من «زبالة ميريكان» إلى الهضبة الخضراء: حين يشتكي الحلم من الجفاف والنسيان

بين حلبة للتزلج لا تستجيب للمعايير وألعاب ترفيهية تتحدى التلف.. أطفال يمارسون هواياتهم وسط الأخطار

 

فوق الأزبال والنفايات المطمورة تحت أطنان من الأتربة، شُيّدت حديقة أُطلق عليها اسم «الهضبة الخضراء»، في محاولة لمحو الماضي الأسود لـ»مزبلة ميريكان» بمنطقة سيدي مومن. منتزه بيئي وترفيهي استبشرت به الساكنة خيرا، وارتادته العائلات رفقة أطفالها في أجواء من الفرح والامتنان، غير أن مرور سنة على تدشينه، كان كافيا لطرح سؤال الصيانة والجودة والتدبير، بعد أن بدأت تبرز عليه مظاهر الجفاف والإهمال…

 

على أطراف الدار البيضاء، وفي قلب حي سيدي مومن، تقع «الهضبة الخضراء»، المشروع البيئي الذي أثار قبل سنة الكثير من الآمال، ففي يوم الأربعاء 24 أبريل 2024، تم افتتاح الحديقة بعد تأهيلها، والتي كانت سابقا مطرحا عشوائيا للنفايات، يعرف عند البيضاويين بـ»زبالة ميريكان»، بدعم من وزارة الانتقال الطاقي والتنمية المستدامة وولاية جهة الدار البيضاء وعمالة سيدي البرنوصي، بتكلفة 19 مليون درهم. المنتزه يمتد على مساحة 12 هكتارا ويضم 32 نوعا من النباتات المختلفة، مع تحقيق تقليص بنسبة 50% في استهلاك المياه بفضل تدابير موفرة، حسب ما تم الإعلان عنه في حينه، بالإضافة إلى استخدام 20% من الطاقة الشمسية. الغطاء النباتي في الحديقة يمتص 235 طنا من ثاني أكسيد الكربون سنويا، كما أن 58% من المساحة مغطاة بالنباتات الخضراء و5000 متر مربع من الأشجار توفر الظل. وقد تمت إزالة 1.8 مليون متر مكعب من النفايات المنزلية في عملية إعادة التأهيل ويصل ارتفاع الهضبة الخضراء عن مستوى سطح البحر إلى 15 مترا، وفي تصريحها، أكدت عمدة الدار البيضاء نبيلة الرميلي أن المشروع مر بعدة مراحل، بدأت بتأهيل المطرح بين 2015 و2016، ثم تحوله إلى منتزه ترفيهي، وأوضحت أن مجلس المدينة يخطط لإنشاء متنزهات مماثلة في كل مقاطعة لزيادة المساحة الخضراء في المدينة من 500 إلى 1000 هكتار، كما أشارت إلى التوجه نحو استخدام الطاقات المتجددة في الإنارة العمومية واستغلال المياه العادمة المعالجة في السقي، أما الشركة التي أشرفت على المشروع فكانت شركة التنمية المحلية «الدار البيضاء للبيئة» .

بعد سنة على الافتتاح: عطش، إهمال، وخيبة أمل

بعد مرور سنة على الافتتاح الرسمي، بات واضحا أن المشروع البيئي، رغم رمزيته، يواجه خطر الذبول… حرفيا.
في جولتنا الميدانية في هذا المنتزه البيئي، أول ما يلفت الانتباه هو جفاف التربة، واصفرار مساحات واسعة من المسطحات الخضراء. الشجيرات التي غُرست قبل وقت قريب، تبدو وكأنها تُصارع من أجل البقاء. لا أثر يُذكر لعمليات السقي، ولا وجود ليد عاملة كافية تقوم بالصيانة الدورية لمختلف المرافق وكذا النباتات والأشجار التي تظهر عليها علامات الذبول والجفاف، فقط حراس هنا وهناك دون وجود بستانيين أو تقنيين في البستنة للاعتناء بهذه المساحات، ما يُطرح أكثر من علامة استفهام حول الجهة المكلفة بالصيانة والمتابعة. هذا الإهمال لا يُهدد فقط جمالية الفضاء، بل يُفرّغ المشروع من مضمونه كمتنفس بيئي ومكان للراحة والاستجمام، خاصة في أحياء تعاني أصلا من ندرة المساحات الخضراء والبنى التحتية المناسبة للترفيه.

