معالم الرؤية التأويلية الفنية عند دة. حورية الخمليشي

قراءة في كتاب «نهر الهواء»

نروم من خلال هذه الورقة مقاربة القراءة التأويلية التي مارستها الأستاذة المبدعة الدكتورة حورية الخمليشي حول أعمال الشاعر والفنان العراقي وليد القيسي، وهي كما نلاحظ قراءة تأملية رامت افتحاص المنجز الإبداعي لأحد الرموز الإبداعية بالوطن العربي، وليد القيسي الفنان الخزّاف الذي واجه الطين بكثير من الجرأة، الفنان الغزير، المزدوج الرؤية القادم من العراق المثخن بالدموع والجراح.
هكذا تقرأ الأستاذة الخمليشي أعمال هذا المبدع لتقدم لنا هذا الكتاب الذي نحن بصدد قراءته «نهر الهواء» وهو كتاب أنيق صادر عن شركة مطابع الأديب بعمان الأردن، سنة 2023تصدّرُه الكاتبة بمقدمة استلهامية، ترصد فيها ملامح رؤيتها التأويلية التي ستشتغل بها، كما تُقعّد فيها لمجموعة من المفاهيم الأولية التي ستتناولها، وهي عبارة عن إشكالات تحضن أسئلة مُبطّنة، مُمتدةُ الملامح، أسئلةُ مُحرٍّضة على الفهم والتأويل، تتطلب منا كقراء شغوفين أن نتجاوز ما نحن عليه من معرفة بديهية بالأشياء، إلى معرفة فلسفة الأشياء وعمقها، ومن ذلك أن نعرف جوهر العلاقة بين الرسم والشعر، بين الإبداع الملفوظ والإبداع الملحوظ، بين المكتوب والمبصور، متسائلة: كيف يمكن للقيسي أن يكون مفردا بصيغة الجمع غير السالم، المنهوك بالاجترار والانكسار، كيف يمكن للفنان أن يصيِّر نحتًه وطينه وخزفه قصائدَ شعرية تملؤها الرموز والدلالات؟،
تنطلق إذن دة.الخمليشي من مقدّمة إشكالية، وتدرك أن الوجود في الكون الشعري والتشكيلي معا، هو وجود في نسق مركّب ومتداخل، يقوم على التقاء اللامتناهي الشعري باللامتناهي التشكيلي، وبذلك تتسع رؤية الكاتبة ويتفتّح أفقها التأويلي ليحضن هذين الكونين بعبارتهما وألوانهما ولوحاتهما ونحوتهما، فتضبط بحدوسها لحظة ولادة اللوحة من رحم الشعر، وولادة النص من رحم الطين.
إذن، فمقدمة الكتاب هي مشروع قائم بذاته، لأنها تضم كما قلت معطيات تحتاج منا إلى وقفة تأملية، ولذلك تنطلق من مجموعة من الأولويات التي تعتبرها قواعد استنادية لفك رموز النص واللوحة، بحيث تنطلق منها مسائلة دفاتره الفنية وأطباقه ومنحوتاته التجريدية، وقصائده الموسومة بالغموض والالتباس، ومن هذه القواعد:
1. التكامل الجمالي بين الرؤية الشعرية والرؤية التشكيلية مبنيّ على علاقة الحوار والتجاور بين الملفوظ والمبصور، أي بين الإبداع الشعري والإبداع التشكيلي الفني اللذين ينصهران من أجل خلق نموذج إبداعي واحد، لشخصية إبداعية متفردة قادرة على خلق نمط يحتوي نماذج تتحاور بشكل مضمر، لذلك نلاحظ هنا أن الحوار المقصود ليس حوارا بين طرفين متقابلين، فهو حوار بين رمزين فنيين متجاورين تجاورا انصهاريا، يفضي إلى وجود رؤية واحدة تترسب فيها وتتراكم داخلها أعمالٌ بالفحم وبالرصاص وخطوط مختلفةَ وسطوحَ بصرية متنوعةَ وألوانَ غامقة، تمزجُ الأبيض بالأسود بل وتخرجُ الأبيض من الأسود وأحجام وأشكال متفاوتة الطول والعرض،ونصوص متموجة ذات صور لازمنية ولا مكانية تحتاج إلى البصيرة والتبصر، أكثر مما تحتاج إلى الملاحظة والتأمل، ذلك أن التبصر هو سبيل التأويل والاستكشاف، لهذا توظف الدكتورة حورية الخمليشي في وسم تشكيل الشاعر لفظ «المبصور»، وليس لفظة تأمل أو ملاحظة أو نظر، لأنها تدرك أن التبصر يكون بالرؤيا .
