معرض للفن المعاصر يطرح آسئلة الهويات و التنقل

 

تحت شعار ” الهويات والتنقل – الهجرة-  »Identités et déplacement»احتضن رواق المركز الثقافي دار المغرب بمنتريال كندا معرضا للفن المعاصرArt contemporainضم نخبة من الفنانين من كندا والعالم العربي– جاكوريستيكيان – لبنان – نادية سبوسي – الجزائر – زكريا الرمحاني ويوسف الغرباوي- المغرب.
ومن بين أهداف معرض الفن المعاصر في نسخته الكندية “مهاجرة” تعزيز التبادل الثقافي والفني بين الأجيال وتقريب وجهات نظر بخصوص واقع محدد ومشترك . وتعميق النقاش في محاولة إيجاد أجوبة لأسئلة تتعلق بالهوية والنزوح. ورغم اختلاف الرؤى الفنية الفردية، فإنها تستكشف مجتمعة مفاهيم الهجرة والحركة و التغيير من خلال مجموعة متنوعة من الوسائط مثل الصباغة والفيديوInstallation vidéo والنحت التصوير والتركيب. إنها دعوة كونية مفتوحة لإعادة التفكير في علاقتنا بذواتنا في علاقتها بالعالم في ظل تنوع وتعقيد التجربة الإنسانية التي تضيع معها الحقيقة ويغدو تأثيرها سلبيا على الذاكرة الجمعية .