مرافق مغلقة وألعاب ترفيهية يطالها الإهمال

الأعداد الغفيرة من الأطفال المرافقين لأسرهم يستفيدون، في حبور ومرح، من مختلف الألعاب الترفيهية المتواجدة بعين المكان لكن الملاحظ أن معظم هذه الألعاب أصبحت تعرف بعض التدهور وملامح التلف، بفعل الاستعمال المفرط وغياب الصيانة المنتظمة، حيث تظهر على كثير منها آثار التلف أو سقوط بعض مكوناتها، وتفتقر أخرى لمقومات السلامة الضرورية، مثل الحواجز الواقية أو الأرضيات المبطنة، ما يجعل اللعب فيها محفوفا بالمخاطر، خصوصا بالنسبة للأطفال الصغار، هذا الوضع يطرح تساؤلات جدية حول مدى التزام الجهات المسؤولة بصيانة هذا الفضاء الحيوي وضمان استمرارية خدماته في ظروف آمنة ومناسبة.
كما تنتشر في الحديقة الكراسي والطاولات الأسمنتية حيث تجتمع العائلات حول وجبات منزلية في جو من الدفء والبساطة، يتقاسمون الطعام والضحك، بعض العائلات اتخذت من الأرض مستقرا للاستجمام والترفيه، مستغلة ظل الأكشاك والمراحيض المغلقة لتزجية الوقت والراحة، لكنهم لم يخفوا امتعاضهم من عدم افتتاح بعض المرافق ومن مظاهر الإهمال والجفاف التي أصبحت ظاهرة على نباتات الحديقة. تقول إحدى الأمهات: «احنا فرحانين بهاد الفضاء، كان من قبل نقطة سوداء في منطقة سيدي مومن، ما كناش نقدرو نفتحو النوافذ من شدة الروائح الكريهة والمناظر البشعة التي كنا نطلو عليها، اليوم فرحنا بعد تحويل المطرح إلى حديقة، لكن دابا ولينا نشوفو شي شوية الإهمال، خصوصا سقي الأشجار والنباتات»، فيما قالت أخرى : «كنا فرحانين حيث تبدلات الصورة الكحلة ديال المطرح، ولكن دابا كنشوفو العطش كياكل كلشي، والسقي ما كاينش، والمرافق مسدودة.»

فضاء رياضي غير آمن: سكيت بارك..الفخ !

