مصر كما رأيتها وأحببتها

لن أنكر أبدا، ولا ينبغي لي ذلك، بأن زيارتي لمصر، أرض الكنانة، كانت حلما مقيما في الذات، داعب وجداني منذ زمن بعيد. هناك تبرعم خلسة ورعيته بصمت وثبات حتى كبر وشب عن الطوق، كيف لا ؟ وهي أرض الفكر والأدب والحضارة، والمسلسلات والأفلام، وأغاني أم كلثوم وعبد الحليم حافظ وسيد مكاوي، التي ارتشفت نسغ ثقافتها قطرة قطرة، ولم أشعر أبدا بأي نوع من الملل وأنا أقوم بذلك.
شرعت في لعبتي الخفية هذه منذ نعومة أظافري عبر التهامي لقصص محمد عطية الابراشي، وفي شبابي نهلت من إبداعها القصصي على يد كل محمد عبد الحليم عبد الله وإحسان عبد القدوس، فاتسعت أحلامي و تمدد خيالي، وتشعب فكري فيما بعد عبر كتابات سلامة موسى وطه حسن والعقاد. وحين أصبح للذات أبعاد أخرى، تعلمت تقنيات الكتابة الروائية على يد أبي الرواية العربية نجيب محفوظ، وتفاصيل الكتابة القصصية من روادها يحيى حقي ومحمود تيمور ويحيى الطاهر عبد الله وغيرهم.
وقد تحقق الحلم أخيرا على يد الجمعية الوطنية لأساتذة المغرب، التي نظمت رحلة جميلة لهذا البلد الأجمل، بعد جمعت بين أحضانها لفيفا من المشاركات والمشاركين، يمثلون نخبة من المثقفين والتربويين والجمعويين، فكان اللقاء والوصال في أبهى صوره، فما خاب الظن، وما كان ينبغي له ذلك.
في أول نزول لنا بمطار برج العرب، كان الاستقبال حارا، من طرف شاب لطيف يدعى مصطفى وكانت أول ملاحظة سجلناها، وقد نزلت على قلوبنا بردا وسلاما، بأننا بحق بين أحضان بلادنا الثاني، حتى رجال الشرطة كانوا لنا عونا وسندا في أول خطواتنا على ثرى مصر الطاهر، لننتقل بعد ذلك إلى فندقنا في مدينة الإسكندرية، التي طالما تردد على مسامعنا لقبها الأثير «عروسة البحر الأبيض المتوسط». وحين شرعنا في اكتشاف تفاصيل المدينة، كانت المآثر التاريخية وجهتنا، فانطلقنا إليها رفقة «دلينا» الذي جاد علينا بمعلومات قيمة حول مصر عموما، والإسكندرية خصوصا، ومن هذه المعلومات أن اسم مصر القبطي يعني الأرض السمراء، وان الحضارة الفرعونية على أرضها دامت 3000 سنة، وشملت تحديدا الفيوم والأقصر، أما الإسكندرية، فبناها الإسكندر الأكبر بعد انهيار الدولة الفرعونية، وأخبرنا كذلك أن مقبرة الاسكندر الأكبر موجودة في الإسكندرية، لكنها لم تكتشف بعد، ثم حدثنا عن بطليموس أحد القادة العسكريين لدى الاسكندر الأكبر، ولم يكن في حقيقة الأمر سوى والد كليوباترا، وهو الاسم الذي يعني بالعربية الفتاة المفضلة عند أبيها، وقد التقت هذه الفتاة المدللة بيوليوس قيصر، عبر حكاية طريفة، بعد أن قدمت له ملفوفة داخل سجادة، فجادت قريحته حينذاك بتشبيه بليغ، إذ قارنها بانفتاح صدفة لالتقاط جوهرة ثمينة من داخلها، وهذه الجوهرة لم تكن غير كليوباترا، هذه الملكة التي جمعت حياتها ما بين المجد والمأساة في أقصى معانيهما، وخاصة نهايتها المأساوية وانتحارها باستعمال حية الكوبرا، حدث ذلك حين تأكدت من انتحار حبيبها أنطونيو، ويعد موتها بهذه الطريقة معبرا، وذا رمزية كبيرة، إذ أن الأفعى التي قتلتها تتجدد دوما عبر سلخ جلدها، فكانت بذلك كليوباترا رمزا للتجدد والانبعاث بعد الموت.
أخبرنا المرشد السياحي كذلك بأن الإسكندرية قد ظلت عاصمة لمصر لمدة ألف سنة، حتى أن مرقص كتب إنجيله فيها، وقد شهدت إحدى الفترات الكالحة في التاريخ المسيحي التي تميزت بالاضطهاد الديني، حين قتل فيها الرومان آلاف المسيحيين المصريين، المخالفين لعقيدة الرومان.
وكانت زيارتنا لعمود السواري إحدى اللحظات المهمة في رحلتنا، وهو عمود يؤرخ للنفاق السياسي في أرذل تعابيره، إذ أنه اعتبر هدية من حاكم الإسكندرية للإمبراطور الروماني رغم التنكيل الذي قام به في حق الموطنين المصريين، ثم زرنا بعد ذلك المسرح اليوناني، الذي اكتشف صدفة عام 1960، وهو يعبر عن العمق الثقافي لهذه الحاضرة المتوسطية، التي استهوانا التجول فيها، فاستوقفتنا قلعة قيتباي المتاخمة للشاطئ، ثم مكتبة الإسكندرية الشهيرة، فكحلنا عيوننا برؤية أسوارها، دون أن تتاح لنا فرصة الولوج إليها، لأننا وصلناإليها في وقت متأخر ذلك اليوم.