2. تكشف دة.حورية عن مرجعيات الشاعر والفنان وليد القيسي التي استثمر فيها ومنها رؤية الابداعية، ومن هذه المرجعيات استلهامه بعض عناصر تجربته الشعرية من مجموعة من الشعراء اللبنانيين والسوريين ومنهم الشاعرة زليخة أبو ريشة وخضر الزيدي وشربل داغر وكريم رعد ومنصف الوهايبي، وهو حصر مرجعي تتوفق الكاتبة في تحديد مفتاح فهم الرؤية الفنية والابداعية للقيسي، وخاصة تجربة الشاعرة زليخة أبو ريشة التي تتماهى في الكثير من نصوصها مع الشاعر القيسي، بحيث نجد الكثير من بعض ملامحها الشعرية في نصوص ولوحات هذا المبدع، وبخاصة القلق والغموض، فالشاعرة زليخة هي شاعرة الحيرة والتماهي بين الشعر والسحر بامتياز، وهذا ما نلاحظه عند القيسي، شاعرة متعددة تسربل نصوصها بالغموض، شاعرة الإلماح والإشارات، فهو مثلها تماما من حيث براعة اصطياد حركية التحولات والحلول الافتراضي في الكون،ومن حيث صناعة مجازات التجلي والحلول والبوح عن مكنون المادة ومكنون الإنسان، لذلك تكون دة. الخمليشي قد أصابت في فتح مغاليق الرؤية الفنية للقيسي، هذا ناهيك عن الأسماء الأخرى المؤثرة التي يمكن اعتبارها أسماء مؤسسة لحركة الشعر العربي الحديث، مؤمنة في ذلك بجدلية العلاقة بين الشعري والتشكيلي، وتجاورهما في الأكثر فضاءات الكون حوارا وتأملا.
3. تؤمن دة. الخمليشي علاوة على هذا الانصهار بين الرؤية الشعرية والرؤية التشكيلية، بدهشة التساؤل عند الإحاطة التحليلية بالأعمال الفنية والشعرية للرجل، ولذلك تؤمن بالسؤال قبل الجواب، كما تؤمن بالسؤال الممتد والمتعدد، ونقصد بالتمدد، التعاظم والشمول في رقعة أو مساحة النص واللوحة، والتعدد في صيغ الطرح ومشتقاته وبنائه، وبذلك يتمدد السؤال ليصل أفق التأويل الذي يُصيّره بدوره أفقا مفتوحا متجددا، يحضن الرؤية والمعنى والفكرة. وبذلك تتعدى الخمليشي في مقدمتها الأسئلة البديهية الأولى، لتبلغ الأسئلة التي تتغيى معرفة ماهية الفكرة حين تصير معنى، والمعنى حين يصير رؤيا، مؤكدة في ذلك، أن بلوغ معارج المعنى في الشعر والتشكيل يستدعي من القارئ أن يكون حرا متحررا من القيود التي تمسك بالفكرة وتمنعها من التجسّد في اختيارات وافتراضات أخرى متعددة ، كما تستدعي من الفنان أن يكون صاحب عين قادرة على مراقبة سكون المادة، وتحولاتها التي تحصل خارج المكان والزمان، عينٌ ترى في سمفونية الألوان دلالات حسية وروحية وجمالية حداثية متحررة.
إن رؤية الأستاذة الخمليشي هنا تنهض على قراءة مركبة لأعمال القيسي، فهي تقدّم للقارئ فرصة التأمل في الألوان، وقد تحررت من صفاتها اللونية، )أحمر أبيض أسود( في سياق أسئلة كينونية وكونية، تتمثل المادة المنحوتة أو المرسومة أو الملفوظة، وقد انغرست في قلق من المساءلات حول العبث الإنساني وأفعاله في الحياة والكون.
