يوسف شيهاب : مغرب محمد السادس قوة كبرى في أفريقيا، اقتصاديا وماليا ولوجستيا ومصرفيا واستراتيجيا

 

في عالم يتسم بالعولمة أدرك المغرب ربما قبل الأوان أن النجاح يعتمد أيضا على تنويع شركائه

 

يوسف شيهاب
متخصص في الجغرافيا السياسية والعلاقات الدولية، و العالم العربي والإسلام السياسي.
حاصل على الدكتوراه في الجغرافيا السياسية من جامعة فرانسوا رابليه في تور.
مدير لمركز أبحاث الاستخبارات الفرنسية في باريس. وهو في الوقت نفسه أستاذ مشارك في جامعة السوربون باريس نورد.
له العديد من الأعمال، منها صراع الصحراء، والعديد من المقالات في الصحافة العالمية. ولا يزال مستشاراً لقنوات تلفزيونية عالمية «فرانس 24 – بي بي سي – آي 24 – تي في 5 موند».

 

يستعد المغرب للاحتفال بالذكرى الخامسة والعشرين لجلوس صاحب الجلالة محمد السادس على العرش. كيف ترى اتجاه السياسة الإفريقية في عهد محمد السادس؟

لقد انطلق المغرب، وملك المغرب على وجه الخصوص، من عقيدة سياسية جديدة تتمثل عموما في إصلاح السياسة المغربية في أفريقيا. بادئ ذي بدء، اتخذ المغرب قرارا هاما بإخراج هذا الملف من مرحلة الجمود لاسترجاع اقاليمه الجنوبية بالصحراء. وفي عام 2007، اقترح جلالة الملك توسيع الحكم الذاتي تحت السيادة المغربية، وهو الاقتراح الذي حظي بموافقة العديد من البلدان وهو ما غير مسار هذا النزاع المفتعل . وتراجعت أكثر من 17 دولة إفريقية عن اعترافها بجبهة البوليساريو، ولاحقا، افتتحت حوالي ثلاثين دولة قنصليات لها في مدن الأقاليم الجنوبية، خاصة الداخلة والعيون.
أما العمل الرئيسي الثاني الذي قام به جلالة الملك فهو إعادة دمج الاتحاد الأفريقي. وبعد أن خرج المغرب منه عام 1984 ومارس سياسة الكرسي الفارغ، التي أضرت كثيرا بمصلحة أعدائه التقليديين، أي الجزائر ووكيلتها البوليساريو، وضع محمد السادس حدا لهذا الفراغ في الوجود المغربي. وقد حظي بالترحيب والإشادة، مما أدى إلى المصالحة بين المغرب والاتحاد الإفريقي.
وبمجرد توطيد هذين العنصرين السياسي والمؤسسي، بدأ جلالته جولة غير مسبوقة، حيث زار العديد من البلدان الإفريقية، ليس فقط لتعزيز العلاقات السياسية، بل لتطوير شراكة اقتصادية استراتيجية حقيقية. ويعتبر المغرب اليوم تنين أفريقيا الجديد، إذ يتمتع بحضور اقتصادي ومالي ولوجستي واستراتيجي في أكثر من 24 دولة بالقارة. وهكذا، نجح المغرب، من خلال تنويع شراكاته، في توسيع ديناميكيته الاقتصادية، حتى أنه أصبح يتنافس مع منافسته التقليدية، فرنسا، إلى جانب بلدان دخيلة بالقارة وهما تركيا أو الصين.
وقد أضيفت إلى هذه الإصلاحات الرئيسية الثلاثة مؤخرا مبادرة جلالة الملك بأن يقترح على البلدان الأفريقية القارية، أي تلك التي لا يمكنها الوصول إلى المحيط الأطلسي، مثل تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي، نقل طاقتها الاستراتيجية. الثروة المعدنية والطبيعية إلى المحيط الأطلسي عبر المركز الجيوسياسي وهو الصحراء المغربية والمشروع الكبير المستقبلي لميناء الداخلة.
ويمكننا أن نرى بوضوح أن البعد المغربي لم يعد إقليميا، بل أصبح شبه قاري. وتعني هذه الخيارات الاستراتيجية أن المغرب أصبح اليوم في عهد محمد السادس قوة كبرى في أفريقيا، قوة اقتصادية ومالية ولوجستية ومصرفية واستراتيجية. وفوق كل ذلك، وقع جلالته، بصفته أمير المؤمنين، على بروتوكولات تعاون لتكوين أئمة أفارقة على الإسلام الوسطي المعتدل وتكوين أئمة في البلدان التي توجد بها جالية مغربية قوية بأوروبا، خاصة في بلجيكا، هولندا وفرنسا.
بشكل عام، هذه هي المشاريع الكبرى التي تم تنفيذها في إفريقيا خلال ربع القرن والتي أثرت على مصير المغرب، ومن المفارقة، أنها أضعفت إلى حد كبير منافستها التقليدية، الجزائر، حيث تمكن المغرب من العمل بعمق القارة الأفريقية على أسس عملية وغير عقائدية.