الجانب الرياضي من الحديقة لم يسلم هو الآخر من مظاهر «التقشف في الجودة»، ففي ملعب كرة السلة، بدأت علامات التدهور تظهر على الشباك الحديدية رخيصة الصنع المحيطة به، وكأنها صُممت فقط ليوم التدشين، وبدأت مظاهر التكسر والتدهور تظهر على بعض جوانبها، لكن رغم ذلك يستقطب هذا الملعب مراهقين وشباب يمارسون داخله هوايتهم على أمل ألا يطاله التلف والإهمال خلال مدة وجيزة، لكن أحد أكثر النقاط التي استوقفتنا كان ما يسمى بـ»سكيت بارك»، وهو فضاء مخصص للألعاب الحضرية كالسكيت بورد (ألواح التزلج) والرولر (أحذية التزلج) ودراجة التروتينيت وحتى الباركور، وهي ألعاب الشارع التي باتت تجتذب الكثير من الشباب، رغم ما تحمله في طياتها من تهور وخطورة إن لم تراع فيه ظروف السلامة كوضع القبعات الواقية واللعب في «باركورات» تراعي السلامة وتحترم المواصفات المعمول بها في مثل هذه الحلبات، لكن هذا الملعب، الذي كان من المفترض أن يستجيب لمعايير دقيقة، تحوّل إلى فخ حقيقي للصغار والمراهقين. فالأعداد التي ترتاده لا تسلم يوميا من الحوادث المؤسفة، حسب ما أفاد به أحد الحراس، بسبب انعدام معايير السلامة وعدم استجابة هذا الفضاء للتصاميم المعمول بها عالميا. فرغم أن هذه الرياضة تجتذب الكثير من الشباب والمراهقين المغاربة لتحرير طاقاتهم الكامنة وملء أوقات الفراغ ولمَ لا محاولة المشاركة في المسابقات الوطنية أو العالمية إلا أن هذا الفضاء تظهر عليه وحتى للأعين غير المتمرسة في هذا النوع من الألعاب، العشوائية في البناء والسرعة المفرطة في الإنجاز بمنطق الاقتصاد في التكاليف على حساب معايير السلامة والجودة، وعدم إسناد بنائه للعارفين بتقنيات بناء مثل هذه الفضاءات، مما جعل المكان غير مؤهل لاستقبال هذه الأعداد الكبيرة من الزوار بشكل آمن، وهذا الإهمال في التصميم والتركيب أدى إلى زيادة المخاطر، سواء من حيث تراكم الحواجز غير المدروسة أو الأسطح غير المستوية أو الزوايا الحادة الناتئة، التي تعرض الأطفال والمراهقين للإصابات الجسدية اليومية المتفاوتة الخطورة…

خيبة أمل الجمعويين 

في حديثنا مع أحمد الصويري، الفاعل الجمعوي وعضو «جمعية تنشيط الهضبة»، وهو من المهتمين بالألعاب الحضرية حيث يدرب مجموعة من الشباب والأطفال على هذا النوع من الألعاب، عبر عن خيبة أمله مما أنجز على أرضية هضبة سيدي مومن وقال: «بكل أسف، نرفع صوتنا اليوم كمواطنين وفاعلين جمعويين من قلب مدينة الدار البيضاء، لنُعبّر عن خيبة أملنا تجاه ما أُنجز على أرض هضبة سيدي مومن تحت اسم «سكيت بارك». المشروع الذي كان من المفروض أن يكون فضاء رياضيا آمنا ومحترما لشباب المنطقة، تحوّل إلى منشأة مليئة بالأخطاء التقنية والعيوب الهيكلية، تُهدد سلامة الأطفال والشباب قبل أي شيء آخر.» مطالبا بفتح تحقيق نزيه، وتحديد المسؤوليات، وتصحيح هذا العبث الذي يُسيء لصورة المدينة وثقة الساكنة في مؤسساتها. «الدار البيضاء تستحق الأفضل، يقول المتحدث، وشباب سيدي مومن من حقهم فضاءات رياضية لائقة وآمنة.»
من جهته، عبر أحد الشباب المرتادين للفضاء، والذي يبدو الأكثر خبرة وسط أقرانه في ممارسة هذه الرياضات الحضرية التي أصبحت تنتشر بشكل كبير في أوساط الشباب والمراهقين، عن أسفه قائلاً: « واخّا كنبغيو السكيت، ولكن كنعيشو الخطر كل نهار، هاذ الـ Skatepark ما فيه حتى معيار ديال السلامة، الأرضية معوّجة، كاينة بزاف ديال الحواشي اللي تقدر تعرضنا للخطر، وحتى الصيانة ما كايناش، ولكن ما عندناش فين نمشيو، هاذا هو المكان الوحيد اللي كنفرّغو فيه الطّاقة ديالنا».
حسب الهيئات الدولية مثل World Skate وSkatepark Association of the USA، فبناء «سكيت بارك» لا يتم عشوائيا، إذ يجب احترام قواعد دقيقة في التصميم مثل السطوح التي يجب أن تُصمم بانحدارات مدروسة لتفادي الحوادث، المواد المستعملة يجب أن تكون مقاومة للصدمات وغير زلقة كما أن وجود مراقبة مستمرة، وصيانة دورية، شرط أساسي لتفادي إصابات خطيرة، لكن كل هذه المعايير غائبة في حلبة تزلج سيدي مومن…وفي ضوء المعايير الدولية المعتمدة من طرف هيئات مثل World Skate وASTM International، يتبيّن أن مشروع Skatepark سيدي مومن في حاجة ماسة إلى مراجعة شاملة تراعي جودة التصميم، سلامة المستخدمين، واستدامة البنية. فالتجارب العالمية، تُظهر أن ملاعب التزلج يمكن أن تُصمَّم بذكاء لتدمج بين الجمالية، الوظيفة، والأمان. لذلك، فإن الالتزام بتوصيات مثل تحسين المواد، التخطيط المتوازن، وبرامج الصيانة، مع إشراك الجمعويين والشباب الممارس لهذه الألعاب، يشكل السبيل الأمثل لضمان فضاء حضري ناجح وآمن، يستجيب لطموحات الشباب ويقيهم من الحوادث الخطيرة التي يتعرضون لها كل يوم…