هذا عن المقدمة التأسيسية، أما في الفصل المعنون ب» لوحات الأبيض والأسود» فترى الكاتبة أن للقيسي فلسفة خاصة في توظيف الألوان، أو تركيب الأخيلة الملونة. فالأبيض تقول «لا يكون أبيضا، والأسود لا يحمل صفته اللونية» مادام أن الأبيض يولد من رحم الأسود، فالبياض هو خروج من سواد العتمة والظلام، هكذا تكون الألوان غير مستقرة على هوية قارة، كما هو معروف: الأبيض أبيض والأسود أسود، لذلك تقول الخمليشي عن لوحاته إنها تمتاز بالقدرة التعبيرية على استخدام اللون والتواصل مع ثقافات مختلفة، فتضاد اللونين، الأبيض والأسود، محاولة لاستكشاف غياهب الوجود، وهو نوع من البناء الدرامي لما عرفته العراق من دمار وخراب،» ذلك أن من سحر الأسود نستمد وجودنا وأحلامنا التي يبدو فيها اللون الأسود منارة للضوء» يقول القيسي ص: 34.
إن القيسي، تقول الخمليشي، هو مُخرِجُ الأسود من الأبيض، فالأسود هو رفض لسطور القصيدة، وجدودُها عبارة بيضاء لها سحر وفكر ثاقب، تستردّ منه سؤال الغائب، هي علاقة جوهرية اتجاه الأشياء المثيرة يقول القيسي « أتجول بينهما وأرسم بينهما لرؤية عباراتها تدور حول أثر بقايا فعل في سؤال، تنبثق منه شطحةُ ملموسة والحذف هو سواد الأبيض، ألمح الخطوط وأرسم بها مرة مرّة بلغة الشعر، ومرة ببياض الانتماء التي لا حدود لها، فتصبح نصوصا في آفاق غير مسبوقة»ص 34
وما ينطبق على الأبيض والأسود ينطبق أيضا على ثنائية الضوء والظلام، وهي ثنائية لونية تحضر شعرا كما تحضر تشكيلا بمساحات واسعة تتسع لفيوض المعنى الفني والشعري، مادامت نصوصه ولوحاته تشتغل على استعارات مفتوحة التباين والتقابل والتغاير والتجاور، فهي أعمال قادمة من المستقبل، لا سلطة فيها للماضي أو للحاضر كما ولا سلطة لها على لون دون آخر. ترى الخمليشي أن لكل لون ضوئي سلطته في ممارسة حضوره المتباين في حوار مضمر بين الحزن والفرح، بين الموت والحياة، تقول الكاتبة إن ألوانه مثل كلماته الشعرية، نقرأها بعين رائية، وألوانه مثل النصوص التي تجسد الألوان، وتحمِّلها المعنى الوجودي الذي يريد تبليغه للقارئ، يقول القيسي في هذا الصدد : « أحبار عامت على ورق أبيض، سطوره فيض من المعنى « ص:34 تردف الخمليشي على ذلك بالقول: « فلون الحبر والتماعة بياض الورقة، يؤلفان المشهد الشعري البصري الذي يلعب فيه اللون دورا كبيرا في تشكيلهما في تجاور مع الصورة التشكيلية» ص 34
إن ألوان اللوحة مستمدة من ألوان معاني القصيدة تقول الخمليشي في الفصل المعنون ب « تجاور اللوحة والقصيدة « أرى القيسي رساما شاعراـ وشاعرا رسّاما يبدع في كتابة القصيدة كما يبدع في اللوحة بروح شعرية في تناول الخامات والأصباغ بحثا عن تشكيل جديد بطرق تشكيلية حداثية ضمن نسق مفتوح جسد تواشجا بصريا خلّاقا بين الشعري والتصويري»ص 70.