كيف ترى التوجه الكبير للدبلوماسية المغربية تجاه العالم في عهد محمد السادس الذي زار عشرات الدول الإفريقية في السنوات الأخيرة لبناء شراكات مربحة للجانبين ؟

الجزء الثاني من الإصلاح الكبير للعقيدة الدبلوماسية المغربية، بقيادة صاحب الجلالة محمد السادس، فيتمثل في تحقيق أربع نقاط:
1. لقد بدأ المغرب مواجهة دون ضجة إعلامية كبيرة للحد من نفوذ فرنسا ووجودها في كل مكان وسيطرتها على الاقتصاد المغربي. وبهذا المعنى، عملت جلالة الملكة والحكومة على تنويع المشاريع الكبيرة في إطار عطاءات المشاريع الدولية لدول أخرى مثل الصين وتركيا، مما أدى إلى تقليل النفوذ القوي لفرنسا. وكان الأمر يتعلق أيضًا بخفض تصنيف فرنسا باعتبارها المستورد والمصدر والمستثمر الرئيسي. وفي السنوات الأخيرة، حلت إسبانيا محل فرنسا، مما أدى إلى تقليص نفوذ فرنسا وسيطرتها على الاقتصاد المغربي بشكل كبير.
2. في عالم يتسم بالعولمة، أدرك المغرب، ربما قبل الأوان، أن النجاح يعتمد أيضا على تنويع شركائه. إن البقاء معتمدا على فرنسا بشكل خاص والاتحاد الأوروبي بشكل عام كان خطأ استراتيجيا. وفي عام 2016، قام صاحب الجلالة محمد السادس بزيارتين رسميتين مهمتين للغاية إلى روسيا والصين من أجل إقامة شراكات استراتيجية متعددة القطاعات، مما يضمن الحياد النسبي للصين وروسيا في مواجهة دعمهما المفترض لجبهة البوليساريو. وأبرمت هذه الزيارات اتفاقيات شراكة اقتصادية وتبادلية ذات قيمة مضافة عالية.
3. منذ عام 2016، أعاد المغرب توازن ميزانه التجاري مع روسيا والصين. وفي الفترة ما بين 2018 و2022، أصبحت التجارة بين الهند والمغرب تحقق فائضا لأول مرة في التاريخ، لصالح المغرب. ومن خلال خياراته الاستراتيجية، توج المغرب كل شيء باتفاقيات استراتيجية وتحالفات عسكرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل، سميت باتفاقات أبراهام. وبهذا يكون المغرب قد أمّن علاقاته مع الولايات المتحدة غربا، والصين والهند وروسيا شرقا، والاتحاد الأوروبي شمالا، وإفريقيا جنوبا.
4. في أعقاب اتفاقات أبراهام، عزز المغرب علاقاته مع الممالك الخليجية الرئيسية، ولا سيما المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وبذلك يكون المغرب قد نفذ تحولا ديبلوماسيا بنسبة 360 درجة، سمحت له بالمعارضة والحصول على قيمة مضافة في خياراته، بعيدا عن سياسات الانحياز أو المحاور التي اختارها الآخرون.

