معالم تاريخية تعيش “أرذل العمر” 1 : «شهرزاد» .. لن تموت

في كل منطقة من مناطق المغرب، تواصل عدد من البنايات والمآثر، التي تشكّل جزء مهما وأساسيا من الذاكرة الفردية والجماعية، الوقوف بشموخ، وإن كانت تعاني الإنهاك، بعدما فعل فيها الزمن فعلته، حتى صارت تعيش مرحلة “أرذل العمر”، وتنتظر وقوعها أرضا، لتختفي كما لو أنها لم تكن يوما، فتلاقي بذلك مصير العديد من المعالم التي تم طمسها سابقا، وحلّت محلّها بنايات مفتقدة لأي روح، كان الهدف من وراء تشييدها الربح المادي الخاص بالأساس؟
بنايات، تتوزع ما بين أسوار، وفنادق، ومركبّات، ودور للسينما، وقصبات، وغيرها… بعضها تم التدخل من أجل إنقاذها و “إنعاشها”، وأخرى تُركت لحالها إلى أن جاء “أجلها” ووريث الثرى، في حين تنتظر أخرى التفاتة فعلية من الجهات المختصة للحفاظ على هوّيتها، وإعادة الاعتبار إليها…

 

تروي الحكايات كيف استطاعت «شهرزاد» أن تكبح جماح «شهريار» وأن تواجه تسلطه ورغبته في القضاء عليها، انتقاما لـ «كرامته» من النساء، وأن تخرج سالمة من «نيّة الاستهداف» خلال الليلة الأولى، وأن تقاوم العنف «الظاهر منه والمستتر» الذي كان متحكما في «الملك»، بخلقها لجوّ من التشويق الذي ظل يرافق حكيها لـ «ألف ليلة وليلة»، الذي نقلته من خلاله إلى عوالم متعددة، حضرت فيها القيم والشيم، وتعددت فيها الشخوص التي توزّع بينها اللؤم والحكمة والغموض، مما مكّنها من أن تكسب سباق الزمن، ليلة بعد أخرى، نحو الحياة.
وإذا كانت «شهرزاد»، الشخصية القصصية، قد نجت من المصير الذي لاقته نسوة أخريات، وتمكنت من الاستمرار في الحياة لزمن معين، فإن شهرزاد «السينما» المتواجدة بتراب درب السلطان في قلب مدينة الدارالبيضاء، التي رأت النور سنة 1952، والتي وضع تصميمها الإيطالي «باولو مانيغيرا»، «لن تغادر الدنيا» هي الأخرى، وإن تم إدخالها إلى «الإنعاش» لسنوات، وعاشت «موتا سريريا» منذ سنة 2008، وسعى البعض لمحاولة «إعدامها» عن سبق إصرار وترصد تحت مسمى «الموت الرحيم»؟
«شهرزاد»، لم تكن يوما مجرد بناية كمثيلاتها في قلب منطقة «كراج علاّل»، بل هي ذاكرة للفن السينمائي والمسرحي، بالنظر لحجم وطبيعة الأفلام التي عرضت فيها، والمسرحيات التي حلّ ممثلوها ضيوفا على خشبتها، فضلا عن عروض الأطفال التي كانت تقدم فيها. «شهرزاد» كان الجميع ينظر إليها كخزّان للثقافة والمعرفة، وهي بكل هذا ظلت معلمة شاهدة على مراحل مهمة من تاريخ درب السلطان خاصة، والدارالبيضاء عامة، ما قبل وبعد زمن المقاومة، واليوم، بعد أن سُيّجت جنباتها، خشي الجميع على أن يتم إطلاق «رصاصة الهدم» صوبها، لأنه إذا تم القيام بخطوة من هذا القبيل، فإنها ستصيب «قلبا» نابضا بـ «الحياة» وزمنا يتنفّس عبق الذكريات!
تسييج، اتضح من خلال الوثائق والتصاميم المتوفرة، إن تم تنزيلها كما هي ولم يطرأ عليها أي «تعديل»، على أن الغاية منه، هو إعادة الاعتبار لهذه المعلمة الفنية والثقافية، حتى تواصل حضورها وإشعاعها، بالحفاظ على «خصائصها» مع مراعاة التحديث، وذلك بتحويلها إلى مركب متعدد الاختصاصات في الشأن الثقافي والفني والتكنولوجي، يُعرض في قاعاتها المسار التاريخي لهذه لسينما من جهة، وتاريخ دور السينما البيضاوية من جهة أخرى، وتحتضن لقاءات مختلفة تساهم في التنمية المحلية، وتقدّم العروض والاحتفالات، وتُبرمج اللقاءات الأدبية، وتستقبل جمهورا مهتما بتكنولوجيا المعلوميات والألعاب الإلكترونية…
هذا السعي لإعادة الروح لـ «شهرزاد»، يأتي لكي لا يطالها مسلسل إعدام الذاكرة، فالعديد من البنايات في الدارالبيضاء وفي غيرها، والكثير من المآثر العمرانية والتاريخية، إما تردّت وتدهورت، أو تم «الإجهاز» عليها بشكل نهائي، ويكفي أن نستحضر ونحن نتحدث عن دور السينما، معلمة أخرى وهي «المامونية» بزنقة البشير الإبراهيمي، التي كانت تتواجد بلاجيروند وتطلّ على المشور، بإرثها المتعدد هي الأخرى، التي تم «طمسها»، ونفس المصير عرفته «الباهية»، والأمل، والقائمة طويلة لمعالم مختلفة، تم محوها بجرّة قلم، وقامت على أنقاضها إقامات وقيساريات خضع تشييدها لمنطق المال والعقار، في حين أن أخرى تواصل الوقوف بشموخ وإن كانت تعاني من الإهمال ومن تأثيرات الزمن وتنتظر «نفس المصير»، بما أن خطة «إنقاذ» هذه المآثر هي غير واضحة المعالم، فإما أنها مصنّفة وباتت محمية من التطاول، لكنها تستمر في العيش باعتبارها «أطلالا»، وإما هي مهددة في تواجدها واستمرارها، وستندثر يوما لتقوم مقامها بناية أخرى، فتصبح بذلك كأنها لم تكن؟
ملاحظة: خلال 30 سنة، فقد المغرب حوالي 85 في المئة من قاعاته السينمائية ومعها 95 في المئة من الجماهير، إذ قبل هذا التاريخ كانت بلادنا تتوفر على 250 قاعة، مقابل 37 ظلت مفتوحة إلى غاية 2015، في حين تقلّص عدد المتفرجين والمقبلين على قاعات «الفن السابع» من 50 مليونا إلى مليوني شخص.


الكاتب : إعداد: وحيد مبارك

  

بتاريخ : 12/03/2024