حديقة أم مشروع منسي؟

ما رأيناه على الأرض يُنبئ بأن الحديقة، رغم جمال الفكرة، تُركت لمصيرها بعد التدشين. لا عمال صيانة، لا حضور بلدي دائم، ولا آليات مراقبة جودة الخدمات، «ربما، يقول أحد الفاعلين المحليين، المشكل ماشي فالمشروع، ولكن فالعقلية اللي كتعتبر أن كلشي كي سالا يوم التدشين.»
لقد شكل مشروع سيدي مومن فرصة مهمة لتوفير فضاءات حضرية آمنة ومتكاملة لفائدة الشباب والمجتمع المحلي. كما أن نجاحه، إلى جانب المشروع الآخر الذي يتم إعداده حاليا والمتعلق بمطرح مديونة الذي تعمل سلطات البيضاء على تحويله إلى حديقة عمومية، بغلاف مالي بلغ 57 مليون درهم لإعادة التأهيل و50 مليون درهم سنويا للاستغلال، يتطلب تدارك عدد من النقائص عبر تبني توصيات واضحة، في مقدمتها ضرورة إعادة تقييم التصميم من خلال إشراك خبراء ومستخدمين من الساكنة المحلية لضمان تلبية الحاجيات الواقعية، إلى جانب تحسين جودة المواد المستعملة لضمان السلامة والمتانة مع ضرورة إرساء برامج صيانة دورية تحافظ على جودة المرافق وتجعلها صالحة للاستعمال على المدى البعيد. وفي السياق ذاته، فإن إشراك المجتمع المحلي في مختلف مراحل التخطيط والتنفيذ يبقى عنصرا حاسما لتحقيق استدامة المشروع وتعزيز روح الانتماء والمسؤولية الجماعية.

الهضبة الخضراء التي تفقد خضرتها..
امتحان حقيقي لكيفية تدبير المرافق العمومية

«الهضبة الخضراء» في سيدي مومن ليست فقط حديقة، بل امتحانا حقيقيا لكيفية تدبير المرافق العمومية في المغرب. فهل ستُترك هذه المساحة للذبول والنسيان كما حدث مع مشاريع أخرى كثيرة؟ أم أن الجهات المسؤولة ستحرص على إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وتعيد للحديقة بريقها، وتحول الحلم البيئي إلى واقع مستدام؟ في الانتظار، لا تزال ابتسامات الأطفال، وصرخاتهم الطفولية وهم يلعبون وسط الأخطار، تذكرنا بأن اللعب والراحة ليس ترفا، بل حقا إنسانيا، يجب أن يصان كل يوم، لا فقط يوم التدشين !


الكاتب : روبورطاج من سيدي مومن إعداد: خديجة مشتري تصوير : هيثم رغيب

  

بتاريخ : 14/05/2025