وفي اليوم التالي استبد مسجد المرسي أبو العباس بكثير من وقتنا، وقد منح زيارتنا بعدا روحيا لا يخفى على أحد.
أما في القاهرة، فلقاؤنا بأهراماتها يحتاج منا كتاب كاملا، أهرام الجيزة ليست مجرد حجارة مرصوصة بنظام بديع بل هي كتاب مفتوح لقراءة التاريخ وأخذ العبرة منه، وهي عبارة عن ضريح كبير للفرعون يتضمن كثيرا من السراديب والتفاصيل المتشعبة، أما أبو الهول، وهو تمثال الملك خوفو، الذي استحق لقب حارس الأهرامات، والذي نصفه إنسان يدل على الحكمة ونصفه حيوان يدل على القوة، فحكايته يجب أن تكتب بماء الذهب، وأتمنى أن أعطيه حقه في ما سيأتي من أيام.
وبما أن زيارتي لمصر صادفت افتتاح معرض القاهرة الدولي للكتاب، فقد كانت المناسبة سانحة لتوقيع روايتي الجديدة «زوجة الملوك الثلاثة» الصادرة عن دار روافد بالقاهرة وهي الرواية التي تحتفي بتاريخ المغرب في القرن الثاني عشر الميلادي، في شخص امرأة بصمت بعمق مرحلة الدولة المرابطية، ويتعلق الأمر بزينب النفزاوية.
بعد ذلك كانت زيارتنا لقاهرة المعز، وهي المدينة التاريخية القديمة، فاستمتعنا بالنظر لمعالمها الجميلة، فتجولنا في خان الخليلي ودخلنا مقام الإمام الحسين والسيدة زينب، ولم ننس زيارة مقهى أم كلثوم، تلك الأسطورة التي لن تتكرر، والتي جعلتنا نعشق الطرب العربي الأصيل.
في اليوم الموالي قصدنا مدينة شرم الشيخ عبر قناة السويس الرابطة بين البحرين، المتوسط والأحمر، والتي تعتبر كذلك بوابة صحراء سيناء، ونحن نعبرها عبر نفق الشهيد، كان لابد أن تحضر في الذهن قصة عبور النبي موسى والعبرانيين، فتمنينا عبورا أسلس وأأمن منه، وذلك ما كان فعلا، إذ تيسر العبور عبر النفق الذي كان بمثابة عصا موسى، بعدها عبرنا طريقا طويلا يخترق الصحراء لنصل إلى مدينة الأحلام شرم الشيخ، التي تعد بحق مدينة سياحية بامتياز، تقدم للزائر نسخا محكمة الصنع من حضارات الأمم وتاريخها، فيتجاور التاريخ المصري بالتاريخ التركي بتجليات الحضارة اليونانية، ببعض ملامح التاريخ الأمريكي والأوروبي، فسعدنا بهذا التمازج المبهر، وكانت جولتنا في البحر الأحمر والاستمتاع بالشعب المرجانية وكائناتها البحرية، فتحققت لنا ذروة السعادة بهذه الرحلة، وتضاعف الفرح بعد الاستمتاع بالسباحة في هذا الوقت من السنة، في الشاطئ المكتظ بالسياح الروس ، فكانت المتعة مضاعفة بحق.
نادتنا القاهرة مرة أخرى فكان نصيب الثقافة، بمعناها الأكاديمي أكبر. لقد حظيت هذه المرة بالتفاتة طيبة ستظل راسخة في الذهن والذاكرة. فبتكليف من الدكتور علاء عبد الهادي رئيس اتحاد كتاب مصر واتحاد الكتاب العرب، الذي غاب عن القاهرة ذلك اليوم بسبب التزامات سابقة، تم استقبالي في مقر نقابة اتحاد الكتاب من طرف السيد حسن نائب رئيس النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر أمين الشؤون المالية والإدارية للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب برفقة نجوى عبد العال شاعرة وعضو مجلس الإدارة، والفنانة والناقدة إيناس جلال الدين.
في هذه الجلسة الجميلة عبر السيد حسن عن حبه للثقافة المغربية واحترامه الكبير للمثقفين المغاربة، كما تم التداول حول أوضاع اتحاد كتاب المغرب الحالية وتمنى الجميع أن يتجاوز اتحادنا أزمته قريبا، ويستطيع عقد مؤتمره المؤجل، حتى يعود لممارسة دوره الإشعاعي الريادي المألوف.
من جانبي عبرت للسيد حسن ومرافقتيه عن امتناني وشكري للبادرة الطيبة، التي أثلجت صدري، كما أشدت بالدور الريادي للثقافة المصرية، باعتبارها قاطرة للثقافة والإبداع العربيين، كما بلغتهم تحيات إخوانهم الأدباء والكتاب المغاربة، الذين يكنون كل التقدير والاحترام لمصر ومثقفيها وشعبها.
وإذا كان القول المأثور « اللحظات الجميلة تمر بسرعة» فإنها تصدق بحق على هذه الرحلة التي قادتنا في نهايتها إلى مطار برج العرب، ومنه حلقت بنا الطائرة في طريق العودة نحو مطار محمد الخامس بالدار البيضاء، وقد بقي في أنفسنا كثير من مصر العزيزة.


الكاتب : مصطفى لغتيري

  

بتاريخ : 04/02/2025