من رسائل غيثة الخياط إلى عبد الكبير الخطيبي 18 : الرسالة 13: يسحرني رسم كل حرف في كل لغة

«مراسلة مفتوحة» هي سلسلة رسائل كتبت ما بين دجنبر 1995 و أكتوبر 1999، بين غيثة الخياط، هي في ذات الوقت كاتبة ومحللة نفسية، وعبد الكبير الخطيبي، وهو كاتب أيضا وجامعي وباحث في العلوم الإنسانية. وهما سويا ينتميان بذلك إلى الحضارة الإسلامية ونظامها الاجتماعي الأبوي. وهي تعرض تبادلا خاصا وأكثر تفردا في العالم العربي.
«مراسلة مفتوحة» هل هو فن للصداقة، أم شكل أدبي عبر الرسائل، أم رغبة في التقاسم الفكري، أم صيغة لركوب المغامرة؟ هكذا سأل الناقد حسن وهبي صديقه عبد الكبير الخطيبي.
أجاب الخطيبي: كان لها هدف إجرائي واضح: الإعلان عن صداقة فكرية بين امرأة ورجل، في العالم الإسلامي ونظامه البطريركي. فهي أكثر منها شهادة، هذه المراسلة المفتوحة تراهن على الحقيقة الخطيرة، عبر هذا النوع من التبادل. كسر بعض المحظورات التي تكبل النقاش العمومي بين الناس، منشورا ومقروءا ومتداولا بالنسبة لإمكانات أخرى من النقاش المكبوح بين الرجال والنساء، كما يقول الخطيبي في تقديمه لهذه المراسلة.
ومن الخطأ مقارنة هذه الرسائل، بتلك المتبادلة بين مي زيادة وجبران خليل جبران؛ لاختلاف طبيعة العلاقة بين هؤلاء، بين الحب والصداقة، وبين العلاقة العاطفية والصداقة الفكرية. وهو سوء الفهم لصق بذهنية البعض. لكن غيثة الخياط نفت هذه الشبهة، ذات الهيمنة الذكورية. ولو كان الأمر صحيحا لجهرت به، كما تكرر دائما، بقدر ما جرأت على الكتابة معه، وليست عنه كما تؤكد أيضا.
انضبطت الرسائل -بلغت تسعا وخمسين رسالة- منذ البداية لمفهوم «التحاب» الذي عرفه الخطيبي، في تقديم الكتاب، كالآتي: « أقصد ب «تحاب» لغة الحب التي تثبت المحبة الأكثر نشاطا بين الكائنات، والذي يستطيع أن يمنح شكلا لتوادهم ولمفارقاته. أنا مقتنع أن محبة، من هذا القبيل، بإمكانها تحرير بعضا الفضاءات حيث تحظر المباهج بين الشركاء. مكان للعبور والتسامح، معرفة بالعيش المشترك بين الأجناس والحساسيات والثقافات المختلفة» حرص الخطيبي على تحويل الكلام إلى كتابة رغبة منه في التوثيق، وإيمانا منه أن البقاء للأثر في مواضيع تناسب الصداقات الفكرية، ومقاومة للنسيان الذي يعتور الكلام.
مر أكثر من عقد ونصف، على صدور هذه المراسلات بين دفتي كتاب «مراسلة مفتوحة» تتأسف غيثة الخياط متحسرة على أن هذه المراسلات لم تعرف طريقها إلى لغة الضاد، وتعتبر الأمر كارثة، في حين ترجمت إلى لغات أخرى كالإنجليزية والإيطالية.
تحاول الخياط استعادة رسائلها. وقد كتبتها بخط اليد وأحيان على ورق رسمي. وقد صارت الآن إرثا لعائلته قبل أن تصير إرثا للذاكرة الثقافية لمغربية، في انتظار تأسيس «مؤسسة الخطيبي».
كتب الخطيبي مقدمة قصيرة للكتاب واختار عنوانه وناشره. لكن الخياط ستكتب مقدمتها في النسخة المترجمة إلى الإنجليزية ولم يقيض للخطيبي قراءتها لأنه كان يحتضرـ كان ذلك اليوم 16 مارس 2009.
لم تعرب الرسائل، وهم ما حز في نفس الكاتبة. واعتبرت الوضع كارثة في العالم العربي، وهو المعني بمحتواه أكثر من البلدان الأخرى. تمنت لي غيثة الخياط قراءتها بالعربية فانجذبت إلى ترجمتها، إلى اللغة نفسها. وقد أذنت لي بذلك ووافقت. كانت الخياط حافزا مباشرا لإنجاز ترجمة هذه الرسائل ورسائل أخر. لعلها تكون بداية لترجمة العمل كاملا. وأنا متيقن أنها ستسعد بذلك. وهي المعدودة على الحركة النسوية.