كيف أدار المغرب هذه التحالفات الدبلوماسية في عهد محمد السادس، بين تحالفاته الكلاسيكية مع الغرب والحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا والصين والهند وبقية دول العالم؟

على المغرب أن يعزز هذا السجل وهذا العمل المتعدد الأوجه الذي قام ويقوم به صاحب الجلالة محمد السادس على مدى 25 عاما، وأن يتجنب سوء الفهم الجيوسياسي. يحتفظ المغرب بعلاقات ودية ومثالية مع روسيا والصين، رغم الضغوط التي يمارسها الغرب والتي تفرض على بلدان الجنوب الاختيار. وهذا الاختيار، الذي لا معنى له، يتمثل في الاصطفاف خلف الأميركيين والاتحاد الأوروبي في حربهم ضد روسيا. لقد ظل المغرب محايدا ويجب أن يستمر في هذا الاتجاه. وقد طور المغرب علاقات شراكة استراتيجية مع الصين وروسيا ومؤخرا البرازيل. كما أنها تستكشف أفريقيا الناطقة باللغة الإنجليزية، وتستثمر وتثبت وجودها في بلدان جديدة تتراوح من أنجولا إلى كينيا، بما في ذلك مشروع خط أنابيب الغاز بين المغرب ونيجيريا. وكل هذه المشاريع هي مشاريع فرعونية واستراتيجية يشارك فيها عدة جهات سواء أمريكية أو خليجية أو مغربية.
لقد أصبح المغرب قوة إفريقية. وفي الوقت الحالي، تأتي دول أخرى، خاصة فرنسا، التي تم إبعادها عن المنطقة الافريقية الناطقة بالفرنسية، إلى المغرب للعمل بشكل ثنائي من أجل استعادة منطقة نفوذها المحدودة. ويجب على المغرب اليوم أن يعزز علاقاته بالبراغماتية، بعيدا عن النظريات العقيمة. إن مغرب الأمس ليس مغرب اليوم ولن يكون مغرب الغد. وانطلاقا من هذا المبدأ، دخل المغرب في مسار العولمة وعليه أن يستكشف كل الفرص، بما في ذلك جاليته المتواجدة في جميع القارات.
وأخيرا، لقد استثمر المغرب فيما نسميه القوة الناعمة الدبلوماسية، أي الرياضة والثقافة. وبفضل الجهود التي بذلها المغرب، وبتوجيهات مباشرة من جلالة الملك، تمكن المغرب من تحقيق أعظم إنجاز في تاريخ العالم العربي والإفريقي، ألا وهو الوصول إلى نصف نهائي كأس العالم بقطر عام 2022. يمتلك المغرب أحدث البنية التحتية الرياضية لاستضافة كأس الأمم الإفريقية 2025. بالإضافة إلى ذلك، بفضل قوته ونفوذه والثقة التي يتمتع بها من الدول المؤثرة، سينظم المغرب كأس العالم بالاشتراك مع إسبانيا والبرتغال. ونتيجة لذلك، فإن المغرب يسير على مسار جيد للغاية على المستوى الدولي. ونأمل أن يستمر هذا لأطول فترة ممكنة، حتى يأتي اليوم الذي نحصل فيه على الطاقة والمياه والاستقلال المالي. وربما لن يتم وضع المغرب بعد ذلك بين الدول الناشئة، بل بين الدول المتقدمة بالكامل.


الكاتب : حاوره يوسف لهلالي

  

بتاريخ : 29/07/2024