدا عن أي نــوع من الشوفينية أو التعصب، وينبغي للمسؤولين عن حمايتها ؛ بدعم من الجمعيات والمنظمات والمؤسسات بالمغرب للمصالحة مع اللغة العربية فهي هويتنا ؛ كي لا نصاب بما أصيب به البعض من غيرنا بعدم التمييز بين ” ال ” الشمسية والقمريــة في كتــاباتهم وأقـوالهم . وقد رأينا وسمعنا أن المسؤولين في بلدانهم غير العربية يتحدثون بلغتهم الغربية ( فرنسية أو إسبانية أو ألمانية أو انجليزية … )، أو الشرقية (صينية أو يابانية ) أو غيرها ؛ باعتزاز بلغتهم وهويتهم ، أما ما نجــده اليــوم من أقـوال وكتـابـات باللغـة الدارجــة في بلدنــا مسار مُـعـتم لمسار اللغة العربية التي أراد لهــا نَـفـر قِـلَّـــةٌ لا هُـم بالعرب ولا بالعجم .
27 نونبر 2024