إن التجاور الدلالي واللوني الشعري والتشكيلي، كما ترى الباحثة، هو تجاور حواري يتم من خلاله فتح أفق الرؤية الابداعية لتُفسح للّغة فرصة للتنفس ما بين الأرض والسماء، يقول القيسي متحدثا عن جزء من هذه الرؤية المتجاذبة « الشعر رئة الأرض واللغة هي الجاذبية التي ترتكز عليها الحياة، ما بينهما توجد طبقة شفافة، أبحث فيها لأجد ما أريد، وقد لا أجد ما أريد بسبب كثافة المرئي»ص 70 وكثيرا ما يبحث الشاعر الرسام عما يريد فلا يجده، لكنه يجد في القصيدة دون الأرض مسكنا للذات، يعيد تشكيلها من جديد، ويعيد من خلالها تشكيل أسئلته الحارقة، تقولدة. الخمليشي»، وهي أسئلة شيدها بوعي جمالي لمواجهة الخراب والموت والانكسار، بسبب الأحداث الأليمة التي تعاقبت على بلده العراق، وذلك من خلال العودة إلى الذات واحتضان سؤال الحياة، وبذلك تخرج قصائده من ثقافة الأجوبة لتنفتح على ثقافة الأسئلة، فكل جواب يمكن أن يتحول إلى سؤال آخر وأسئلة الشعر لا تنتهي « ص 79
نستطيع أن نقول بعد استعراضنا لهذه المقدمات التحليلية إن دة. الخمليشي تمارس نوعا من القراءة الالتماعية التي تؤوّل المعطى النصي والفني تأويلا مزدوجا، يستند إلى آليات إدراكية تصورية تفاعلية، فهي تمارس قراءة مركبة ذات نشاط فكري رفيع، يستدعي الإجابة والتجاوب والاستحضار والتجاوز، وهي كلها آليات تفرضها الطبيعة التركيبية للمقروء الذي هو القول الشعري والتشكيل الفني، وهذا يجيز لنا القول إن الكاتبة استطاعت اختراق حلم النص واللوحة معا، فقد أعادت تشكيل اللوحة، كما أعادت صياغة الدلالة الشعرية خاصة وأن أعمال القيسي كما رددت كثيرا هي نصوص تأتي من المستقبل، كما أن لوحاته تأتي من الممكن والحلم والمترجّى» لهذا كانت قراءتها في «نهر الهواء» قراءة جديدة ومتجددة تقوم على استراتيجية تعليق المعنى ومحاصرة الدلالة وإعطاء المجال لانبجاس أفق الاختلاف والتأويل المنفتح، مؤمنة في ذلك بقول بول ريكور: كل عمل فني يبني أسطورته الخفية أو المعلنة، أي يبني دلالاته من دمار المرجع»
إن عمل دة.الخمليشي هو فعل إبداعي يذهب بعيدا، بل يذهب أبعد مما يذهب إليه النقد المنهجي، وأريد بذلك القول كونها تفتح في النص الشعري أو التشكيلي، أبعاد الدلالة الكامنة، وتمهّد لفتح إمكانات اختلافها، وتتّبع مسارها في جسد النص واللوحة معا، متقيّدة في ذلك بحدوسها المعرفية، وبثقافتها الموسوعية العالمة، محترمة الكلّية التي تجمع النص واللوحة معا، أي مجمل العلاقات والتداخلات والانتظامات داخلها ، وقد لاحظت وأنا بصدد قراءة منجزها، أنها لا تستند في ذلك لمنهج واحد ووحيد، بقدر ما تمارس تأويلا متعدد الحقول، وخاصة حقل الأنثروبولوجيا وعلم النص وعلم الدلالة، محاولة في ذلك ردّ النص واللوحة إلى أصولهما الأولى، بحثا عن جذور فكرتهما الكامنة فيهما، وهذا عمل شاق يستدعي تداعيات قرائية استطاعت من خلالها الأستاذة المقتدرة خلق دهشتنا وانبهارنا بما هي بصدد قراءته.

إحالات:

1. نهر الهواء، وليد رشيد القيسي : د حورية الخمليشي، ط 1 2023 شركة مطابع الأديب عمان الأردن
2. بول ريكور، الانتقاد والاعتقاد، ترجمة حسن العمراني، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2011، ص106


الكاتب : د. مصطفى شميعة

  

بتاريخ : 12/03/2024