برهان غليون، مفكر سوري ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر وأستاذ علم الاجتماع السياسيّ في جامعة السوربون بباريس. اختير رئيسًا لأوّل مجلس وطنيّ سوريّ جمع أطياف المعارضة السوريّة بعد انطلاق الثورة السوريّة في مارس 2011.
له مؤلّفات عديدة بالعربيّة والفرنسيّة. حاصل على شهادة دكتوراه الدولة في العلوم الإنسانيّة وأخرى في علم الاجتماع السياسيّ من جامعة السوربون في باريس.
يفسر اخفاق جيل المعارضة الماضي في القيام بالمراجعة السياسية المطلوبة، والسكوت عما جرى او استسهال الخوض في معارك اخلاقوية كاذبة بدل السعي الجدي للتعرف على الاخطاء واصلاحها ما نعيشه اليوم في معسكر الثورة والمعارضة من حالةٍ يرثى لها من الانفلاش وانعدام الوزن وفقدان الثقة والتفاهم والتعاون والتنظيم، تحرمنا من المشاركة في قيادة عملية انتقالية محتملة أو المساهمة في دفعها وصياغة شروطها وغاياتها، أي من المشاركة في تقرير مستقبل بلادنا.
لكن الإقرار بأن الجيل السابق من المعارضة، بكل ما يمثله من أفكار وتقاليد ومناهج عمل وحرتقات وألاعيب قد انتهى، لا يترتب عليه أن نلوذ بالفرار، أو نترك المهام الصعبة الماثلة أمامنا، ونحتمي وراء فكرة الفشل وانعدام القيادة والقدوة. إنه يرتب علينا بالعكس، وأقصد هنا على جيل الشباب الجديد الذي عاش الثورة، وعانى فيها، وشارك في تضحياتها، مسؤوليات جسيمة أكثر، فقطع الأمل بالأقدمين ينبغي أن يشجع الشباب، ويحثهم على التقدّم إلى الواجهة، واحتلال مواقع القيادة التي أصبحت فعليا شاغرة.
وعلى الرغم من أن إدراكنا حقيقة أن الخروج من المحنة لن يكون ممكنا من دون تفاهم الأطراف الدولية ودعمها، إلا أن حضورنا سيصبح أكثر فأكثر أهمية في المستقبل، فلن تكون هناك إمكانية لتجاوز حالة الانقسام والتشتت والتنازع والفوضى التي يعيشها مجتمعنا السياسي اليوم، ولفترة طويلة مقبلة، ولا أقول لتحقيق الانتقال الديمقراطي المنشود، من دون عودة السوريين إلى دائرة الفعل، بصرف النظر عن الموقع الذي سيحتلونه في مواجهة الروس والترك والأميركيين والإيرانيين وغيرهم. ولا توجد أي وسيلة لتحقيق هذه العودة وانتزاع السوريين حقهم في تقرير مصيرهم، وتنظيم شؤون وطنهم ومجتمعهم بأنفسهم، ما لم يبدأ جيل الشباب الجديد، من النشطاء والسياسيين والمثقفين المتحرّرين من ثقافة الماضي وتقاليده، ومن روح التبعية أو الانتقام، منذ الآن في المبادرة لتحمل مسؤولياته، واستكمال ما لم يستطع جيلنا السابق إنجازه، بما في ذلك المراجعة النقدية للثورة وخياراتها والبناء على دروسها، وعلى ما قدّمه جيل آبائهم وأسلافهم من تضحيات ومبادرات وأعمال جليلة، وبطولية أحيانا، ما كان من الممكن من دونها استعادة قيم الكرامة والحرية وانطلاق الثورة التي تشكل، بلا منازع، الحدث الأعظم في تاريخ سورية الحديثة، والأساس العميق لتحرّرها وتحديثها القادمين.
والخطوة الأولى في إطلاق هذه المسيرة الجديدة والمبدعة تكمن في خلع رداء العجز والإحباط، والخروج من مناخ الغيتو الذي حبسنا أنفسنا فيه في العالم الافتراضي، والدخول في الفضاء السياسي الحقيقي، والانخراط في النشاط العملي، مع الجمهور الذي نريد أن نستعيده ثقته، ونعيد له ولنا معه روح الإنسانية وقيمها التي حرمنا جميعا منها. وهذا يعني الانخراط في العمل الدؤوب والصامت، الفكري والاجتماعي والسياسي، لبناء القوى الذاتية، وتنظيم الجهود والطاقات المتفجرة لجيل الثورة والأجيال القادمة في مؤسساتٍ حية وقوية، من جمعيات ومراكز بحث وروابط اجتماعية وثقافية وخيرية ونقابات وأحزاب، هي التي سيكون لها الدور الأكبر في حسم معركة الصراع على طبيعة الحكم ونوعية القيم التي سوف تسيطر على نمط العلاقات الاجتماعية داخل الدولة الجديدة.
لقد حصر النظام الاستبدادي، بإغلاقه منافذ الحرية في المجالات الاجتماعية كافة، وجعله تنظيم المجتمع حكرا على سلطة الأجهزة الأمنية، الديناميكية الاجتماعية بأكملها في الصراع على السلطة والسيطرة على آلة الدولة. وهكذا، فقد السوريون مع الزمن تقاليد العمل المدني والاجتماعي، وانزوى القسم الأكبر منهم بعيدا عن أي نشاطات عمومية. وحتى في وقتنا الراهن، وعلى الرغم من انهيار أسطورة الدولة الاستبدادية وتحطيمها، لا يزال أغلب النشطاء الذين شاركوا في الثورة أو تعاطفوا معها يعيشون، باستثناء تنظيمات معدودة للجاليات السورية المهاجرة هنا وهناك، في غربة ثقيلة بعضهم عن بعض، وفي معزل عن أي مؤسسة أو رابطة أو منتدى. ربما في انتظار ساعة سقوط السلطة وانتقالها إلى من يمثلهم أو يتحدث باسمهم.
والحال لن تسقط السلطة إلا في يد من لديه شبكة من التنظيمات والجمعيات والمؤسسات والأطر الجامعة والفعالة. وتأسيس هذه الشبكة وتعزيزها هما اليوم، أو ينبغي أن يكونا، مهمة جيل السياسيين الجدد الرئيسية، في انتظار معارك التحول القادمة الأخرى لا محالة. وما لم نكن جاهزين عندما يحصل التغيير، حتى لو ارتبط بتدخل المجتمع الدولي وتفاهمه الآن، لن نستطيع أن نلتقط الفرصة عندما يحين الوقت لاحتلال موقعنا والقيام بواجباتنا التي لن يقوم بها أحد غيرنا. وفي غياب قوى شعبية منظمة، وقيادات مخلصة ومتضامنة، سنجد أنفسنا أمام خيارين لا ثالث لهما: حكم عسكري جديد، وإنْ بقواعد عمل وتقاليد وأنماط مختلفة أو، وهذا أسوأ، دولة فاشلة تخفي افتقارها لأي برنامج وطني، بافتعال النزاعات وتفجيرها، وتوزيع مناصب السلطة وما يلحق بها من موارد، بين شبيحة العشائر والطوائف والأقوام المتباغضة والمتناحرة، أي أمام الفوضى والعدمية السياسية. باختصار، لا يضمن الاحتفاظ بمكاسب الثورة الشعبية ومنجزاتها إلا بإطلاق الثورة السياسية الكامنة. وهذا ما بدأ يتبلور بالفعل في مشاريع جديدة عديدة في ميادين كثيرة.