في أرضية أعدها منسق المعرض الفنان التشكيلي الكندي من أصول مغربية يوسف الغرباوي نقرأ ” في عالمنا الحالي، تعد الهوية و الهجرة ” Identités et déplacement حاضرين في كل مكان لمن يريد أن يهتم ويحيط بعالمهما الغريب العجيب . ويضيف الغرباوي منذ اكتشاف العالم الجديد عام 1492 حصل لقاء “بالأحرى صدام” حضاري بين ثقافتين أوروبية وأخرى مشابهة ،لكنها مختلفة تماما ، ومنذ ذلك الحين لم تكن الهوية والهجرة عرضة للإهمال أو النسيان. إذ ظلتا حاضرتين ومؤثرتين على الحياة والإنسان بكل أبعادهما الجغرافية الثقافية والاجتماعية والسياسية والأدبية والفنية . تأثير وحضور يستلهمه الفن المعاصر ويستخدمه عبر مجموعة واسعة من الأشكال الهندسية، مثل الدائرة والمربع والمثلث والمستطيلات والمنحوتات والتراكيب لخلق أشكال وأشياء معقدة ضمن تصاميم فنية هندسية في أنواع وأحجام وأشكال مختلفة.
والحقيقة أن روح هذا المعرض الفني المعاصر بمشاركة ثلة من الفنانين كل بهويته وأسلوبه ونظرته الفنية المتفردة تجسد بشكل واضح ومقنع أن الهوية بمفهومها متعدد الأبعاد تعبير عن الكيفية التي يُعرف بها الفرد أو المجموعة أنفسهم، وعادة ما تشمل نقل وتجسيد عناصر ثقافية بما فيها الفن والأدب اللغة الدين العرق الجنسية القيم الأخلاقية والمعتقدات. وبالتالي هي مزيج من السمات الشخصية والجماعية التي تحدد من نحن وكيف كنا ؟ من الآخر وكيف السبيل إلى التواصل معه ؟ كما تؤثر على الطريقة التي نرى ونفهم بها العالم ،وكيف نتفاعل مع الآخرين المختلفين عنا. وذلك في قالب هندسي تتشكل فيه الأمكنة أشكالا ورموزا فنية دالة . أما الهجرة ضمن التصور نفسه ،فهي ظاهرة اجتماعية سياسية واقتصادية ذات أبعاد متعددة، تؤثر بشكل مباشر على البلدان المصدّرة والمستقبلة للمهاجرين. بما في ذلك الهجرة الداخلية (بين المناطق داخل الدولة) والهجرة الخارجية (بين الدول). وتحدث لأسباب عديدة ومتداخلة ، منها الاقتصادية، الاجتماعية، السياسية، والبيئية والفنية .كما يبرز ذلك من خلال اللوحات الفنية المعروضة والمنحوتات والتركيبات السمعية بصرية .
ضمن هذا الفهم ،يشتغل جاكوريستيكيانJackoRestikia ، في أعماله الفنية المعروضة على تيمة المكان كفضاء مشترك أكان واقعيا أو رمزيا سواء كان ماديا ومجازا . ويطرح السؤال كسؤال حول علاقة الذات معه . ويرى أن تحريك مالا يمكن نقله واقعيا ، يمكن نقله مجازيا فنيا رمزيا في سياق مختلف. أنه تصور يجعل المنقول حاضرا ضمن سياق مختلف. نقل رمزي ، هذا ما يخلق علاقة فنية ما بين المحترف ومجموعة من المسجماتSculptures المعروضة التي تتحرك بعجلات مما يوحي بتسهيل تحريك الواقع الذي لا يمكن نقله . و المقاربة لدى جاكوريستكيان في جوهرها مبنية على التفكير وفق أسلوب فني مبتكر يجعل الفن ملهما في سياق جديد للعلاقة بين الجسد ومكانه. الجسد وهويته .
أما نادية السبوسيNadia Seboussi فتبدو مهتمة بقضايا الهجرة والضياع والنفي أو الاغتراب.وتعكس أعمالها في المجمل تأثير الحروب الأهلية على الخيال والذاكرة الجماعية السكان. وهي تستكشف من خلال ممارساتها الإبداعية وقصصها الشخصية أولا الحالة السوسيونفسية للمهاجرين في تقاطعاتها الأسرية والعائلية داخل الزمن . وتطرح أسئلة عميقة حول العلاقات المعقدة بين الشرق والغرب والجنوب والشمال. وتبرز تقنية النيون le néonكشاهد على الهشاشة والنفي وتعقيد الواقع والمعاناة التي يعيشها المهاجرون .
من جهته يتساءل زكريا الرمحانيZakaria Ramhani في تجربته الفنية المبتكرة عن مسألة الهوية من خلال مقاربة بصرية معينة في تحديد الشخصيات والأحداث.وهي تجربة يشكل فيها الحرف حجر الزاوية. شخصيات وأحداث مستلهمة من التاريخ حجزت مكانا لها في الحاضر .حيث الحروف بألوانها الحارة التي يرسم بها وجوه الواقع ومشاهده ليست إلا كلمات تلقائية لا تنطوي على معنى محدد. بل تقوم بوظيفة تنفيذية للوحة مثلها مثلاللون.وهو ما يميز طريقته في إنتاج الصورة، حيث تصبح الأحداث حروفا مجردة بأشكالها وشخصيات معبرة تحمل المعنى. ويتناول زكرياء القضايا المعاصرة المرتبطة بالصورة والتمثيل أثناء توظيفه الإمكانات الغنية لكتابة الحروف العربية واللاتينية. وينقشها بتأملات عميقة حول الهوية شخصيات من تاريخ الفن والثقافة الشعبية والسياسة.مما يجعل لوحاته صورا مذهلة معاصرة ، تمزج بحكمة بين كتابة الإيماءات والتعبير التصويري .
ويرى الفنان يوسف الغرباويYoussef Gharbaoui أن اهتمامه بمسألة الهجرة كمقاربة فنية معاصرة نابعة من تجربته الخاصة في الحياة كمهاجر مغربي من جهة، ونظرته للحياة كممارس للفنون البصرية بكندا من جهة ثانية . وتبرز هذه الحساسية ضمن أعماله الفنية المعروضة وتتجسد في أشكال الصباغة على الأحجام واللوحات الكبرى، حيث تتخذ الصورة الفنية أشكالا هشة وغير مستقرة في نفس الوقت، كما يحتل المكان موقعا أساسيا في أعماله . وتتلخص تجربة الغرباوي الفنية في كونها تستبئر المكان وتستكشف فكرة الحركة فيه. عبر مساحات يعززها اللون والشكل والأبعاد الهندسية ،التي سرعان ما تخلق تركيبات تستحضر المناظر الطبيعية بمجرد انتشارها على شكل منعرجات وفيزياء متعرجة والفنان هنا لا يكتفي باستكشاف مفاهيم الفضاء والتضاريس والحدود والممرات باستخدام العناصر الهندسية وخطوط التلاشي فحسب، بل يخلق تصورات لتراكيب معينة مما يوحي بالحركة أو التحول.
اليوم يقدم لنا الفن المعاصر أكثر من أي وقت مضى مساحة مناسبة للاستكشاف والتفكير، كما يبتكر رؤى متنوعة للإبداع ويشيد مساحات شاسعة للحوار وبناء الجسور بين الثقافات المختلفة بالأعمال الفنية . وبالتالي تصبح أماكن لقاء حيث يمكن للمشاهدين المشاركة في التفكير وإبداء الرأي وتقديم الانتقادات لهذه الأنواع من المواضيع التي لا تتوقف أبدًا عن التشكيك فينا.” ومن خلال منظور التنوع الثقافي يألف معرض الفن المعاصر من خلال أعمال الفنانين المتنوعة والمتعددة التخصصات ويأخذنا إلى قلب هذه الديناميكية من أجل مواصلة استكشاف العالم ومواصلة إمكانيات الحوار والتطوير .”
الفن المعاصر ملهم وممتع بصريا حين يبدع في استخدام خاماته المتعددة. يلهم المتلقي برؤية العمل الفني ليصبح نسخة أفضل من نفسه. ومن أجل ذلك يحاول الفنانون المعاصرون استكشاف الهوية الشخصية والثقافية من خلال أعمالهم على مجموعة متنوعة من الوسائط وسط عالم سريع التغير . ولا يدخرون جهدا في عكس المشاكل والقضايا المعقدة التي تؤثر على الذات ومن خلالها المجتمع بشكل كبير في عالم اليوم .أنه عالم مفتوح للتاويل.وكل ما يحتاجه هو أن يكون للمتلقي عقل منفتح وفضولي وعلى أتم الاستعداد لاستكشاف روائع العمل الفني.m


الكاتب : عزيز باكوش

  

بتاريخ : 04/10/2024