 

صديقي،
آسفة على إجبارك على الكتابة إلي، بواسطة الآلة (شخصيا لا أحبذ هذه الطريقة. خطابي المكتوب يصبح معدنيا، محسوبا، أجوف من إمكانه الشعري، رهينا بوضوحه أمام عيني…).
لكن في ذات الوقت، مسرورة لحفزك على الكتابة أكثر عن الخط! صفحة بهية بكل وضوح: تابعت بباريس حصة، أطرها نجم الدين بامات، في موضوع الخط العربي، في إطار دورة تكوينية حول الحضارة الإسلامية. استهواني هذا الأفغاني الموهوب، بإلمامه الباهر، وهو متمكن من سبع إلى ثماني لغات، لكنه للأسف غادرنا مبكرا، -لم يتمم رسالته كلها-، مسلم أصيل ومتأنق، ومتنور ومشرق.
ترك لنا كتابا جميلا: “المدن الإسلامية”، وتوقف مساره، وهو في أوج عطائه. شخصيا، “تعلمت” منه مبادئ الخط العربي، من خلال حديث مزهر مثل قصيدة، وملغز مثل مغارة مغلقة.
أعيد قراءة مؤلفك حول الخط، والذي ألفته بالاشتراك مع محمد السجلماسي، جمعت منه رسالة مختلفة. في واقع الأمر، فما تقولانه سويا، معبر عنه على نحو مختلف.
عشقك للعلامة، وهاجسها الميتافيزيقي، ينصهران في شغف يضاعف الحروف نحو أوجها وأعماقها، ونحو اللامحدود.
من جهتي أعتقد، وبدون ادعاء، لكن بنوع من الاقتناع أؤثر الكتابة L’Ecriture على الخط.
…أو الكتابات Les Ecritures.
يسحرني رسم كل حرف، وفي كل لغة. رأيت في آسيا الصغرى، ألواح سومر، أملك نسخة متواضعة من حجرة روزيتاla pierre de Rosette التي أفلح «شامبليون» Champlion في فك رموزها الهيروغليفية، وعليها ثلاثة نصوص؛ اثنان منها يسرا كشف الثالثة؛ خصائص الكتابة المسمارية، الآرامية، السنسكريتية، غياب الكتابة الإفريقية -يا لها من مجهولة استثنائية !!!-، التيفيناغ، الحروف اللاتينية القوطية، العربية النقشية épigraphique، الكتابة الرمزية l’édiogramme، هي بالنسبة لي دوار، زوبعة تنتزع مني دماغي، والدوران في عوالم غريبة، إلى درجة الإبهام. إذا آخذ نص «موريس إتيامبل» Maurice Etiemble «الكتابة» l’Ecriture فمعرفته، وتمكنه يهدآني قليلا، وبمزيد الحب أيضا، هذا العدد الذي لا يحصى من العلامات، في جميع اللغات الحية والميتة.
ستقول لي إن اللغة والكتابة، يلائمان أكثر انشغالاتي، بوصفي محللة نفسانية، بينما الخط يتطلب الإيماءة، وأشكالا في غاية الجمالية. نعم! وهذا يحدث في المثقف ارتجاجا لا محدودا، متلهفا للفكرة الجمالية أكثر من الأفكار في ذاتها. (بالتأكيد، أنا إذا من هنا مثقفة مزيفة ومتذوقة للفن -للأسف- يعوزها التعبير.)
ها أنذا أيضا منطلقة بعيدا بعيدا، وأنت «منطلقا» من الكتابة والخط… (أحبذ أيضا!) سقوط رسالتك، لأنك تحصر فيها، من هو العدو؛ لأنك تؤكد أن «حب العداوة هو شيء مشترك».
لكن، حديثنا، الخيط الناظم لمراسلتنا، هو التحاب، وهو عامة ضد، هذا الحب الشائع جدا للكراهية وهو يمزق البشر، ويحولهم إلى فظيعين، وعميان بصيرة.
هذه «اللحظة» الأكثر جدية أيضا، في رسالتك، الكلمة الأخيرة: الإيتيقا l’Ethique. طبعا بحرف استهلالي. إذا كانت هذه الكلمة وهذه الفلسفة اختفتا في عصرنا، آه، حسنا! فخطونا في طيات هذه الرسائل، لم يكن سدى. جرؤنا على القول إننا أحببنا أخلاق الخير والعدل وأكثر من ذلك، لدينا تلك الأخلاق. لا يهم، إذا كان هذا يتردد صداه في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر…أتحمل مسؤولية ذلك.
لك مودتي.


الكاتب : ترجمة وتقديم: محمد معطسيم

  

بتاريخ : 05/05/2021