في كل منطقة من مناطق المغرب، تواصل عدد من البنايات والمآثر، التي تشكّل جزء مهما وأساسيا من الذاكرة الفردية والجماعية، الوقوف بشموخ، وإن كانت تعاني الإنهاك، بعدما فعل فيها الزمن فعلته، حتى صارت تعيش مرحلة “أرذل العمر”، وتنتظر وقوعها أرضا، لتختفي كما لو أنها لم تكن يوما، فتلاقي بذلك مصير العديد من المعالم التي تم طمسها سابقا، وحلّت محلّها بنايات مفتقدة لأي روح، كان الهدف من وراء تشييدها الربح المادي الخاص بالأساس؟
بنايات، تتوزع ما بين أسوار، وفنادق، ومركبّات، ودور للسينما، وقصبات، وغيرها… بعضها تم التدخل من أجل إنقاذها و “إنعاشها”، وأخرى تُركت لحالها إلى أن جاء “أجلها” ووريث الثرى، في حين تنتظر أخرى التفاتة فعلية من الجهات المختصة للحفاظ على هوّيتها، وإعادة الاعتبار إليها…
تحتضن «القلعة البرتغالية» بين أسوارها حوالي 400 منزل، منها حوالي 80 منزلا صار يمتلكها أجانب أو تحولت إلى «رياضات»، منها المصرح بها كفندق قانونيّ، ومنها التي تمارس أنشطتها في استقبال السياح بطريقة سرية . ويضمّ الحي البرتغالي، كذلك، أزيد من 50 بزارا وأربع زوايا دينية ومسجدا واحدا وخمسة معابد، إضافة إلى عدد من الفضاءات الأخرى..مقاهي مكتبة ومسرح، إلا أن الحي البرتغالي يعرف منذ سنوات ركودا في عدد الزوار، وحتى من يزورونه بشكل دائم أصبحوا مع مرور الأيام من سكان الحي، بعد أن اشتروا منازل من أصحابها بأثمنة بخسة وحوّلوها إلى «رياضات» يستقبلون فيها أصدقاءهم من حين إلى آخر، وعلى طول السنة دون أن يستفيد منهم الحي أي شيء.
وجلبت القلعة البرتغالية، منذ تصنيفها كتراث عالمي، العديد من المستثمرين الذين اقتنوا مجموعة من الدور لاستغلالها في مشاريعهم السياحية أو للاستقرار فيها بشكل نهائي. وأكد بعض سكان الحي البرتغالي أنهم استبشروا خيرا بمبادرة أشغال الترميم التي كانت السلطات المحلية قد بدأتها في فضاءات الحي البرتغالي، وراهنوا على إمكانية إعطائها دفعة جديدة له، إلا أنهم فوجئوا بتوقفها دون أن يعرفوا الأسباب.. وكانت ساكنة الحي تعتقد أنّ تلك الترميمات ستشمل واجهات منازلهم بالنظر إلى كون أغلب ساكنة الحي هم من بسطاء القوم.
من القلعة إلى «مولاي بوشعيب» السارية
لم تسلم مدينة أزمور بدورها من آفة الإهمال والاندثار، وهي التي تعتبر من بين أقدم المدن المغربية على الإطلاق، حيث استفادت من كل الثقافات الخارجية، من الثقافة الفينيقية، والرومانية، والبرتغالية، واليهودية، والإسلامية. و يؤكد العديد من الباحثين في تاريخ المدن العتيقة، أن ذلك يتجلى من خلال مواد البناء والأدوات المستعملة فيه، وكذلك الأقواس والأسوار، التي ما زالت تحتفظ بالخصائص الفنية والعمرانية. وتتكون المدينة العتيقة من بنايات مسورة بجدران كبيرة مفتوحة عبر أبواب كبيرة، أهمها الباب الفوقاني وباب سيدي المخفي، ويتحكم فيها ساكنوها من خلال مجموعة من الأبراج موصلة بممر دائري، إضافة إلى القصبة التي مازالت هي الأخرى تحتفظ بالزخارف والخطوط والأقواس.
أزمور الآن، تشكو سوء حالها، وتبكي على ماضيها، فالأسوار تناثرت أحجارها، وآخر حادث شهدته كان سقوط جزء كبير من جدارها، ومحاولة إحدى الشركات الخاصة من خلال إعادة ترميمه بمواد بناء طمس كل معالمه، في الوقت الذي يتذرع المسؤولون بانعدام السيولة المالية قصد إصلاحه، وهو العذر الذي يطرح أكثر من علامة استفهام، خاصة أن التصنيف يشمل الجدران التاريخية فقط، نظرا لتغيير معالم المدينة البرتغالية، كما أن الأبواب كسرت أخشابها. ويوجد الحي البرتغالي بمدينة أزمور في حاجة إلى إعادة الاعتبار وترميم مرافقه، فمسؤولو المدينة تعبوا من رفع الشكاوى وتدبيج التقارير إلى الجهات المسؤولة دون أدنى التفاتة.
رباط تيط المنسي
مدينة تيط هي «مولاي عبد الله» حاليا، ولا يعرف للمدينة تاريخ مضبوط، وهو ما جعل الآراء تتضارب حول تاريخ إنشائها وزمن تأسيسها، فمنهم من يرجع تسميتها إلى طوت حفيد نوح عليه السلام الذي استقدم إلى موريتانيا الشعوب المسماة بالطيطيين، ويرى البعض الآخر أن مؤسسها هو حانون الذي كان القرطاجيون قد بعثوه على رأس ستين سفينة من ذوات الخمسين مجدافا، بقصد احتلال المدن الليبية الفينيقية، بينما يؤكد ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار، أن «تيط» كانت تعتبر إحدى كبريات مدن المغرب التي حصر عددها في اثنتين وأربعين مدينة. (تاريخ مدينة تيط، محمد الشياظمي الحاجي السباعي). ومعلوم أن لفظة تيطنفطر هي لفظة بربرية تعني العين الجارية وتعني أيضا عين الفطر، ومعناها أيضا الطعام، وتذهب القراءات لمذاهب عديدة، لعل أقربها إلى الصواب، ما يفيد أن عينا كانت توجد هناك.
وتقع مدينة تيط على بعد 10 كيلومترات جنوب مدينة الجديدة، أطلالها ما زالت بادية للعيان. تيط أو المنبع الذي توقف عنده مولاي إسماعيل أمغار في منتصف القرن الحادي عشر وهو أحد النساك المهاجرين القادم من المدينة المنورة صحبة إخوته الثلاثة، واستقروا بهذه المدينة التي سميت بعد ذلك بعين الفطر، وشيدوا بها زاوية ومسجدا، وتم تحصينها بالطريقة القديمة التي كانت تبنى بها المدن الموجودة على الساحل بغية اتقاء هجمات الغزاة.
إن مدينة تيط البائدة في حاجة إلى نفض الغبار عنها والبحث في خفاياها للوصول إلى حقيقتها التي لا يزال أغلبها غير معروف، خاصة أن الأشغال التي أجريت مؤخرا لربطها بالتطهير السائل قادت إلى اكتشاف أعمدة مدينة أثرية دون أن يتم الاعتناء بهذا الاكتشاف أو الإعلان عن نتائجه، لاسيما وأن كل الدلائل تؤكد أن تيط مدينة تاريخية تستوجب الاعتناء بها من أجل تصنيف مآثرها تراثا إنسانيا لا أن يتم اختزالها في حدث عابر.